الحرب الأوكرانية وسوريا... فرص القوى الخارجية وتحدياتها

صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)
صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)
TT

الحرب الأوكرانية وسوريا... فرص القوى الخارجية وتحدياتها

صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)
صورتان مدمجتان. الأولى لآثار القصف في كييف في 14 مارس الماضي، والثانية للدمار في حلب شمال سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2016 (غيتي)

أسفرت الآثار المباشرة للحرب في أوكرانيا عن تفاقم الأوضاع الإنسانية العسيرة بالفعل في سوريا. فالعنف الذي طال أمده في أوكرانيا وتحول إلى مواجهة كبرى بين حلف «الناتو» وروسيا، من شأنه تعريض التعاون متعدد الأطراف بشأن إدارة الصراع في سوريا وحل الأزمات والقضايا الإنسانية في هذا البلد، لمخاطر شديدة. كما أن النزاع الذي طال أمده في أوكرانيا، يمكنه تعطيل الوضع الراهن المتقلب في سوريا، ما قد يعرض اتفاقات وقف إطلاق النار للخطر، ويحول ميزان القوى لصالح إيران، وبالتالي يزيد من خطر التصعيد العسكري بين إيران وخصومها، ويعقّد المعركة ضد «تنظيم داعش»، ويعرض عمليات إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود للخطر.
العمليات العسكرية واسعة النطاق في سوريا، تقلصت إلى حد كبير على مدى السنوات القليلة الماضية، إلا أن الاستقرار يبقى هشاً. وقد شهد حل الصراع جموداً مطولاً، فهناك 5 دول أجنبية، فضلاً عن أن عدداً كبيراً من الميليشيات المحلية والأجنبية، لها وجود عسكري على الأرض. وأنشأت كل من روسيا وتركيا والولايات المتحدة وإيران مناطق للنفوذ، لا تزال حدودها موضع نزاع.
«الشرق الأوسط» تنشر ملخصاً لترجمة خاصة من تقرير «المعهد الألماني للدراسات الأمنية والدولية» عن آثار الحرب الأوكرانية على سوريا...
شعرت سوريا على الفور بآثار الحرب في أوكرانيا. وقد أدى ذلك إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية المزرية بالفعل في تلك البلاد، ذات الدخل المتوسط، الأدنى سابقاً. وكان الاقتصاد السوري قد انهار بفعل أضرار الحرب، والنزوح على نطاق واسع، وسوء الإدارة، والعقوبات، وفيروس كورونا، وتداعيات الانهيار المالي في لبنان.
حتى قبل الحرب في أوكرانيا، كان 90 في المائة من سكان سوريا يعيشون في فقر، وكان ثلثاهم يعتمدون على المساعدات الإنسانية، و55 في المائة منهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2021 حذرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة من خطر المجاعة، على خلفية الجفاف الشديد والانخفاض الحاد في محصول القمح في سوريا.
وأعلنت روسيا نهاية 2021 أنها لن تقوم بإيصال القمح إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، والتي كان من المفترض أن تسد الفجوة الغذائية. ومن المرجح أيضاً أن تعاني منطقة شمال غربي سوريا من نقص مماثل، لأنها تشتري القمح من أوكرانيا وروسيا، فضلاً عن تركيا؛ حيث تأثر الإنتاج بسبب الجفاف.
بالإضافة إلى ذلك، فإن برنامج الغذاء العالمي، الذي يعتمد إلى حد كبير على الإنتاج الأوكراني، من المتوقع أن يتعرض لضغوط بسبب فقدان الإمدادات، وارتفاع أسعار الأغذية، وزيادة عدد الأشخاص المحتاجين في جميع أنحاء العالم. وابتداء من مايو (أيار) الحالي، سيضطر البرنامج إلى خفض المساعدات الغذائية المنقذة للحياة إلى نحو 1.35 مليون شخص في شمال غربي سوريا.
وفي حين اعتمد النظام السوري تدابير تقشفية، مثل الترشيد ومراقبة الأسعار وقيود التصدير، فإنه لم ينجح في منع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة.

صورتان مدمجتان... الأولى في 12 مارس 2022 تظهر الدمار في أحياء مدينة خاركيف بأوكرانيا، والثانية في 10 أغسطس (آب) 2014 وتظهر حطام المباني في حلب شمال سوريا (غيتي)
في المقابل، يبدو أن الآثار المباشرة للحرب في أوكرانيا على التفاعلات الجيوسياسية في سوريا كانت محدودة حتى الآن. فقد فصلت القوى الخارجية الرئيسية، التي لها وجود عسكري على الأرض في سوريا، تعاونها عن التوترات بشأن أوكرانيا، فاتفاقات «فك الاشتباك» العسكري بين روسيا والولايات المتحدة، فضلاً عن روسيا وإسرائيل، لا تزال مستمرة، وهناك دوريات روسية تركية مشتركة في شمال سوريا، بناء على ترتيبات وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في مارس (آذار) 2020. ولا تزال تُجرى محادثات غير رسمية بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة وأوروبا بشأن وصول المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا. وفي الوقت نفسه، كانت العلاقات الإسرائيلية - الإيرانية متوترة منذ مقتل اثنين من ضباط «الحرس الإيراني» في سوريا، أوائل مارس 2022، وقد أدى ذلك إلى شن إيران هجمات على أهداف مرتبطة بإسرائيل في العراق، فضلاً عن الغارات الجوية الإسرائيلية على أهداف مرتبطة بإيران في سوريا.
ورغم ذلك، بدأت بعض الجهات، وخصوصاً روسيا وإيران، تكييف وجودها في سوريا. وبناء عليه، فإن سوريا لن تخرج بلا أضرار بالضرورة، حتى لو انتهت الحرب في أوكرانيا عاجلاً، وليس آجلاً. وفي حين أنه من المتوقع أن تظل المصالح العامة للجهات الخارجية المهيمنة بلا تغيير، فمن المرجح أن تتأثر مساعيهم ونهجهم وقدراتهم، ما يدفع إلى مزيد من التكيفات والمجازفة بتجدد وتصاعد التوترات في سوريا. وسوف يعتمد مدى هذه التغيرات على مدة وتطور الصراع في أوكرانيا، وتصاعده المحتمل إلى صراع أوسع بين حلف «الناتو» وروسيا.
من عامل استقرار إلى مُعرقل
تؤثر الحرب ضد أوكرانيا بشكل مباشر على القدرات المتاحة لروسيا للتدخل في سوريا. فضلاً عن ذلك، فقد بات بوسعنا أن نلحظ بالفعل تحولاً في أولويات السياسة الخارجية الروسية. وسيعتمد تأثير ذلك على المصالح المحددة لروسيا في الصراع السوري، على مدة ومسار الصراع في أوكرانيا وخارجها.
وفي الوقت نفسه، لا يملك الكرملين ترف رؤية فشل سياسته في سوريا. لقد أصبحت العملية العسكرية في سوريا رمزاً كبيراً جداً لطموح روسيا بالعودة إلى عرش القوة العظمى. وبالتالي، تواجه روسيا الآن التحدي المتمثل بتأمين موقعها في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بقدرات محدودة. ولدى روسيا مصلحة استراتيجية في الحفاظ على قواعدها الجوية والبحرية في سوريا، فهذه القواعد تدعم استعداد روسيا العسكري في شرق البحر المتوسط. الأمر الذي يصبح أكثر أهمية في خضم المواجهة المتزايدة مع الولايات المتحدة وحلف «الناتو».
ولا يهدد غزو روسيا لأوكرانيا بتقويض مكانتها العسكرية الرسمية في سوريا بشكل كبير على المدى القصير، لأن هذا الوجود يتمحور بشكل أساسي حول قوات الدفاع الجوي والشرطة العسكرية، بدلاً من القوات البرية الكبيرة التي يبلغ عددها نحو 4 آلاف جندي فقط وفقاً لتقرير التوازن العسكري لسنة 2022 الصادر عن «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية».
ومع ذلك، قد يكون للحرب في أوكرانيا تأثير أكبر على نشر روسيا لقوات مسلحة غير نظامية. فمن أجل سد الفجوات في الجبهة الأوكرانية، قد تجد روسيا أنه من المفيد إرسال شركات عسكرية خاصة و«متطوعين» من سوريا إلى أوكرانيا، ما قد يقوض القوة الضاربة التي تتمتع بها القوات المسلحة السورية. كما أن إغلاق تركيا لطريق الشحن عبر مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن العسكرية من موانئ البحر الأسود في روسيا وإليها، من المرجح أن يزيد المشكلات ويكبد موسكو تكاليف إضافية. وعلى وجه التحديد، سوف يكون من الضروري إلى حدٍ كبير إرسال التعزيزات والإمدادات للقوات الروسية في سوريا عن طريق الجو.
