يستطيع المسلسل السوري «مع وقف التنفيذ» صعود المسرح وتسلم جائزة المسلسل الأفضل. في طريقه، يحق له فلش ابتسامة عريضة على وقع التصفيق. ثلاثية النص والصورة والأداء، تقريباً في القمة، وواقعيته تدق مسماراً في النعش. يحمل الحديد الحامي ويقترب من الجلد الحي. شخوصه مخترقة، تسبح الندوب في ذاكرتها وتتبارى في إعلان الغرق.
نص يسير في جنازة، يكتبه علي وجيه، ويامن الحجلي (متوفر كاملاً عبر «شاهد»). تتسع «حارة العطارين» التي يعود إليها سكانها بعد الحرب، لتشمل أرضاً كاملة لا تصلح للبقاء. من تهجر ليس هو نفسه من يعود ليعيش على الأنقاض. يتجمل المسلسل بفاصلين زمنيين، الأول «قبل الخروج»، وهو ماضي الشخصيات وخلفيتها الاجتماعية، والثاني هو الحياة تحت الصفر. الكاتبان على موعد كل رمضان مع الوجه الآخر للحرب السورية، حيث الداخل مشظى والنفوس تتخذ لون الفحم. نصهما هذه السنة يرش البهارات الحارة في العين.
يتوزع رغيف الخبز على الشخصيات جميعها، فلا يلتهم أحد حصة أحد. الساحة واسعة للتنافس على الأداء الأروع والكل يغنّي على ليلاه. في النهاية سيمفونية درامية عذبة. لا تستخف بطباع البشر وتأثيرها في هيكلية المجتمع. فخلف الجمال والأنوثة، ينقض المكر ليحدد أطراف المواجهة. تتشعب خيوط الشخصيات وتمتدّ «أخطبوطياً». والأذية تبدأ من نقطة لتنتهي بدائرة.
حين اتخذت «جنان العالم» (سلاف فواخرجي) خطأ أعوج لمسار حياتها، استبعدت أن يحرق جمرها جميع أطرافها. الغابة لكل أنواع الحيوانات، حتى للتي تختبئ وراء نعجة. هذه المرة، تخاض حرب قذرة لشراء العقارات بأرخص ثمن. فالبكاءون في الجنائز لا يغيرون إيقاعات النواحي، والمستفيدون من نهش اللحم لا يكتفون بوجبة. تكلف «جنان» أكثر شخصيات المسلسل جدلاً، «فوزان» (عباس النوري)، بإقناع سكان حارته ببيع منازلهم. بدهائه وطلاقة لسانه، ينتزعها منهم، مشاركاً بمخطط إزهاق الوطن.
تجري المناورات في فضاء المدينة المظلم. وحده فادي صبيح بشخصية «هاشم الباري» لا يناور. رأس يابس، خارج رمادية المواقف. يقفز الماضي كلما أوشك الحاضر على التسلل، فيسحب البساط من تحت الأقدام المرتجفة. من لا يزل مسكوناً بجرحه العتيق، لن تشفه عقاقير الزمن الراهن. وجع «عتاب» (صفاء سلطان) يرقص شقيقها «هاشم» على الشكر بكر، قبل المصالحة المنتظرة.
«قبل الخروج»، هو جوهر القصة. تتصاعد المواقف كتقاذف بركاني تفجره النفس الإنسانية. فالذين غادروا «حارة العطارين» يعودون إليها بتركيبة عاطفية أخرى. الوجوه لا تبقى على حالها، فكيف بالقلوب المثقوبة؟ كان يمكن للكاتب «حليم» (غسان مسعود)، أن يكمل حياة «طبيعية» بعد الاعتقال السياسي، لولا أن ذاكرته لا تزال أسيرة المكان الموحش. تخضع شخصيته لتقلبات صادمة، مجهضاً احتمال نجاة «المثقفين» من حبل المشنقة. فمن يسجن لعمله النضالي، سيظل يجرجر جنازيره وراءه، برغبة معذبة في «معاقبة» جلاديه، وإن شمل العقاب أبناءه. تضيق عليه جدرانه القديمة وإن عاش طليقاً مدى الحياة.
ظنت «عتاب» أن تحولها إلى المطربة «درة» سيخفف عنها آلام سنوات الفراق. وحين قررت العودة، استقبلها «هاشم» بـ«عراضة» الملوعين، كأنه يزفها في موكب الجنازة الكبرى. المسلسل «بينغ بونغ»؛ طابة على ما فات وطابة على ما سيأتي. الصافرة للانطلاق، وفجأة يعلق كل شيء.
يحقق «فوزان» حلمه المنتظر، فيصبح مختار «حارة العطارين»، بظاهر يدعي خدمة الناس ورغبات مستترة بتحصيل الوجاهة مع طمع بالغنائم. تهتز تحالفاته الداخلية مع ابنتيه والخارجية مع «جنان» وأعوانها، ومن ثم يعود المعدن إلى أصله. الثابت هو ولاؤه لصفحته «الفيسبوكية». عنوانها «دام عزك يا وطن»، وممارساته على النقيض، غايتها عزه الشخصي وانتفاخ جيبه.
نص وجيه وحجلي، إنتاج «إيبلا الدولية» لا يصطاد في الماء العكر. يضع الأمور في نصابها ويطمئن إلى احتراف كاميرا سيف السبيعي، اللافت في المسلسل بشخصية «صافي». أمامه، تؤكد حلا رجب بشخصية «أوصاف» أن البراعة من نصيبها. توظف لغة الجسد في تكريس حالة درامية فريدة. شقيقتها «بسمة» (ريام كفارنة) شخصية متقنة، تكاد تكون الناجية الوحيدة من «العصفورية» لولا حبها لـ«عزام» المصاب بلعنة ماضيه وفداحة أخطائه.
رفعت الحلقة الأخيرة دور «عزام» إلى مصاف التميز السنوي، الذي يقدمه يامن الحجلي. إفراغه الغضب يصالحه مع نفسه، ومشهد الاقتصاص الأخير يعزز أسهمه. «أبو العون» (بشار إسماعيل) على المقلب المقابل، يتولى التصفية ويخطط لإراقة الدم. اختزالية المترسمل في غابة متفلتة.
لا يعود مصطفى المصطفى بشخصية «سيف» من الأدوار العابرة. خروجه عن طوره يثبت جدارته بإمساك كراكتير ملتبس. بتحول مذهل، ينصاع من أهداف «دينية» إلى ورطة الدم، كاسراً الجرة مع نموذجه الفاضل: «الشيخ رباح» (زهير عبد الكريم). الوجه المتطرف لعدم تقبل الآخر هي «روضة» (مريم علي). تحسن تقديم شخصية من صميم الصراع الاجتماعي.
«سكر» المسلسل، هي شكران مرتجى بدور يختصر كل شيء. ثلاثة لهم بصماتهم: يزن خليل بدور «بشير»، والوجهان الجديدان رولان زكريا وسارة بركة. الانتشار المدوي للأغنية الهابطة «خاروف حب الحلوة» يفضح ضحالة هذه الأيام.
«مع وقف التنفيذ»... المسلسل السوري الأفضل
«مع وقف التنفيذ»... المسلسل السوري الأفضل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة