في عام 2020، وتحت تأثير صدمة جائحة «كورونا» ومخاوفها، انخرط الكل تقريباً في نوادٍ تدعم كل ما يتعلق بالقضايا المناخية والإنسانية. كان على رأس هؤلاء عشاق الموضة وصناعها على حدٍ سواء. تعالت أصواتهم منادية بتغيير جذري، يشمل كل ما من شأنه التأثير على البيئة من تقنين الإنتاج وتدوير الخامات إلى التقليل من السفر على أساس أن قطاع الطيران أحد الصناعات التي تُخلف انبعاثات كربونية مضرة. نادوا أيضاً بتبني حياة بسيطة بعيداً عن الإيقاع السريع الذي كان يجعلنا نلهث وراء الاستهلاك غير المقنن ويسرق منا لحظات إنسانية لا تقدر بثمن. كانت الأصوات عالية يحركها الخوف والأمل في الوقت ذاته، كذلك رغبة صادقة في بناء مستقبل أفضل. في لقاء له مع «بلومبرغ» في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2020، لخص أنطوان أرنو، عضو اللجنة التنفيذية في مجموعة «إل في إم إتش» المالكة لعدة بيوت أزياء منها «ديور» و«لويس فويتون» هذه المشاعر والآراء بقوله إن «نقل عدد كبير من العاملين في مجال الموضة والمؤثرين فيها إلى ريو وغيرها من الوجهات البعيدة لمدة 48 ساعة تقريباً، أمر قد يكون رائعاً وممتعاً، لكنه كان مبالغاً فيه بعض الشيء». كان أنطوان أرنو يشير هنا إلى عروض الـ«كروز» التي تقوم أساساً على السفر بحثاً عن الشمس والبحر، وباتت تقليداً سنوياً تُسخر له بيوت الأزياء الكبيرة إمكانيات مادية ولوجيستية هائلة حتى تأتي بصورة مُبهرة. وأضاف مُعترفاً: «ربما جرفنا نحن أيضاً هذا التيار بدافع رغبتنا لتقديم الجديد واللافت». مثل غيره، وعد أن الأمور ستتغير بعد الجائحة.
«شانيل» من أكثر بيوت الأزياء اهتماماً بخط الكروز
مر عامان، وعادت الحياة إلى طبيعتها. لم يتغير الكثير لحد الآن وما كان ينادي به هؤلاء ويعدون به لا يزال في خانة الوعود المستقبلية. لسان حالهم يقول إن الحياة لا بد أن تستمر وحان الوقت لعودة عروض الأزياء الضخمة وكأن شيئاً لم يكن، وأفعالهم تشي بتوقهم إلى السفر والانطلاق. ضاعت أصوات المنادين بحماية المناخ والبيئة بين أصوات المرحبين بتعافي الموضة. في الأسابيع الماضية القليلة، أعلنت بيوت الأزياء عن مواقيت وأماكن عروضها الخاصة بخط الكروز. موعدنا مع «شانيل» سيكون في موناكو، ومع «لويس فويتون» في سان دييغو، ومع «ديور» في إشبيلية و«ماكس مارا» في ليشبونة. وستكون الانطلاقة في 29 من شهر أبريل (نيسان) بعرض «إميليو بوتشي» في كابري. فالدار تريد أن تُذكرنا بأنها كانت أكثر من يفهم هذا الخط في الستينات، أي حتى قبل أن يُصبح له اسم رسمي.
وبهذا، عوض أن يتراجع الحماس للسفر ازداد بعد أن التحقت بالركب بيوت أزياء كانت تكتفي في السابق بعروضها في باريس أو لندن خلال البرنامج الرسمي لأسابيع الموضة الموسمية والجاهزة مثل «بالنسياجا» و«الكسندر ماكوين». ففي عام 2022، قررت هذه البيوت أن تشد هي الأخرى الرحال إلى أماكن أبعد من باريس ولندن. وهذا يعني أن آلاف الضيوف، إضافة إلى عارضات وخبيرات أزياء وفنانات ماكياج، سيطيرون إلى وجهات قد تستغرق 12 ساعة طيران أو أكثر، لقضاء ثلاثة أيام من الأحلام في فنادق خمس نجوم.
