مع تصاعد حدة المواجهات العسكرية بين القوات الروسية والأوكرانية في محيط المدن الكبرى، خصوصاً كييف وماريوبول ومناطق أخرى عدة، بدا أن الجهود الدبلوماسية تسعى إلى استباق التطورات الميدانية، في حين أظهرت تصريحات مسؤولين روس أن موسكو لن تتراجع عن مواصلة العملية العسكرية في أوكرانيا حتى «تحقق كل أهدافها».
وعلى الرغم من بطء التقدم الميداني للقوات الروسية، بدا أمس، أن تشديد الضغوط على العاصمة كييف التي شهدت قصفاً متواصلاً خلال ساعات النهار ومحاولات التقدم على عدة محاور، انعكس في تسريع التحركات الدبلوماسية، وبعد اتصال هاتفي جديد أجراه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس مع الرئيس فلاديمير بوتين، برزت دعوتان للوساطة من جانب أذربيجان وإسرائيل. وأعلن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي أن الاتصالات الجارية مع موسكو حققت نوعاً من التقدم، الذي «قد يبعث على التفاؤل» في إطار الجهود الجارية لوضع حد للأعمال القتالية في بلده، علماً بأن موسكو وكييف أعلنتا أمس، أن فريقي التفاوض في البلدين واصلا محادثات مكثفة عبر شبكة تلفزيونية برغم تعثر عمل الممرات الإنسانية التي اتفقا على إطلاقها في وقت سابق.
وأوضح زيلينسكي أن المفاوضين الأوكرانيين والروس «بدأوا في مناقشة مسائل محددة بدلاً من طرح إنذارات نهائية». ووصف الرئيس الأوكراني هذه التغيرات في المواقف التفاوضية بأنها «نهج جديد مختلف نوعياً»، مشيراً إلى أن هذا النهج مطلوب لإنجاح التفاوض بين طرفي النزاع.
وأعرب زيلينسكي عن استعداده للتفاوض مع روسيا، مبدياً أمله في أن «تنطلق عملية سلام بالأفعال وليس بالأقوال»، محملاً في الوقت ذاته، موسكو المسؤولية عن رفض التفاوض معه حتى الآونة الأخيرة. وتقدم الرئيس الأوكراني بمبادرة تنظيم محادثات سلام بين موسكو وكييف في القدس، مرجحاً أن «إسرائيل قد تلعب دوراً مهماً في تسوية النزاع وتكون بين الأطراف التي تنتظر منها أوكرانيا أن تكون شريكاً في تقديم ضمانات أمنية».
وقال زيلينسكي: «أعتقد أنه ليس من الصواب اليوم عقد اجتماعات في أوكرانيا أو روسيا أو بيلاروسيا، لأنها ليست من الأماكن التي نستطيع فيها التوصل إلى تفاهمات ووقف الحرب. أتحدث عن اجتماع على مستوى الزعماء. هل يمكن لإسرائيل أن تكون مكاناً لهذا اللقاء، نعم حسب اعتقادي». وأشار الرئيس الأوكراني إلى أن بلده لن يكتفي بضمانات أمنية قد تقدمها إليها روسيا، بل تنتظر ضمانات من دول أخرى أيضاً. تزامن ذلك، مع إعلان حكمت حاجييف مساعد الرئيس الأذري للشؤون الخارجية، أن بلاده «مستعدة لعقد اجتماع بين روسيا وأوكرانيا، لما تتمتع به باكو من خبرة في عقد اجتماعات روسيا والناتو». وقال حاجييف على هامش المنتدى الدبلوماسي في أنطاليا التركية: «كان هناك مثل هذا الاقتراح من الجانب الأوكراني. وفي حالة وجود مثل هذه النية، فنحن مستعدون لاستضافة مثل هذا الاجتماع». وأضاف: «أذربيجان ليست عضواً في الناتو ولا عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وترأس حركة عدم الانحياز، ولديها نوع من حالة عدم الانحياز»، مشيراً إلى أن «هذه الظروف توفر ظروفاً لأن يشعر كلا الجانبين بالراحة حيال هذا الاقتراح، أذربيجان مستعدة لدعم وتقديم مساهمتها». ولم يعلق الكرملين على العرضين، لكنه لفت في بيان إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحث آخر مستجدات الوضع في أوكرانيا مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس.
وذكرت الرئاسة الروسية في بيان، أن الزعيمين الفرنسي والألماني أثارا مسائل متعلقة بالوضع الإنساني في مناطق إجراء العملية العسكرية الروسية، مضيفة أن بوتين بدوره أطلعهما على «واقع الوضع هناك».