وعلى المدى المتوسط، سيكون لتدهور القدرات الاقتصادية الروسية الناجم عن العقوبات تأثير أيضاً على سياستها تجاه سوريا. ومن المرجح تضاؤل القدرة الروسية على المشاركة في إعادة إعمار سوريا والتأثير على تنميتها الاقتصادية.
وعلى المدى القصير على الأقل، من المرجح أن تتجنب موسكو الخطوات التي قد تؤدي إلى اندلاع مواجهات مسلحة كبيرة في سوريا، لأن هذا يهدد بتوسيع نطاق عمل القوات الروسية. ومع ذلك، وعلى خلفية المواجهة الروسية - الغربية، لا تزال هناك حاجة لأن تستغل موسكو إمكاناتها المعرقلة فيما يتصل بسوريا، على سبيل المثال ما يتعلق بالوصول إلى المساعدات الإنسانية أو فك الارتباط العسكري جزئياً.
التفاعلات الجيوسياسية
ومن المرجح أن يكون للعنف الذي طال أمده في أوكرانيا، أو تصعيد الحرب في أوكرانيا وتحولها إلى مواجهة أكبر بين حلف «الناتو» وروسيا، تأثير على مجريات الصراع في سوريا بما يتجاوز قدرة الجهات الفاعلة الخارجية على التكيف.
وفيما يتعلق بوضع روسيا ونهجها في سوريا، هناك 3 مسارات معقولة...
- أولاً، قد تضطر موسكو إلى تقليص وجودها العسكري والحد من اهتمامها ومواردها التي تنفقها في سوريا. وفي هذا السياق، قد لا تعيق روسيا توسيع النفوذ الإيراني على البنية التحتية العسكرية - الأمنية السورية والأنشطة الاقتصادية بعد الحرب، طالما يتم مراعاة مصالح موسكو الاستراتيجية في الحفاظ على الهيمنة على موانئ اللاذقية وطرطوس على البحر المتوسط. وقد تصبح رغبة طهران الأخيرة في طرد الولايات المتحدة من سوريا أكثر قبولاً لموسكو. وبالتالي، فإن مثل هذا التطور يمكن أن يغير ميزان القوى في سوريا لصالح إيران.
- ثانياً، إذا اضطرت روسيا لنقل أصولها الجوية من سوريا إلى أوكرانيا، فقد يكون لذلك تأثير سلبي على الجهود الروسية (وجهود النظام السوري) لاحتواء «تنظيم داعش» في البادية السورية، فضلاً عن المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة النظام. وحتى الآن، استُخدم العتاد الجوي، ولا سيما المروحيات الهجومية، لمنع ظهور «داعش» مجدداً في هذه المناطق. ومع ذلك، هناك مخاوف متزايدة من أن تشكل عودة التنظيم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تهديداً حقيقياً في الفترة المقبلة. ويمكن أن تتفاقم المشكلة إذا ما تم نشر الجنود السوريين والميليشيات الموالية للنظام في أوكرانيا بأعداد كبيرة، لأن هذا من شأنه تقويض القوة الضاربة للقوات المسلحة السورية. ووفقاً للاستخبارات العسكرية الأوكرانية، سجل أكثر من 40 ألف مقاتل سوري أسماءهم للانتشار في أوكرانيا بحلول منتصف مارس 2022، بمن فيهم جنود من القوات المسلحة السورية. ولم يصل إلى روسيا للتدريب سوى بضع مئات من المقاتلين من سوريا حتى نهاية الشهر ذاته. ولم يتم نشر أي منهم في أوكرانيا حتى الآن.
- ثالثاً، في حين تسعى موسكو للحفاظ على الوضع الراهن في سوريا في الوقت الحالي، على خلفية تهديد مفترض لأمن نظامها، قد يغير الكرملين جذرياً منهجه في سوريا ويستغل إمكاناته المُعرقلة. ومن الممكن أن يحدث هذا بهدف إرغام بلدان حلف «الناتو»، بما في ذلك تركيا، على تقديم تنازلات فيما يتصل بأوكرانيا، أو ربما لمجرد صرف الانتباه بعيداً عنها. بعبارات محددة، قد يُنفذ هذا السيناريو من قبل روسيا التي تعمل على تعقيد أو تعطيل عمليات مكافحة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة في المناطق الخاضعة لسيطرتها، أو تنخرط في مواجهات خطيرة مع الطائرات الأميركية في الأجواء السورية، أو تقدم على إجراءات عدائية ضد السفن الحربية الغربية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
إيران وملء الفراغ
بدأت إيران، الشريك الأقرب لروسيا في دعم نظام الأسد، في تكييف سياستها إزاء سوريا مع الظروف المتغيرة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا. ويبدو أن طهران تنظر إلى تركيز موسكو على أوكرانيا كفرصة سانحة لزيادة نفوذها في سوريا، من الناحيتين الكمية والنوعية. ومنذ بداية الحرب الأوكرانية، كان هناك اتجاه متزايد بين القوات الإيرانية وتلك المدعومة من إيران لتوسيع أنشطتها في شمال شرقي سوريا (يبلغ عدد القوات الإيرانية الآن نحو 1500 جندي وفقاً لتقرير التوازنات العسكرية لسنة 2022). وفي هذا السياق، رفعت هذه القوات من مستويات وجودها في الحسكة. وفي الماضي، كان الدور المهيمن لروسيا في المنطقة يحدّ من نطاق أنشطة إيران. ومن شأن توسيع نطاق السيطرة على منطقة الحسكة، القريبة من المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة، أن يقرب إيران خطوة أخرى من هدفها الراسخ، المتمثل في الضغط على واشنطن للانسحاب من سوريا. وفي الوقت نفسه، تشير بعض التقارير إلى أن إيران زودت قواتها الوكيلة في أجزاء مختلفة من سوريا بأسلحة عالية الجودة، بما في ذلك الأسلحة المضادة للدروع. والسبب الرسمي وراء هذا التسليح هو الحاجة إلى التمكن من محاربة أنشطة «داعش» المتجددة. ومع ذلك، وكما هو الحال في الحسكة، يشير قرار إيران بإعادة تنشيط قواتها الحليفة والوكيلة في مناطق شاسعة من محافظتي حمص ودير الزور، إلى رغبتها في توسيع نطاقها الجغرافي، وربما استبدال الوجود الروسي في أكبر عدد ممكن من المناطق في سوريا.
في هذا السياق، وفي أوائل أبريل (نيسان)، عززت القوات الإيرانية، إلى جانب «حزب الله» اللبناني، والفرقة الرابعة في الجيش السوري الموالية لإيران، من وجودها في مستودع «مهين» العسكري في شرق حمص، وذلك بعد انسحاب القوات الروسية والمدعومة من روسيا.
وتتصاحب هذه التفاعلات على الأرض بتجدد النشاط السياسي والدبلوماسي الإيراني في سوريا. ففي 27 فبراير (شباط)، زار مدير الأمن الوطني السوري، علي مملوك، طهران للاجتماع بكبار المسؤولين الإيرانيين. وبعد شهر واحد، في 23 مارس، زار وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، سوريا. وسعت الزيارات الدبلوماسية، بالإضافة إلى طمأنة الأسد حول الدعم الإيراني المستمر، إلى المساعدة في توسيع دور إيران الاقتصادي في البلاد. وخلال السنوات الأخيرة، صارت طهران تنظر إلى موسكو من زاوية المنافس الاقتصادي في سوريا. وربما تأمل إيران في أن تتيح التحديات الاقتصادية التي تواجهها روسيا، إثر العقوبات الغربية عليها من جهة، وإمكانية رفع العقوبات المفروضة على إيران مع استعادة الاتفاق النووي لسنة 2015 من جهة أخرى، لطهران مجالاً أكبر للمناورة في اقتصاد ما بعد الحرب السورية.
أميركا... والحذر من «داعش»
تظل مصالح الولايات المتحدة وقدراتها في سوريا بلا تغيير، إلى حد كبير، بفعل الحرب في أوكرانيا، على الأمدين القريب والمتوسط. لكن أولوياتها، ولا سيما ما يتعلق بالشواغل الإنسانية، قد تتحول استناداً إلى مسار الصراع الأوكراني الراهن. وإذا طال أمد الصراع في أوكرانيا، أو ما هو أسوأ، إذا توسع نطاقه إلى ما هو أبعد من الحدود الأوكرانية، فلا يمكننا استبعاد التوترات العسكرية المتصاعدة بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا.
