دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء

ابن أسرة دبلوماسية وليبرالي خبير في العلاقات العامة

دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء
TT

دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء

دميترو كوليبا... وزير الخارجية الشاب الذي وضعته حرب أوكرانيا تحت الأضواء

تفرض الأحداث أدواراً مفاجئاً على شخصيات قد لا تبدو قبلها جاهزة للعب تلك الأدوار. وعندما تفرض «لعبة الأمم» والحسابات الاستراتيجية وتراكمات الماضي الثقيلة نفسها على الشعوب، فتجرف الحدود وتسحب اعترافها بالهويات، وتعيد صياغة المصطلحات، ترى بعض هذه الشخصيات في بؤرة الأحداث رغماً عنها.
وفي الحرب الأوكرانية التي اندلعت أخيراً، وقرر معها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إعادة كتابة تاريخ روسيا و«تصويب» ما يعتبره خطأ فظيعاً ارتكبته القوى الغربية بحقها، برزت فجأة وجوهٌ شابة في أوكرانيا، في مقدمها الرئيس فولودومير زيلينسكي. غير زيلينسكي، الممثل الكوميدي المولود عام 1978، لا يختزل بشخصه الحركة الاستقلالية الأوكرانية التوّاقة إلى الابتعاد عن ظل «الجار» الروسي العملاق... والالتحاق بالثقافة السياسية والاجتماعية الغربية، بينهم وزير الخارجية الشاب دميترو كوليبا.

دميترو كوليبا، الذي طارت شهرته عالمياً خلال الأشهر القليلة الفائتة، سياسي ودبلوماسي وخبير اتصالات أوكراني، يشغل حالياً منصب وزير خارجية أوكرانيا، وهو أيضاً عضو في مجلس الدفاع والأمن الوطني في البلاد. والواقع أن كوليبا يعد أحد أصغر كبار الساسة الأوكرانيين سناً، وسبق له أن شغل منصب نائب رئيس الحكومة للشؤون الأوروبية والتكامل الأوروبي - الأطلسي، وكذلك المندوب الدائم لأوكرانيا في «مجلس أوروبا» بين عامي 2016 و2019.

النشأة والعائلة
ولد دميترو كوليبا للزوجين إيفان ويفهينيا كوليبا في مدينة سومي بشرق أوكرانيا يوم 19 أبريل (نيسان) 1981، لعائلة راقية تنتمي إلى الطبقة الوسطى، ويعود أصل الأب إيفان (المولود عام 1953) إلى مدينة بولتافا الشهيرة بمعركتها الكبرى في التاريخ. لقد كان إيفان نائباً سابقاً لوزير الخارجية بين عامي 2003 و2004. كما أنه تولى أيضاً منصب سفير أوكرانيا لدى كل من مصر (بين 1997 و2000) والجمهورية التشيكية (بين 2004 و2009) وكازاخستان (بين 2009 و2018)، وهو السفير حالياً في أرمينيا منذ 2019.
وبالتالي، في جو بيتي مسيّس وواعٍ ثقافياً كهذا كان من الطبيعي أن يتأثر دميترو باهتمامات أبيه، وبالفعل مال إلى السياسة والثقافة والشأن العام. ومن ثم تلقى تعليمه الجامعي في جامعة تاراس شيفتشنكو الوطنية - المعروفة محلياً وعالمياً بجامعة كييف، في العاصمة كييف - حيث حصل من هذه الجامعة المرموقة على درجة «كانديدات العلوم» – المعادلة للدكتوراه – في القانون الدولي عام 2003.
من جهة ثانية، فإن زوجة دميترو، واسمها يفهينيا أيضاً، تشاطر زوجها اهتماماته وتعد راهناً من أبرز الناشطات السياسيات والاجتماعيات في البلاد، رغم أنها والدة لولدين؛ ييهور (من مواليد 2006) وليوبوف (2011). احتلت يفهينيا صدارة قائمة حزب «خادم الشعب» الحاكم لانتخابات المجلس المحلي في العاصمة كييف عام 2020. وبعد الانتخابات التي أجريت يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول)، انتخبت نائبة في المجلس، وأمينة للجنة الشؤون البيئية فيه.

مسيرة كوليبا السياسية
بعد تخرّج دميترو من الجامعة في كييف، سار على خطا أبيه، فالتحق بالعمل الدبلوماسي ضمن سلك وزارة الخارجية. غير أنه غادر فيما بعد موقعه في الوظيفة الحكومية نتيجة اختلافه علناً مع سياسات رئيس الجمهورية السابق فيكتور يانوكوفيتش المدعوم من روسيا والمؤيد لها، وعلى الإثر ترأس مؤسسة «يوآرت» للدبلوماسية الثقافية، وهي منظمة دولية لا ربحية تنشط في مجالات التواصل والتعاون، بما في ذلك تنظيم الحوارات والمؤتمرات الثقافية والفنية.
بين 2013 و2014، نشط كوليبا في مظاهرات «ميدان الاستقلال»، أو انتفاضة «الميدان الأوروبي» (يورو ميدان)، التي اندلعت في ساحة «ميدان الاستقلال» بوسط العاصمة الأوكرانية كييف، ليل 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، وواكبتها انتفاضة شعبية واسعة ضد القرار المفاجئ الذي اتخذته حكومة الرئيس يانوكوفيتش – القريب من موسكو – بالامتناع عن توقيع اتفاقي الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وتوجّه يانوكوفيتش لتعزيز الصلات مع روسيا و«الاتحاد الاقتصادي الأور آسيوي».
وهنا يُذكر أن البرلمان الأوكراني كان قد أقرّ اتفاقية الشراكة بغالبية ساحقة، لكن موسكو مارست ضغوطاً شديداً على كييف من أجل رفضها. وبعدها اتسع نطاق الانتفاضة والاحتجاجات التي طالبت علناً باستقالة يانوكوفيتش وحكومة رئيس وزرائه ميكولا آزاروف. وهاجم المنتفضون الأوكرانيون بقوة ما كانوا يعتبرونه حالات فساد حكومي، وتزايد نفوذ الأوليغارشيين (حيتان المصالح والنفوذ المقربين من الحكم)، وإساءة استخدام السلطة، وانتهاك حقوق الإنسان في البلاد. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن «منظمة الشفافية الدولية» كانت قد اعتبرت يانوكوفيتش أحد أبرز نماذج الفساد في العالم.
وفي أعقاب استخدام العنف في تفريق المتظاهرين يوم 30 نوفمبر، اشتد غضب المنتفضين، واختارت انتفاضة «الميدان» عام 2014 إعلان «ثورة الكرامة». ومع تصعيد روسيا تدخّلها، قرّر دميترو كوليبا العودة إلى السلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية حاملاً معه خبرته في مجال الاتصالات الاستراتيجية.
وحقاً، لدى عودة كوليبا إلى وزارة الخارجية انخرط في إدخال مفاهيم مثل «الدبلوماسية الرقمية»، والاتصالات الاستراتيجية والدبلوماسية الثقافية في آليات عمل الوزارة.
وفي العام 2016، كوفئت جهود كوليبا بتعيينه مندوب أوكرانيا الدائم في «مجلس أوروبا». واستمرت مسيرته الوظيفية صعوداً عندما عيّن بين أغسطس (آب) 2019 ومارس (آذار) 2020 نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الأوروبية. ومنذ 4 مارس 2020 تولّى منصب وزير الخارجية.

العد التنازلي للغزو
للتذكير، بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، التي كانت بجانب روسيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء)، الجمهوريات السلافية الثلاث، من أصل 16 جمهورية سوفياتية، تشكل منها الاتحاد السوفياتي السابق، يوم 24 فبراير (شباط) الماضي. غير أن ثمة «تحضيرات» سبقت الغزو الفعلي، تمثلت بعملية تحشيد عسكري روسي بدأت منذ مطلع 2021. بموازاة مطالبات من موسكو بـ«إجراءات أمنية» و«حظر قانوني ملزم» لانضمام أوكرانيا إلى أسرة حلف شمال الأطلسي «ناتو».
ولقد جاء أول تقرير عن التحشيد من العاصمة الأميركي تحدث عن تحركات غير عادية للقوات الروسية قرب الحدود الأوكرانية يوم 10 نوفمبر 2021. وبحلول 28 من الشهر نفسه أعلنت السلطات الأوكرانية عن وجود حشود روسية، قدرتها بنحو 92 ألف مجند على الحدود.
ثم يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) 2021، هدد الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي فلاديمير بوتين «بعقوبات شديدة اقتصادية وغير اقتصادية» إذا هاجمت القوات الروسية أوكرانيا. ويوم 17 ديسمبر (كانون الأول) ردّ بوتين طالباً أن يحدّ «ناتو» من نشاطاته في أوروبا الشرقية، ومنها الإحجام عن ضمّ أوكرانيا لأسرة الحلف، ولقد رفض هذا الطلب.
ولكن مع دخول عام 2022، وتحديداً يوم 17 يناير (كانون الثاني)، بدأ توافد القوات الروسية إلى جمهورية بيلاروسيا (الحليف الموثوق لموسكو) على التخوم الشمالية لأوكرانيا، وكان السبب المعلن إجراء تمارين ومناورات عسكرية. وبعد يومين فقط، قدمت الولايات المتحدة إعانة مالية قيمتها 200 مليون دولار، ولاحقاً قال الرئيس بايدن، خلال مؤتمر صحافي، بلهجة تهديدية ملتبسة، إن العالم سيرى أن واشنطن ستحمّل موسكو مسؤولية أي غزو إذا غزت أوكرانيا. ولم يلبث منتقدو بايدن أن كلاماً كهذه يسهل الغزو ولا يردعه.
على الإثر، يوم 24 يناير وضع «ناتو» قواته في حالة تأهب. وفي اليوم التالي، بدأت القوات الروسية تمارين ومناورات بمشاركة 6 آلاف مجند و60 طائرة حربية قرب حدود أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. ثم يوم 10 فبراير انطلقت المناورات العسكرية المشتركة الروسية – البيلاروسية، وخلال 7 أيام (يوم 17 فبراير) تصاعد القتال في الإقليمين الانفصاليين (دونيتسك ولوغانسك) في شرق أوكرانيا. وبعد 3 أيام (21 فبراير) أعلن الكرملين اعتراف روسيا استقلال الإقليمين الانفصاليين، ما أدى إلى فرض دول «ناتو» أول دفعة من العقوبات الاقتصادية على روسيا.
ويوم 24 فبراير، بدأ الغزو الروسي فعلياً مع إعلان الرئيس بوتين عن إطلاق القوات الروسية «عملية عسكرية خاصة» في شرق أوكرانيا. وخلال دقائق من إعلان بوتين سجلت انفجارات داخل العاصمة الأوكرانية كييف ومدينتي خاركيف وأوديسا ومناطق حوض الدونباس (حوض نهر الدون بشرق أوكرانيا). كذلك تحدثت مصادر رسمية أوكرانية عن دخول قوات روسية إلى مدينتي أوديسا وماريوبول بجنوب الجمهورية، وإقدام هذه القوات على قصف المطارات والمقرات والمستودعات العسكرية في كييف وخاركيف ودنيبرو بالصواريخ البالسيتية والتسيارية (الكروز).

