على الرغم من التقدير العالمي الكبير الذي يحيط بمغني البلوز بي بي كينغ، الذي رحل عن 89 سنة يوم أول من أمس (الخميس) فإن أحدًا في مهرجان «كان» العاجق لم يتوقف كثيرًا عند هذا النبأ وسط انشغال الحاضرين بكل ما يحيط بالسينما من شواغل وجوانب جاءوا لإنجازها مستغلين المهرجان بأسره بوصفه سوق عمل مندفعة ومتنافسة.
بي بي كينغ أحد ثلاثة زعماء للبلوز الأميركي لجانب ألبرت كينغ وفريدي كينغ (كلاهما رحل عن دنيانا في مناسبتين متباعدتين) وكان أشهرَهم هو وغيتاره لوسي التي غنى لها كما لم يشُب «البلوز» من عواطف وأحزان و«أحيانا» أفراح أيضًا.
لكن الأفلام التي تتحدث عن الشخصيات الفنية موجودة في «كان» تقدّمها في اليوم نفسه فيلم «أورسون وَلز: ظلال وأضواء» للفرنسية إليزابيث كابنيست. تسجيلي من 56 دقيقة (يصلح للعرض التلفزيوني) من إنتاج فرنسي - ألماني مشترك يحيط بحياة وأعمال وَلز وهنا مشكلته الأولى.
أورسون وَلز من بين أكثر المخرجين الأميركيين الذين تناولتهم المقالات الصحافية والدراسات والمؤلفات وبعض الأفلام. لجانب ألفرد هيتشكوك وجون فورد ووودي ألن، وقلة أخرى، حضر وَلز السينما كموضوع عمل أكثر مما حقق أفلاما كاملة في حياته أو يكاد. هذا الفيلم لا يفعل الكثير لا في سبيل عرض ظلال مهنة المخرج الذي يحتفي به ولا في سبيل تسليط أضواء جديدة على حياته وأعماله، مكتفيًا بإعادة توليف ما ورد من معلومات على نحو يحافظ فيه على التسلسل الزمني لوقوع كل شيء: نشأته، تحقيقه الفيلم الأول («المواطن كين»، 1941) ثم انطلاقه منه. تجنّبت هوليوود التعامل مع استقلاليّته والأفلام التي أنجزها وتلك التي بدأها ولم يستطع إنجازها. يستطلع الفيلم آراء ثلاثة معنيين هم الممثل والمخرج هنري جاغلوم (الذي وضع وَلز في بعض أعماله) والناقدان - الباحثان جوزف ماكبرايد وديفيد تومسون، وكل منهما وضع كتابًا أفضل شأنًا مما يستطيع هذا الفيلم الذهاب إليه.
سيرة حياة
الفيلم الثاني لم يعرض بعد لكنه عازم على إثارة الاهتمام كونه أول فيلم غير تلفزيوني عن الممثل ستيف ماكوين. نجم «الكوول» كما يسمونه الذي دائمًا ما آثر أقل قدر ممكن من الانفعال ونفذ عبر ذلك إلى ترك بصمة واضحة بين كل أترابه من الممثلين.
والسير الذاتية جزء كبير من عالم اليوم، وصباح أمس (الجمعة) تم الإعلان عن مشروع فيلم عن حياة الرئيس الأسبق رونالد ريغان الذي، مثل غريس كيلي وكلينت إيستوود وأرنولد شوارتزنيغر، كانت له قدم في السياسة وقدم في السينما، ولو أن الأولى سبقت. الفيلم سيجلب بعض الأحداث السابقة حول العلاقة بين روسيا وأميركا وكيف تجنبت الدولتان المزيد من الحرب الباردة في البداية وصولا إلى انهيار النظام الشيوعي في روسيا بالكامل على أيام ريغان الذي اعتبر أن هذا أفضل إنجازاته.
البحث كان جاريًا حول من يلعب الرئيس السوفياتي ليونيد برجنيف، وانتهى بتعيين ممثل أدوار الشر الأميركي روبرت دافي، علما بأن شبه الملامح هو آخر ما يمكن أن يجمع بين الشخصيّتين. أما الممثل الذي سيلعب دور ريغان فما زال قيد البحث.
على صعيد الأفلام كانت هناك عودة يوم أمس إلى سينما الهولوكوست من خلال فيلم «ابن شاوول» وهو الفيلم الأول لمخرجه لازلو نَمَس الذي مهّد لحضوره بالتذكير بأنه كان مساعدًا للمخرج المجري بيلا تار في أكثر من عمل.
«ابن شاوول» يختلف، في أسلوبه وفي اهتماماته، عن أفلام تار: عمل يلهث بكاميرته وبشخوصه في ساعة ونصف الساعة من العرض المتواصل لحالة واحدة: اليهودي شاوول الذي يعمل في المحرقة (وقد يؤول إليها لاحقًا؛ إذ يخطط النازيون لزجه ومئات الآخرين من أمثاله للموت أسوة بالألوف التي سبقته) ويكتشف جثّة ابنه. سيحاول البحث عن «راباي» بين أعداد المقبوض عليهم لإنقاذه حتى يؤدي الصلاة عليه. المشكلة ليست في الموضوع (ولو أن أحداثه مرصوصة على نحو يخترق القابلية للتصديق) بل في ذلك المنوال من الإخراج الذي يُترجم إلى مشاهد متلاحقة من الصوت «المضج» والصور من دون وقفات درامية أو تصاعد حدثي فعلي. يضع المخرج في شريط الصوت كل ما يمكن أن يتناهى من زعيق وصريخ وأصوات آلات ووقع أقدام وصوت لهيب بعضه مع بعض ليزيد من التأثير، وفي الصورة تحمل الكاميرا نفسها وتطارد بطلها الذي تتكرر مواقفه ومواقف الآخرين حياله. شاوول يُقاد طوال الوقت من قبل يهود كما من قبل ألمان بالإمساك برقبته أو بأعلى معطفه وجره. بعد حين لا تكترث.
في المقابل فيلم افتتاح «نظرة ما»، وعنوانه «آن» لناوومي كاواسي هو المضاد الكامل. هادئ جدًا. لا أحد يصرخ فيه وحكايته تتطوّر تحت سطح ما يدور لتتحدّث عن طباخ الحلوى الذي تساعده امرأة مصابة بمرض الجذام. التعاون يسفر عن نجاح باهر سريعًا ما يضمر عندما يكتشف الزبائن مرضها فيمتنعون. لكن موضوعه الأساسي يتجاوز، كعادة المخرجة، الحكاية الماثلة. هي ليست سوى منصّة للبحث في روحانيات الطبيعة والأنفس البشرية. وكل ذلك وصولاً إلى لقطة ختامية موحية لذلك الطبّاخ وقد ترك المطعم الصغير وأنشأ لنفسه ركنًا في الحديقة العامّة.