وتواصل الولايات المتحدة التركيز على ضمان الهزيمة الدائمة لـ«تنظيم داعش»، والمحافظة على وقف إطلاق النار الحالي في كل من شمال شرقي سوريا وشمالها الغربي، والحفاظ على وصول المساعدات الإنسانية، إن لم يكن توسيعها، وضمان المساءلة القانونية عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري، والتحقق من التوصل إلى حل سياسي للنزاع بموجب قرار مجلس الأمن 2254، ديسمبر (كانون الأول) 2015، والتحسب للنفوذ الإيراني داخل سوريا.
ولن تتأثر أدوات الولايات المتحدة لمتابعة هذه الأولويات بالغزو الروسي لأوكرانيا. وسوف تحتفظ الولايات المتحدة بوجودها المحدود في البلاد (نحو 900 جندي وفقاً لتقرير التوازنات العسكرية لسنة 2022 الصادر عن «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية») في المستقبل المنظور. وسيستمر تمويل أنشطة تحقيق الاستقرار في شمال شرقي سوريا إن لم يكن سيرتفع، تبعاً لميزانية الولايات المتحدة، وستظل العقوبات، ولا سيما ما يُسمى بعقوبات «قانون قيصر»، أداة رئيسية في صندوق أدوات الولايات المتحدة، المقترن الآن مع العقوبات الواسعة على روسيا، ويمكن أن يزداد تأثيرها، ولا سيما ما يتعلق بالتطبيع وإعادة الإعمار في سوريا. وستستمر الجهود المبذولة للتخفيف من الآثار غير المقصودة للعقوبات عن طريق إصدار التراخيص العامة.
إنسانياً، لا بد أن تظل المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لسوريا مستقرة، لكن نقص التمويل الدولي قد يتحول إلى قضية تعتمد على حجم الاستجابة للأزمة الأوكرانية. وقد يكون تجديد القرار الدولي 2585، يوليو (تموز) 2021، الذي ينص على تقديم مساعدات دولية إلى مناطق خارج سيطرة النظام في سوريا عبر معبر باب الهوى الحدودي (بين إدلب وتركيا)، وهو أولوية أميركية رئيسية في سوريا، في خطر. وهذا الأمر مرهون بالموقف الروسي من القرار. وسوف تعطي الولايات المتحدة الأولوية لتجديد القرار، المقرر أن ينتهي العمل به في يوليو، مع صياغة خطط للطوارئ في حالة استخدام حق النقض ضده.
وبالنسبة إلى «داعش»، سوف تراقب الولايات المتحدة عن كثب أي عودة للتنظيم في المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام، التي قد يتردد صداها بعد ذلك في شمال شرقي سوريا. وفي حال تدهورت قدرات روسيا في مكافحة «تنظيم داعش» بسبب تحول موسكو نحو أوكرانيا، يمكن أن تتعزز قدرة التنظيم في البادية، أي المنطقة الصحراوية الوسطى في سوريا، وربما تتعزز قدرته على شن هجمات على مراكز الاحتجاز ومخيمات النزوح في شمال شرقي سوريا الخاضعة لسيطرة الأكراد. وقد تؤدي إعادة تنظيم صفوف «داعش» بشكل كبير في سوريا إلى إعادة الولايات المتحدة النظر في استراتيجيتها وموقفها في مكافحة التنظيم. وسوف تسعى الولايات المتحدة، أيضاً، إلى الحفاظ على قدرتها على ضرب «تنظيم القاعدة» والجماعات المتطرفة الأخرى في شمال غربي سوريا، وقد يصبح الوضع أكثر تعقيداً إذا تعثرت قنوات تجنب التصادم الجوي مع روسيا.
تركيا على حبل مشدود
لن تغير حرب أوكرانيا الأهداف التركية الرئيسية في سوريا. والوجود العسكري التركي، ومشاركته الإدارية، وبنيته التحتية في شمال سوريا، يخدم 3 أهداف رئيسية...
(1) منع الحكم الذاتي للأكراد بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية الشعب».
(2) منع تدفق موجات جديدة من اللاجئين إلى تركيا.
(3) إعادة اللاجئين السوريين المقيمين راهناً في تركيا.
وفي أعقاب الحرب، احتفظت أنقرة حتى الآن برهاناتها، وحمت مصالحها الاقتصادية والأمنية. وتحاول القيادة التركية بعناية عدم استعداء روسيا، في الوقت الذي تعارض فيه تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا. ومن المرجح أن تزداد الضغوط على تركيا لمواءمة موقفها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالعقوبات، وإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية إذا ما اتخذت الحرب مساراً مستداماً، ما يزيد من احتمال حدوث مواجهة بين تركيا وروسيا، ويعرض اتفاقات وقف إطلاق النار التي أبرمت في مارس 2020 في شمال سوريا للخطر.
وفي هذا السياق، فإن الوضع الهش في إدلب، الذي يعرض حياة القوات التركية على الأرض للخطر بشكل مباشر (نحو 3000 جندي، إضافة إلى وحدة للدرك، وفقاً لتقرير التوازنات العسكرية لسنة 2022)، سوف يشكل تحدياً خاصاً. وتكمن الأولوية العاجلة لأنقرة في تجنب انهيار ترتيبات وقف إطلاق النار. ومن هذا المنطلق، تودّ تركيا بشكل خاص تجنب هجوم النظام في إدلب، لأن هذا يقتضي موجة أخرى من اللجوء إلى تركيا.
وتركيا عرضة أيضاً للتأثيرات الاقتصادية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا. فروسيا هي أحد أكبر الشركاء التجاريين لتركيا في الواردات، وأحد موردي الغاز الرئيسيين لها. كما تتوقع تركيا انخفاضاً في العائدات السياحية، ونقص العرض في واردات الحبوب من روسيا وأوكرانيا. وحتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، تسببت الأزمة الاقتصادية التركية المتفاقمة في جعل تبرير التكاليف الاقتصادية لسياستها في سوريا أكثر صعوبة. علاوة على ذلك، ستضيف التداعيات الإنسانية للحرب في أوكرانيا عبئاً اقتصادياً على تركيا في شمال غربي سوريا. وبالتالي، فإن استمرار المساعدات عبر الحدود يشكل أولوية ملحة بالنسبة لتركيا، أكثر من أي وقت مضى.
حسابات معقدة
تتصور أنقرة أن الحرب في أوكرانيا سوف يطول أمدها. ونتيجة لذلك، فإن المواجهة المتصاعدة بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا قد تصب في مصلحتها لسببين رئيسيين...
- أولاً، يمكن أن يؤدي إضعاف موقف روسيا العسكري في سوريا إلى فتح آفاق دبلوماسية جديدة. كما أن إغلاق تركيا لمضيقي البوسفور والدردنيل أمام جميع السفن الحربية (بموجب اتفاقية «مونترو» لسنة 1936) قد يؤثر سلباً على الوجود الروسي في سوريا في حال امتد أمد الحرب.
- ثانياً، أي تفاهم بين روسيا والولايات المتحدة بشأن مستقبل سوريا يصبح أقل احتمالاً مع تزايد التوترات بشأن أوكرانيا، ما يُبدد المخاوف التركية بشأن الاعتراف بالحقوق الكردية أو الحكم الذاتي الكردي في سوريا.
فضلاً عن ذلك، يرى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن تجدد اهتمام القادة الغربيين بتركيا مؤخراً، دليل على تزايد الأهمية الاستراتيجية لتركيا. وبالتالي، فإن الحرب الأوكرانية تصب في جهود أنقرة الرامية إلى إصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا.
في الأثناء ذاتها، ذكرت وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية، أن أنقرة ترى في الغزو الروسي لأوكرانيا فرصة لإصلاح العلاقات مع دمشق. ووفقاً لهذه التقارير، جرى إبلاغ مطالب تركيا الثلاثة (أي الحفاظ على نظام موحد في سوريا، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وضمان سلامة العائدين السوريين) إلى الرئيس الأسد. وإذا صح الأمر، فإنه يشير إلى أن التأثير الدبلوماسي للدول العربية مع الأسد والعودة المحتملة لسوريا إلى جامعة الدول العربية قد يدفع بأنقرة إلى تطبيع العلاقات مع دمشق، بطريقة تحفظ ماء وجه تركيا وإصلاح المشكلات الاقتصادية.


