لا يتطلب الأمر إلا أن تترك نفسك محلقاً في أجواء من السلام النفسي والصفاء الذهني، عندما تقرر أن تستمع إلى موسيقى مختلفة كتلك التي تقدمها فرقة «ونس» الغنائية المصرية، لا سيما في حفلاتها الرمضانية بطابعها الروحاني المميز بين جدران مباني القاهرة التراثية، على غرار مسرح معهد الموسيقى العربية العريق، الذي استضاف أحدث حفلاتها في أجواء مفعمة بالبهجة والنوستالجيا.
فرقة «ونس»، لا تعترف بالحدود الجغرافية، فقد نجح مؤسسها الفنان الدكتور طارق عباس، في تقديم «توليفة» جديدة من المطربين والعازفين من جنسيات مختلفة، منذ إطلاقها في عام 2017، عقب فوزه بجائزة «اللحن الذهبي» في مهرجان الموسيقى العربية بدار الأوبرا المصرية، معتبراً الموسيقى لغة عالمية تختلف عن كل اللغات، التي نتحدث بها لأن الجميع يفهمها.
عباس الذي يُدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها عبر الموسيقى في جامعة القاهرة، أسس فرقته لتعزيز تعليم اللغة من خلال ضم أصحاب الأصوات المميزة من طلابه إلى الفرقة، بالإضافة إلى إبراز الصورة الصحيحة للتراث والفن الإسلامي والعربي، حسب ما يقوله عباس لـ«الشرق الأوسط».
حفل فرقة «وَنَس» بمعهد الموسيقى (الشرق الأوسط)
أغنية «تحيا بلدي» التي شارك في غنائها 10 فنانين من مصر ودول أوروبية وآسيوية مختلفة، كانت باكورة أعمال الفرقة، وتميزت بأن جملة «تحيا مصر» كانت تتوج نهاية كل مقطع بها، وكأنما هي رسالة بأن كل من جاء إلى مصر وعاش على أرضها يشعر بأنها وطنه وملاذه الآمن.
يرى الفنان أن هذا الزخم الفني هو انعكاس لحرص الفرقة على تقديم «صورة بالموسيقى» على نحو ربما يكون غير مألوف إلى حد كبير في الوطن العربي، ويصفها بجسر التعارف والتبادل الحضاري، ويتابع: «تتعدد الأبجديات حول العالم، لكن تبقى هناك أبجدية واحدة مشتركة تجمع الشعوب، وهي السلم الموسيقي، الذي يضم سبع درجات نغمية، ولا يعرف العالم سواها، فإذا كان هذا هو الواقع، فلماذا لا تصبح هي الجسر المستمر بينا، الذي يجعلنا نتحاور ونتواصل بلا قيود». ومن هنا اختار الفنان اسم فرقته «ونس» استلهاماً من فكرة الاستئناس بالآخر، وبالتراث والفن الجميل على السواء: «نحن نمثل كياناً واحداً رغم اختلافنا».
الونس الذي يريده مؤسس فرقة «ونس»، يشعر به الجمهور الذي يحرص على حضور حفلاته في معهد الموسيقى العربية بملابس كلاسيكية أنيقة، مستمتعاً بأعمال يسودها الصفاء في مواجهة ضغوط الحياة، حيث تقدم الفرقة مختارات من ألحان عباس، إلى جانب أشهر مؤلفات زمن الفن الجميل التي أبدعها كبار الملحنين.
وتقدم ليالي «ونس» الرمضانية مجموعة روحانية تُبرز أبيات الأشعار وقصائد المديح النبوي، والابتهالات.
الفنان طارق عباس في الحفل (الشرق الأوسط)
وإذا كانت فكرة إطلاق فرق موسيقية وغنائية «متعددة الجنسيات» قد عرفت طريقها إلى المشهد الفني العربي منذ سنوات، فإن عباس عرف كيف يصبغها بهوية خاصة، فالمتابع لنشاطاتها يستشعر فلسفتها التي تميزها، وهي الخروج بها من دائرة لغة الموسيقى، إلى التعمق في فكرة أكثر شمولية، وهي التثقيف والجمع بين الموروثات الفنية العربية. وتضم الفرقة، حسب عباس، نحو 30 فناناً من بينهم 22 فناناً أجنبياً: «لا أعتقد أن هناك فِرقاً متعددة الجنسيات تحمل هذا التنوع الكبير والمستمر، فالثابت في الفرقة هو التغير، لأنها تعتمد على دارسي اللغة العربية من مختلف البلدان، وهم يقيمون لفترات قصيرة ومتقطعة في مصر».
لكن لا يقتصر الأمر على الكم وحده، فحين تحضر إحدى حفلات الفرقة، يستوقفك طويلاً غناء الفنانين الأجانب بإحساس عالٍ بالمعاني، وما تحمله من مشاعر، ودلالات، وطاقات وجدانية رغم اختلاف الثقافة، وهو ما يفسره عباس قائلاً: «لا أكتفي بالتدريب اللغوي والنغمي فقط على صعوبتهما، إنما أحتفي كذلك بتزويدهم بثقافتنا بمختلف أبعادها، فعادة يأتي الفنانون إلى منزلي أثناء البروفات ويشاركونني وأسرتي وزملاءهم المصريين إعداد الطعام في المطبخ على الطريقة المصرية، كما أتيح لهم التحدث عن بلدانهم، وهكذا تتعدد الروافد الثقافية وتتحاور وتتقاطع بانسيابية وسلاسة، ما يساهم في دمجهم بعمق موسيقانا».
لا شك أن مزج موسيقات ولهجات متعددة في فرقة واحدة تكتسي شكلاً معاصراً من الفنون، التي تجمع العازفين والمغنين من بلدان مختلفة، لا يزال يثير الدهشة لدى كثير من المستمعين، إلا أنهم حين يبحرون في أغاني «ونس» بالأداءات المميزة لأعضائها، سرعان ما يتخلصون من إبهار اللحظة والتعجب من تعددية تكوين الفرقة ليصبحوا مأخوذين بما تقدمه من وجبة تراثية وفنية متكاملة.
ويزيد من أهمية ذلك، تقديمها روائع من الموسيقى الأصيلة التي لطالما تغذت بها الذائقة العربية وشكلت وجدان ملايين المستمعين، منها أعمال محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، وصباح وغيرهم؛ إضافة إلى حرص مديرها الدكتور طارق عباس، على إقامة حفلاتها في حضن التاريخ، على غرار قصري «المانسترلي» و«الأمير بشتاك»، وأخيراً معهد الموسيقى العربية، إذ يرفد الحضور من عراقة المعمار، وعبق الماضي، وعمق الثقافة، مع الاستمتاع بالأغاني التراثية، وهو ما يعبر عنه عباس قائلاً: «أحاول الربط بين الموسيقى والتاريخ والمجتمع، باعتبار أن هذا المثلث هو الراعي الحقيقي لها وصانع العملية الإبداعية بلا منازع».