في الأثناء، شنت موسكو هجوماً عنيفاً على واشنطن واتهمتها بمحاولة «فرض أجندة خاصة بها على المجتمع الدولي». وقال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، في تعليق على تصريحات الرئيس جو بايدن حول أن «التصعيد الروسي باندلاع حرب عالمية ثالثة»، إن موسكو «لم تتخذ أي خطوات ولم تدلِ بأي تصريحات يمكن تقييمها للتصعيد».
وزاد الدبلوماسي الروسي أن «أرفع مسؤول أميركي يتحدث علناً عن خطر الحرب العالمية الثالثة. يأتي ذلك في محاولة لإثارة الأعصاب وفرض أجندة خاصة بهم على المجتمع الدولي ككل، والأهداف التخريبية لهذا النهج واضحة لنا».
ورأى ريابكوف أن ما يجري حالياً هو «إعلان الغرب حرباً اقتصادية على روسيا»، مرجحاً أن الولايات المتحدة وحلفاءها استخدموا العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كذريعة لتبني إجراءات عقابية بحق موسكو، وأن هذه العقوبات كانت ستفرض على أي حال تحت ذرائع أخرى لو لم تبدأ روسيا حملتها العسكرية في أوكرانيا. واللافت أن حديث ريابكوف حمل إشارات واضحة إلى الرؤية الروسية للوضع فيما بعد الحرب الأوكرانية، إذ قال الدبلوماسي الروسي المسؤول عن ملف الأمن الاستراتيجي في الوزارة، إن «المطالب الروسية المتعلقة بهندسة الأمن الجماعي في أوروبا لم تعد مطروحة على الطاولة»، مشيراً بذلك إلى تراجع موسكو عن مناقشة ملف الضمانات الأمنية التي كانت تطالب بها سابقاً من حلف شمال الأطلسي. وقال ريابكوف إن على الغرب أن يتعامل مع موازين القوى الجديدة بعد العملية العسكرية، وموسكو «لم تعد بحاجة إلى ضمانات من أي طرف»، لافتاً إلى أن بلاده سوف تواصل برغم ذلك متابعة ملفات مع واشنطن بينها الحد من الأسلحة الاستراتيجية ومسائل انتشار الصواريخ المتوسطة والقصيرة القادرة على حمل رؤوس نووية في أوروبا.
ميدانياً، بدا أمس، أن موسكو صعدت عملياتها العسكرية في محيط العاصمة كييف وعدد من المدن الأخرى المحاصرة. وتم الإعلان عن تكثيف الضربات الصاروخية وضربات المدفعية الثقيلة في محيط كييف، بالتزامن مع تصعيد عسكري واسع في محيط ماريوبول الاستراتيجية في الجنوب. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها أسقطت في أوكرانيا اليوم مروحية من طراز مي - 24 و3 مسيرات بينها واحدة من طراز بيرقدار تركية الصنع. وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع إيغور كوناشينكوف إن القوات الروسية وجهت خلال الساعات الـ24 الماضية ضربات مركزة إلى 79 منشأة للبنية التحتية العسكرية في أوكرانيا، بما في ذلك 4 مراكز قيادة وتحكم ومراكز اتصالات، ونظامان للصواريخ المضادة للطائرات، و3 منشآت رادار ومحطة قيادة إلكترونية واحدة، و6 مستودعات للذخيرة والوقود و54 منطقة لتخزين المعدات العسكرية. وزاد أن «إجمالي نتائج العمليات منذ انطلاق العملية الخاصة، هو تدمير 61 طائرة هليكوبتر، و126 طائرة من دون طيار، و1159 دبابة ومركبات قتالية مصفحة أخرى، و118 قاذفة صواريخ متعددة، و436 قطعة مدفعية ميدانية وهاون، و973 وحدة من المركبات العسكرية الخاصة». كما أشار إلى أن «القوات المسلحة الروسية واصلت هجومها على جبهة واسعة، وفرضت سيطرتها على بلدات نوفواندريفاكا وكيريلوفكا، كما وصلت إلى خط نوفومايورسكو - بافلوفكا - نيكولسكو - فلاديميروفا - بلاغوديت، حيث تقدمت اليوم (أمس) لمسافة 12 كيلومتراً».
وقال الناطق العسكري إن «قوات لوغانسك الشعبية سيطرت على بلدات فوغوريا ويوث، وعلى جنوب ووسط بلدة بوباسنايا، فيما واصلت وحدات أخرى التقدم باتجاه ضواحي مدينة سيفرودونيتسك». في الوقت ذاته، أعلن رئيس دونيتسك دينيس بوشيلين، أن قواته حررت 85 بلدة على أراضيها منذ بدء العملية العسكرية الروسية بمنطقة دونباس في 24 فبراير (شباط).