مقالات ذات صلة

أمين الناتو يحذر ترمب من «تهديد خطير» لأميركا إذا دفعت أوكرانيا إلى اتفاق سلام سيئ

أوروبا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته (يمين) والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ف.ب)

أمين الناتو يحذر ترمب من «تهديد خطير» لأميركا إذا دفعت أوكرانيا إلى اتفاق سلام سيئ

حذر الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته في مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز» ترمب من أن الولايات المتحدة ستواجه «تهديداً خطيراً».

«الشرق الأوسط» (لندن )
المشرق العربي أشخاص ورجال إنقاذ سوريون يقفون بالقرب من أنقاض مبنى في موقع غارة جوية على حي في مدينة إدلب التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة في شمال سوريا، 2 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

أوكرانيا تحمّل روسيا وإيران مسؤولية «تدهور الوضع» في سوريا

قالت أوكرانيا، الاثنين، إن روسيا وإيران تتحملان مسؤولية «تدهور الوضع» في سوريا، حيث سيطرت «هيئة تحرير الشام» وفصائل حليفة لها على مساحات واسعة من الأراضي.

«الشرق الأوسط» (كييف)
العالم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي في أثينا 26 أكتوبر 2020 (رويترز)

لافروف يتهم الغرب بالسعي إلى وقف إطلاق النار لإعادة تسليح أوكرانيا

اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الدول الغربية، الاثنين، بالسعي إلى تحقيق وقف لإطلاق النار في أوكرانيا بهدف إعادة تسليح كييف بأسلحة متطورة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كييف في صورة مع أحد الجنود الأوكرانيين الذين أصيبوا في الحرب (د.ب.أ)

شولتس في كييف بعد طول غياب... واتهامات باستغلاله الزيارة لأغراض انتخابية

زار المستشار الألماني أوكرانيا بعد عامين ونصف العام من الغياب وفي وقت تستعد فيه بلاده لانتخاب عامة مبكرة، واتهمته المعارضة باستغلال الزيارة لأغراض انتخابية.

راغدة بهنام (برلين)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس لدى وصوله إلى أوكرانيا (حسابه عبر منصة إكس)

شولتس في زيارة مفاجئة لأوكرانيا... ويعلن عن مساعدات عسكرية جديدة

وصل المستشار الألماني أولاف شولتس إلى أوكرانيا، الاثنين، في زيارة لم تكن معلنة مسبقاً للتأكيد على دعم برلين لكييف في حربها ضد روسيا.

«الشرق الأوسط» (برلين)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.