لا يختلف اثنان على أن التكاليف التي تتكبدها بيوت الأزياء لإحياء هذه العروض ضخمة تقدر بالملايين، ما بين بطاقات السفر والإقامة والمطاعم والبرامج الترفيهية التي يتم التحضير لها بدقة وكأنها عمليات عسكرية إلى الديكورات، إلا أنها تستحق الجهد والتكاليف. فهي في المقابل تُحقق لها ضجة إعلامية لا تقدر بثمن، كما تعزز مكانتها في عالم الإبداع والابتكار بين الكبار. عندما قدمت دار «غوتشي» عرضها في لوس أنجليس مثلاً حصدت ما قيمته نحو 33 مليون دولار من التغطيات الإعلامية في الصحف والمجلات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي حسب ما نشرته لشركة «لونشميتركس» الاستشارية.
من عرض «ماكسمارا» الذي أقامته في إيطاليا العام الماضي
ويبدو أنه كلما كان المكان بعيداً ومثيراً، كان المحتوى دسماً والصور متداولة بشكل لا توفره العروض الموسمية التقليدية التي تشارك فيها العشرات من بيوت الأزياء. هنا تعتبر ثلاثة أيام لـ«شانيل» أو «ديور» أو «لويس فويتون» بمثابة أسبوع كامل خاص جداً بها بعيداً عن أي منافسة أو مقارنة، إضافة إلى كسب ود السوق الجديدة التي تتواجد فيه. فالجدير بالذكر هنا أنه لا شيء اعتباطي، وكل شيء محسوب، من اختيار الوجهة وخلق صور مثيرة تتداولها المؤثرات والنجمات الحاضرات إلى مغازلة زبونات هذه السوق، بدليل أنه قبل الجائحة وعندما كانت السوق الآسيوية أكبر سوق للموضة، قدمت كل من «لويس فويتون» و«فالنتينو» و«برادا» عروضاً خاصة في الصين. لكن بسبب منع السفر والصعوبات التي لا تزال الصين تضعها أمام كل من تسول له نفسه الدخول أو الخروج منها، توجهت الأنظار إلى السوقين الأوروبية والأميركية، كونهما أمل صناع الموضة حالياً. السوق الأميركية تحديداً أكد أنه محرك جد مهم مع ظهور زبونات جديدات كان لهن الفضل في زيادة مبيعات الربع الأول من العام، بنسبة تصل إلى 26 في المائة لمجموعة LVMH. مثلاً، الأمر الذي يفسر غياب «غوتشي» عن أسبوع ميلانو، وتفضيلها تقديم عرض خاص في لوس أنجليس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. «لويس فويتون» أيضاً قدمت عرضاً رجالياً في ميامي في شهر ديسمبر (كانون الأول)، وقريباً عرض الكروز في سان دييغو.
جاكوموس اختار بدوره البُعد عن باريس وعرض تشكيلته في هاواي بحثاً عن لهيب الشمس ليُلهب المخيلة بصور مثيرة، بينما تنوي بالنسياجا إقامة عرضها في نيويورك في الشهر المقبل لتسلط الضوء على عودتها إلى ساحة «الهوت كوتور» بعد غياب 53 عاماً.
«ديور» التي كانت الأكثر نشاطاً خلال الجائحة، والوحيدة تقريباً التي قدمت عروضاً حية في إيطاليا، تنوي أن تأخذ تشكيلتها الرجالية إلى لوس أنجليس قريباً وتشكيلتها النسائية من خط الأزياء الجاهزة في شهر يونيو (حزيران) المقبل إلى سيول بمجرد أن تفتح هذه الأخيرة مطاراتها للرحلات العالمية. أما عرضها للكروز فسيكون في إشبيلية، فيما اختارت شانيل موناكو وغوتشي بوغليا الإيطالية مسارح لهم.