مكتبة آينشتاين... كتب أحبها وأسهمت في تشكيل فكره الاستثنائي

ضمت الكثير من كلاسيكيات العلم والثقافة والفلسفة

ألبرت آينشتاين
ألبرت آينشتاين
TT

مكتبة آينشتاين... كتب أحبها وأسهمت في تشكيل فكره الاستثنائي

ألبرت آينشتاين
ألبرت آينشتاين

ألبرت آينشتاين هو أحد ألمع المفكرين الإنسانيين والفيزيائيين الذين شهدهم التاريخ البشري الذي نعرف. تلك حقيقة لا أظن أن أحداً يجادل في مدى صوابيتها؛ لكن هذه الميزة الاستثنائية التي حازها آينشتاين لم تأت من فراغٍ أو محض موهبة اختصته قوانين الوراثة البيولوجية بها دون سواه. كان آينشتاين في كل أطوار حياته قارئاً نهماً لم تفتر شهيته للقراءة يوماً، وقد مكنته هذه القراءة الحثيثة على التعلم الذاتي من أفضل العقول التي عرفها التاريخ البشري.
ويكادُ المرء يدخل متاهة لا يستطيع فك مغاليقها كلما جاء ذكر آينشتاين؛ إذ برغم أن الرجل يعد أعظم فيزيائيي القرن العشرين، لكن كتبه لا تكشف الكثير عن خلفيته الفكرية والفلسفية، فضلاً عن بساطتها الخادعة. ربما كان كتاباه ذائعا الصيت (معنى النسبية) و(النسبية: النظرية الخاصة والعامة) عمليه الأكثر شهرة، ونرى فيهما آينشتاين وهو يوظف بعض التجارب الفكرية Thought Experiments - التي تبدو بديهية وشديدة البساطة – في نتائج فيزيائية غاية في الجرأة الفكرية. مَنْ يستطيع من الفيزيائيين أن يصرح بثبات سرعة الضوء في الكون بصرف النظر عن حالة مرجعيات القياس؟ أما كتب آينشتاين في الميدان الفكري والفلسفي مثل (العالم كما أراه، أفكار وآراء) فهي تشي بعقل فلسفي مركب جال في مناطق شاسعة من ميدان التجربة الإنسانية.
لن أنسى أبداً عندما قرأتُ أواخر سبعينات القرن الماضي مادة دسمة نشرتها مجلة «آفاق عربية» العراقية بعنوان (مباراة العصر بين بور وآينشتاين). تمثلت الدسامة الفكرية للموضوع في أن بور وآينشتاين يمثلان تيارين فلسفيين متعارضين في الفيزياء الحديثة، وعلى أساس هذا التعارض المفاهيمي تم تشكيل بعض أعقد المفاهيم في نظرية الكم التي تعد حجر الأساس في الفيزياء المعاصرة.
في الكتاب المعنون (آينشتاين للقرن الحادي والعشرين: ميراث آينشتاين في العلم والفن والثقافة الحديثة) الذي نشرته جامعة برينستون عام 2008 وهو غير مترجم إلى العربية حتى اليوم، يكتب محررو الكتاب بيتر غاليسون وجيرالد هولتون وسيلفان شويبر أن مكتبة آينشتاين ضمت الكثير من الكتب التي تعد كتباً من كلاسيكيات العلم والثقافة والفلسفة، وأنها كانت تحوي بالتحديد مجموعات عظيمة من الكتب الألمانية. تردُ في هذه الكتب أسماء مثل: بولتزمان (فيزيائي نمساوي)، بوخنر (كيميائي ألماني)، فريدريش هيبل (كاتب ومسرحي ألماني)، هاينه (شاعر وناقد وصحافي ألماني)، هيلمهولتز (فيزيائي وطبيب ألماني)، فون همبولدت (دبلوماسي وفيلسوف ألماني، أسس جامعة عرفت بإسمه)، فضلاً عن أسماء فلاسفة كثيرين منهم: إيمانويل كانت، ليسنغ، نيتشه، شوبنهاور.

غلاف كتاب «آينشتاين للقرن الحادي والعشرين»

سيكون أمراً مشروعاً، بل يعد ضرورياً، أن نتساءل: ما هي الكتب التي عدها آينشتاين من مفضلاته؟ ربما ليس من جواب وحيد بسيط لهذا التساؤل؛ لكننا نعرفُ - بالتأكيد - الكتب التي لطالما ذكرها واضع النظرية النسبية في أعماله أكثر من سواها. الآتي خمسة من الكتب التي كانت قريبة من ذائقة آينشتاين الفلسفية والفكرية العامة، وأسهمت في تشكيل عقله البحثي الاستثنائي، وقد أشار لها موقع BIG THINK الإلكتروني الرصين: 1. تحليل الأحاسيس Analysis of Sensations: اعترف آينشتاين غير مرة أن تطويره لنظريته النسبية تأثر كثيراً بأعمال إرنست ماخ Ernest Mach، الفيلسوف والفيزيائي النمساوي البارز في القرن التاسع عشر. قدم ماخ في كتابه المهم (تحليل الأحاسيس) أطروحة نوعية بشأن الطبيعة المخادعة للحواس البشرية، والتحولات العديدة التي تمتاز بها الأنا البشرية.
احتوى عمل ماخ هذا نقداً لنظريات نيوتن حول الزمان والمكان؛ الأمر الذي وظفه آينشتاين وجعله أحد مصادر إلهامه في خلق أفكاره الشخصية ذات الطبيعة الثورية في العلم والفلسفة. على سبيل المثال، تعد النظرية النسبية تطويراً لفرضية فيزيائية كان ماخ قد وضعها في هذا الكتاب، وسماها آينشتاين لاحقاً «مبدأ ماخ»، واعتبرها حجر الزاوية في نظريته.
في رسالة مؤرخة كتبها عام 1915 للفيلسوف النمساوي موريتز شليك Moritz Schlick، أبان آينشتاين عن الكُتّاب الذين أثروا في تشكيل فكره وإنضاج نظريته النسبية. جاء في تلك الرسالة: «لقد حدستَ بطريقة صحيحة هذا التوجه في الفكر (يقصد الوضعية Positivism) الذي كان له تأثير عظيم على جهودي الفكرية، وأخص بشكل دقيق في هذا الشأن إرنست ماخ وديفيد هيوم اللذيْن درستُ أعمالهما بمثابرة وتقدير قبل فترة قصيرة من وضع النظرية النسبية. يمكنني القولُ إنني من غير هذين العقلين الفلسفيين ربما ما كنتُ قادراً على بلوغ الصياغة الصحيحة للنظرية النسبية...».
ربما من المفيد في هذا الشأن الإشارة إلى أن آينشتاين في سنواته الأخيرة اتخذ موقفاً فلسفياً مضاداً لفلسفة ماخ الوضعية لأنه رآها فلسفة تتمركز على المنطق الاحتسابي الصلب وتعد الميتافيزيقا واللاهوت غير ذات شأن في أي فلسفة حقيقية.
2. دون كيخوته Don Quixote: ظل آينشتاين كل حياته عاشقاً لسرفانتس. ليوبولد إنفلد Leopold Infeld، وهو فيزيائي بولندي اشترك مع آينشتاين في تأليف كتاب عنوانه (تطور الفيزياء) نُشِرَتْ طبعته الأولى عام 1938، يكتب الآتي في سيرته الذاتية التي اختار لها عنوان (المسعى): «اعتاد آينشتاين كل ليلة أن يستلقي في سريره مكتفياً بملابسه الداخلية، ثم يمضي في قراءة مقاطع من رواية دون كيخوته. كانت هذه الرواية هي العمل الذي أحب دوماً أن يقرأه عندما يسعى لنيل قسط من الاسترخاء...».
3. الأخلاقيات Ethics: يوصفُ باروخ سبينوزا Baruch Spinoza، الفيلسوف الهولندي في القرن السابع عشر، بأنه صاحب الأعمال التي وضعت الأساس الراسخ لعصر التنوير الأوروبي. ثمة اتفاق ناجز بين كل أعضاء الإنتلجنسيا الأوروبية والعالمية بأن كتاب سبينوزا في (الأخلاقيات) هو أحد الأعمدة الأساسية في تشكيل الفكر الغربي، وقد اجتهد سبينوزا فيه على تقديم صورة عن الواقع، فضلاً عن السبل الكفيلة بعيش حياة أخلاقية رصينة.
توصف رؤية سبينوزا الروحانية في سياق مبدأ يسمى وحدة الوجود Pantheism، لها أنصار كثيرون (منهم، مثلاً، الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة). ظل آينشتاين مخلصاً طوال حياته لهذا المبدأ، وظلت وحدة الوجود تشكل حجر الزاوية في رؤيته الروحانية للعالم.
4. مقالة في الطبيعة البشرية A Treatise on Human Nature: هذا أحد الكتب التي كتبها الفيلسوف الاسكوتلندي ذائع الصيت ديفيد هيوم David Hume في القرن الثامن عشر. يعترفُ آينشتاين بأنه يرى في هذا الكتاب أفضل محاولة بشرية في الكشف عن العلاقة بين العلم والطبيعة البشرية، وأنه لعب دوراً كبيراً في تشكيل رؤيته فيما يخص طبيعة السلوك البشري.
يرى آينشتاين مأثرة هذا الكتاب الفريدة من نوعها في أن هيوم انتقل من فضاء الحدوسات الميتافيزيقية نحو دراسة واختبار الوقائع التي يمكن معاينتها، وهو ما يمثلُ فكرة أشمل اعتمدها هيوم في كل أعماله، ومفادها أن الوقائع لوحدها لا تصلح لفهم قوانين الطبيعة. لقيت هذه الرؤية التي ناصرها هيوم هوى في روح الفيزيائي الشاب آينشتاين، وكان لها وقع كبير في تطوير أفكاره المناقضة للحدس الفردي والبداهة العامة.
5. أعمال غوته: ربما كانت أعمال غوته، المؤلف والفيزيائي والشاعر والروائي والكاتب الألماني، هي الأعمال التي شغلت أكبر مساحة في مكتبة آينشتاين. ضمت مكتبة آينشتاين الأعمال الكاملة لغوته في ستة وثلاثين مجلداً، بالإضافة إلى اثني عشر مجلداً إضافياً، ومجلدين من عمله المسمى (علم البصريات)، والمراسلات الكاملة بين غوته والشاعر شيلر (كبير الشعراء الرومانتيكيين في عصره)، وطبعات عديدة من رواية غوته (فاوست).
وصف آينشتاين غوته في رسالة كتبها عام 1932 إلى أحد أصدقائه، مبدياً فيها إعجابه بالشاعر والفيلسوف الألماني: «غوته شاعر لا نظير له، وهو أحد أكثر الرجال ذكاء وحكمة في كل العصور. تستحق أفكاره الرفيعة أن توضع في مصاف نظيراتها من الأفكار العظيمة، أما أخطاؤه فليست أكثر من أخطاء أي رجل عظيم يضاهيه في المقام والمقدرة...».
وأحب آينشتاين كتباً أخرى كثيرة، منها: الإخوة كارامازوف، الرواية التي كتبها فيودور دوستويفسكي، وإيزيس من غير قناع Isis Unveiled، الكتاب الذي ألفته الروحانية الروسية هيلينا بيتروفنا بلافاتسكي.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».