مؤلفاته... وتصريحاته
عودة إلى دميترو كوليبا، فإن كان الرئيس فولودومير زيلينسكي قد أصاب شهرة واسعة في أوكرانيا في المجال الفني، وبالأخص في مسلسل «خادم الشعب» الكوميدي الشهير، الذي تابعه الملايين على امتداد 3 مواسم (بين 2015 و2018)، فإن وزير خارجيته الشاب ألّف عام 2019 كتاباً تصدر قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، تحت عنوان «حرب من أجل الحقيقة... كيف تربح في عالم الأضاليل والحقائق والمكونات الاجتماعية» (The War for Reality. How to Win in the World of Fakes، Truths and Communities) تناول فيه عالم التواصل والإعلام الجديد والكفاءة الإعلامية ومواجهة التقارير المضللة والأخبار الكاذبة.
ومثلما نجح زيلينسكي في تحويل شخصية المدرّس «فاسيلي جولوبورودكو» الانتقادية والساخرة بقوة من النخب السياسية الفاسدة في أوكرانيا، ودفعته شعبية هذه الشخصية إلى الترشح لمنصب الرئاسة ومن ثم الفوز به... فها هي الحرب الأوكرانية توفّر لدميترو كوليبا المنصة المثالية لمخاطبة العالم، وقيادة استراتيجية بلاده الإعلامية ضد القدرات والخبرات الروسية الضخمة في مضمار «البروباغاندا» السياسية.
وأكثر من هذا، أسهمت شخصية كوليبا الشابة الجذابة، ومواهبه في مجالي العلاقات العامة والدبلوماسية الدولية، في فوزه بلقب «أفضل سفير أوكراني لعام 2017» في تقييم «معهد السياسة الدولية».


مقالات ذات صلة

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

أوروبا جنود أوكرانيون يستعدون لتحميل قذيفة في مدفع هاوتزر ذاتي الحركة عيار 122 ملم في دونيتسك أول من أمس (إ.ب.أ)

مسيّرات أوكرانية تهاجم منشأة لتخزين الوقود في وسط روسيا

هاجمت طائرات مسيرة أوكرانية منشأة للبنية التحتية لتخزين الوقود في منطقة أوريول بوسط روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يدعو إلى  تحرك غربي ضد روسيا بعد الهجمات الأخيرة

دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الغرب إلى التحرك في أعقاب هجوم صاروخي جديد وهجوم بالمسيرات شنتهما روسيا على بلاده

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف (د.ب.أ)

الكرملين: التصريح الأخير لترمب بشأن أوكرانيا «يتماشى تماماً» مع الموقف الروسي

نوّه الكرملين الجمعة بالتصريح الأخير لدونالد ترمب الذي اعترض فيه على استخدام أوكرانيا صواريخ أميركية لاستهداف مناطق روسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا القوات الأوكرانية تقصف مواقع روسية على خط المواجهة في منطقة خاركيف (أ.ب)

مسؤول كبير: أوكرانيا ليست مستعدة لإجراء محادثات مع روسيا

كشف أندريه يرماك رئيس مكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقابلة أذيعت في وقت متأخر من مساء أمس (الخميس) إن كييف ليست مستعدة بعد لبدء محادثات مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عسكري أوكراني يحتمي أمام مبنى محترق تعرَّض لغارة جوية روسية في أفدييفكا (أ.ب)

قتال عنيف... القوات الروسية تقترب من مدينة رئيسية شرق أوكرانيا

أعلنت القيادة العسكرية في أوكرانيا أن هناك قتالاً «عنيفاً للغاية» يجري في محيط مدينة باكروفسك شرق أوكرانيا، التي تُعدّ نقطة استراتيجية.

«الشرق الأوسط» (كييف)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.