الحرب والأحداث العاصفة التي تشهدها سوريا منذ أربع سنوات والمأساة الأكبر التي تعيشها مدينة حلب، وهي العاصمة الاقتصادية لسوريا، جعلت حرفيي المدينة يهجرونها أو يتخلون عن حرفهم التي لم تعد تؤمن لهم مفردات عيشهم اليومي، والتوجه لأعمال أخرى، ومن هؤلاء العاملين في تصنيع وتصميم التحف والمجوهرات الفضية.
تعتبر الفضة من المعادن النفيسة التي تصنّع منها الكثير من المجوهرات والأدوات المنزلية والسبحات وغير ذلك، وهناك الكثير من الطرق التي يتعامل معها مصنعوها ومصممو نماذجها لإنتاجها بشكل جميل ومتقن ولعلّ أبرزها هنا طريقة تقليدية يدوية تسمى «كسر الجفت» والتي تخصص بها عدد من حرفيي مدينة حلب شمال سوريا منذ مئات السنين وتوارثوها أبًا عن جد وكان في مقدّمة هؤلاء الحرفيون الأرمن الذين عملوا على تطوير النماذج وجعلها أكثر جذبًا وحيوية.
يروي أنطوني هايربيديان الشاب الحلبي الثلاثيني ذو الجذور الأرمنية حكايته وحكاية زملائه مع حرفتهم العريقة وكيف فعلت الحرب فعلتها بهم. إذ يقول لـ«الشرق الأوسط»: ورثت الحرفة كغيري من العاملين في تصنيع وتصميم فضيّات كسر الجفت عن أسرتي التي تعمل بها منذ عشرات السنين، قبل بدء الأحداث السورية كان في حلب 20 ورشة تعمل في مجال كسر الجفت، تضم المصممين والمصنعين والحرفيين والمسوقين، وكان لمنتجاتنا ورغم ارتفاع أسعارها كونها عملا يدويا ومصنّعة من معدن الفضة الخالص زبائنها من سياح يزورون حلب ومن أثرياء وميسوري المدينة ومن القنصليات الأجنبية العاملة في حلب ومن الجمعيات والمؤسسات الحكومية والأهلية التي تطلب منّا تصاميم متنوعة من الفضة بطريقة كسر الجفت لتوزعها على أعضائها أو كهدايا في المناسبات الاجتماعية وغير ذلك.
«الآن»، يتنهد أنطوني: «لم يبق من العشرين ورشة سوى ورشتين فقط؟!.. المهنة التراثية تتجه للانقراض». تكاد عينا أنطوني تغرورقان بالدمع. «لقد ترك الجميع هذه المهنة وسافروا إلى بلدان كثيرة. وللأسف الكثير منهم لم يعد يعمل بمهنته أي كسر الجفت في بلدان الاغتراب والنزوح والهجرة»، مضيفا: «في تواصلي الدائم معهم يخبرونني أنهم يعملون في مهن أخرى فهم مضطرون لذلك لأنه لا سوق لفضيّاتهم ولا مجال للعمل بها في تلك الدول. البعض بات يعمل على بسطات الأرصفة في تلك الدول ليؤمن لقمة العيش لأسرهم بعدما كان (ملكًا) في مهنته بالفضيّات في مدينة حلب حيث كانت تقدّم له مردودًا ماديا جيدًا وتحقق له الراحة المادية».
ولكن ما هي هذه المهنة؟ يشرح أنطوني أن كسر الجفت صناعة يدوية حلبية بامتياز وتوارثناها أبًا عن جد والبداية كانت من أرمينيا ومن ثم انتقلنا لحلب واستطعنا كجيل شاب جديد يعمل بها أن نطوّرها من خلال أفكار جديدة أعطت تصاميم حديثة بأيدٍ سورية حلبية.
لكن جاءت الأحداث لتوقف التطوير بل المهنة كلّها مهددة بالضياع، وحول مراحل العمل فيها يوضح أنطوني أنه يأتي بالفضة الخام والتي تكون قاسية قليلاً فنعمل على تطريتها بقليل جدًا من النحاس لتعطينا السهولة في التعامل معها. بعد ذلك تذاب الفضة وتتحول لقطع ليتم سحبها لتتحول لخيوط ناعمة ولقطع صغيرة جدًا وبواسطة ملقط يسمى (الجفت) ـ من هنا أخذت الحرفة اسمها منه. تضع القطع الصغيرة من الفضة في مكانها المناسب وبعد ذلك يتم توصيلها باللاحم وتجمع ببعضها وتصمم في نماذج وتكون عادة من التراث.
وفي المرحلة النهائية هناك (التلميع) فالفضة الخام يكون لونها أسود يتم تبييضها لتأخذ لون الفضة الأساسي وهو البياض الناصع، وتوضع النماذج فيما بعد في علب خشبية أو من الزجاج أو البلاستيك الشفاف لتحافظ على لمعانها وبياضها لفترات زمنية طويلة حتى لا تتأكسد الفضة بسبب العوامل المناخية.
العمل في كسر الجفت صعب جدًا ـ يقول أنطوني ـ ويحتاج لإنتاج أي نموذج منها لجهد وصبر وبال طويل وتقانة وعين قوية وانتباه شديد لكي يضع الحرفي القطعة الصغيرة جدًا في مكانها المناسب دون أن تؤذي القطعة المجاورة لها. فالعامل هنا يضع روحه فيها ولذلك النموذج الواحد وحسب نوعه وحجمه قد يستغرق لتصنيعه ما بين عشرة أيام للخواتم والأساور وحمالات مفاتيح وحتى 50 يومًا لنماذج كبيرة مثل الصواني والكؤوس والعربات التي تجرها الخيول وغير ذلك.
النماذج التي تقدّمها أنت في الورشات متنوعة وكثيرة وجميعها عليها بصمة المصمم. بعض النماذج تأتي على شكل طاووس. «وقد استفدت من أشكال كثيرة له ولكن أضفت عليه خصوصيتي وهي الأحجار الملونة ليأخذ رونقًا جميلاً ولمعانًا برّاقًا. وأضفت له (المينا) وهي صبغة ملونة تعطي جمالية إضافية للطاووس. لقد استغرق العمل لإنهائه أسبوعين رغم أنّ حجمه صغير نسبيًا».
هناك تصاميم أخرى من التراث الحلبي والسوري بشكل عام ومنها العود وعازف العود الحلبي بلباسه التقليدي حيث الطربوش على رأسه، وراقص المولوية، والصواني مع الكؤوس والسبحات وعربة ساندريللا حيث صممت مقاعد العربة بشكل دائري وسلل ضيافة، وسفن وحمالات مفاتيح بنماذج مختلفة وبعضها كتب عليه لفظ الجلالة بشكل متقن وجميل ومتميز، ونماذج عليها أسماء وأحرف حسب الطلب مصممة بالخط الكوفي بعد رسمها، وتضاف إليها أحجار كريمة مركبة بشكل متقن، والمجوهرات والحلي وهي بنماذج وأشكال كثيرة مثل الخواتم وأقراط الأذن وأطواق العنق والأساور.
انخفاض عدد العاملين في مجال تصنيع المجوهرات الفضية السورية
انخفض عدد الورش التراثية الحلبية من 20 إلى ورشتين فقط
انخفاض عدد العاملين في مجال تصنيع المجوهرات الفضية السورية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة