أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

بعد المواقف المتحفظة في «مؤتمر ميونيخ للأمن»

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة
TT

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

أوكرانيا تضع أوروبا والتحالف الغربي أمام حقائق جديدة

في وقت كانت روسيا تُجري فيه مناورات عسكرية مع بيلاروسيا (روسيا البيضاء) تأهباً لحربها على أوكرانيا، وقبل أيام قليلة من شنها الحرب ودخول جنودها الأراضي الأوكرانية، وقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على منبر «مؤتمر الأمن» في مدينة ميونيخ بجنوب ألمانيا، ليتهم الغرب باللجوء إلى «سياسة المهادنة» مع موسكو. ومن ثم، دعا الرئيس الأوكراني الدول الغربية إلى التخلي عن هذه السياسة وتبني سياسة أخرى «تضمن الأمن والسلام».
كان وقع كلمات زيلينسكي في تلك اللحظات كبيراً. فهو - أو كاتب خطابه - كما كان واضحاً يشير إلى تاريخ ميونيخ مع «سياسة المهادنة»، أو ما يعرف أيضاً – وهو تعبير أدق – بـ«سياسة الاسترضاء». فالمدينة نفسها غدت بعد الحرب العالمية الثانية مرادفاً عند البعض لعبثية هذه السياسة التي يمكن تعريفها في السياسة الخارجية بأنها «خطوات استرضاء» يتخذها طرف في محاولة «ساذجة في تفاؤلها» لحثّ طرف عدواني على التراجع وتجنب وقوع حرب كبرى.
ذلك أنه من ميونيخ، وفي مؤتمر عقد في مكان غير فندق باييريشر هوف الشهير، الذي يستضيف «مؤتمر الأمن» سنوياً، خرج أشهر مثال لهذه السياسة التي اعتمدها رئيس الوزراء البريطاني عام 1938 نيفيل تشامبرلين مع الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر.
يومذاك، وافق تشامبرلين على أن يضم هتلر أجزاء من تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا، بعدما كان قد ضم النمسا من دون كلمة اعتراض من أحد. ولقد جاءت موافقة رئيس الوزراء البريطاني مقابل تعهد من الزعيم النازي بأن يوقف زحفه على باقي أوروبا. ولكن، كما أثبتت الأحداث، كانت تلك الخطوة التي خرج بعدها تشامبرلين معتقداً أنه انتصر، السبب في الحرب العالمية الثانية. إذ إنها شجّعت هتلر على التقدم أكثر، وقضم أراضٍ إضافية من أوروبا وضمها إلى ألمانيا. ولقد تطلب وقف هتلر جهد رئيس وزراء بريطاني آخر، هو ونستون تشرتشل، في بناء تحالف دولي يهدف إلى وقفه وإنهاء الحرب. ومن ثم، رغم أن «مؤتمر الأمن» الأخير في ميونيخ عقد بعد 84 سنة على لقاء تشامبرلين - هتلر في عاصمة ولاية بافاريا الألمانية، فإن صدى المؤتمر الأول ظل يتردد داخل فندق باييريشر هوف الراقي في العام 2022.

لم يشهد «مؤتمر ميونيخ للأمن» طوال سنواته الماضية تجمعاً غربياً موحداً مثل الذي شهده هذا العام. إذ طغى على الحضور رؤساء حكومات ورؤساء ووزراء خارجية ودفاع من دول غربية في أوروبا بجانب الولايات المتحدة، مع غياب لافت لأي مسؤول روسي أو صيني. والواقع أن المنبر السنوي لم يعد يشبه ما كان عليه في السنوات السابقة، إذ تحوّل من مكان للحوار والتبادل الدبلوماسي، إلى مكان للحشد ضد روسيا الغائبة للمرة الأولى منذ فترة طويلة، وإرسال تحذيرات لها من استمرار تصعيدها ضد أوكرانيا.
لقد وقف الزعماء الغربيون مداورةً على منصة المؤتمر لتأكيد وقوفهم إلى جانب كييف أمام التصعيد الروسي الذي لم يكُن قد تحوّل إلى غزو عسكري بعد، وهو ما بدأ بعد أيام قليلة على اختتام أعمال المؤتمر.
من المستشار الألماني أولاف شولتز إلى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ونائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس وغيرهم، صدرت تحذيرات متتالية وتهديدات بعقوبات مؤلمة وعواقب وخيمة على موسكو إذا ما حركت جنودها أكثر... ودخلت أراضي أوكرانيا.

- كلام زيلينسكي الصريح
كان واضحاً في كلمات الزعماء الغربيين أن ذكرى «اتفاق ميونيخ» البائس عام 1938 تطاردهم. فبدوا حريصين على تحاشي تكرار أخطاء الماضي وتجنب الظهور وكأنهم يهادنون روسيا. غير أن الرئيس الأوكراني الذي وصل صباح اليوم الثاني من أيام المؤتمر، رغم التحذيرات الأميركية من مغادرته كييف، وغادر مساء اليوم نفسه، اتهمهم تحديداً بذلك.
لقد طالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي القادة المجتمعين بأن يباشروا فرض العقوبات على روسيا فوراً، وألا ينتظروا حتى تبدأ بغزو بلاده. كذلك اعتبر زيلينسكي تهديداتهم مجرد «إشارات فارغة» ما لم تقترن بأفعال. وقال مذكراً حضوره الغربي بآثار «سياسة المهادنة» بلهجة تحذيرية: «ما الذي ستؤدي إليه محاولات المهادنة؟ فيما تحول السؤال؛ لماذا نموت لأجل دانزيغ؟ إلى الحاجة للموت لأجل دانكرك وعشرات المدن في أوروبا والعالم، بتكلفة عشرات ملايين الأرواح...». في إشارة صريحة إلى تقاعس العالم في الدفاع عن بولندا عندما غزاها هتلر، وهو ما شجعه على التقدم أكثر والتسبب بتفجير الحرب العالمية الثانية.
وتابع الرئيس الأوكراني كلامه، فانتقد أيضاً رفض السماح لبلاده بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي «ناتو». وقال إن بلاده تخلت عام 1994 عن ترسانتها النووية، التي كانت ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم، مقابل ضمانات أمنية وقّعت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا. ومن ثم تساءل: «ما الذي حصل لهذه الضمانات؟»، وتابع يقول إن «هندسة أمن العالم ضعيفة، وبحاجة إلى تحديث. القواعد التي اتفق عليها العالم قبل عقود لم تعد تعمل، ولا تفيد أمام التهديدات الجديدة... إنها جرعة دواء سعال، بينما المطلوب لقاح ضد فيروس (كوفيد 19)».

- التذكير بخطاب بوتين قبل 15 سنة
زيلينسكي لم يشر في خطابه فقط إلى ما حصل عام 1938 في ميونيخ، بل تطرّق أيضاً إلى نقطة «تاريخية» أخرى في عمر عاصمة بافاريا، حين اعتلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منبر «مؤتمر الأمن» قبل 15 سنة، وقرأ خطاباً أثار صدمة لدى الحاضرين، وفي حينه قال كثيرون آنذاك إنه أظهر الوجه الحقيقي للزعيم الروسي.
يومذاك، اتهم بوتين الولايات المتحدة بـ«الخبث» وبـ«السعي لاستحداث عالم أحادي القطب». والأهم من ذلك، أنه استنتج خلال خطابه بعد 30 دقيقة أن النظام الليبرالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لا يهم روسيا.
هذا الخطاب، تحديداً، هو الذي عاد الرئيس الأوكراني ليذكّر به الحضور رغم مرور 15 سنة. إذ قال: «من هنا قبل 15 سنة أعلنت روسيا نواياها بأنها ستتحدى الأمن العالمي. ماذا فعل العالم؟ هادن. ما النتيجة؟ على الأقل ضم القرم وعدوان ضد بلدي».
بعد خطابه، لم يبق زيلينسكي طويلاً. بل عقد لقاءات معدودة مع الزعماء الغربيين، ثم غادر عائداً إلى بلاده. لقد كان واضحاً أن حضوره كان مدروساً، هدفه تذكير دول الغرب بواجباتها والاستفادة من دروس التاريخ. فهو تغاضى عن تحذير الرئيس الأميركي جو بايدن له قبل يوم بضرورة ألا يغادر العاصمة الأوكرانية كييف في وقت حساس. ثم إنه لم يقدّم الشكر للقادة الأوروبيين، ولا الغربيين لوقوفهم إلى جانب كييف «كلامياً»، بل اتهمهم بأنهم غير جادين، وبأنهم يدفعون بلاده «لتتسول» الحماية والدعم العسكري. وفي هذا الكلام، لم ينتقد زيلينسكي حلف «ناتو» الذي يرفض إعطاء أوكرانيا مهلة زمنية لضمها، ما يعني أنه لن يكون مجبراً على الدفاع عنها في حال شن هجوم عليها، بل انتقد أيضاً ألمانيا تحديداً، لرفضها إرسال أسلحة إلى كييف «بسبب تاريخها».

- انتقاد موقف ألمانيا
الواقع أن برلين كرّرت موقفها هذا، حتى عندما واجه عمدة كييف، الذي كان موجوداً وسط الحضور، وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيروبوك في إحدى الجلسات الحوارية. وعندها وقف العمدة والمصارع السابق فيتالي كليشكو، بقامته الضخمة، بين الحضور، وقال لبيربوك: «شكراً لإرسال 5 آلاف خوذة، ولكن هذا ليس كافياً. لا يمكننا أن ندافع عن بلدنا بها». فردّت بيربوك بتكرار الكلام عن دروس التاريخ التي لا تسمح لألمانيا بتسليح دول إبان النزاعات، قبل أن تضيف أن برلين «تبذل قصارى جهدها للتركيز على الدبلوماسية لحل التصعيد مع روسيا».
هذا، وكانت الحكومة الألمانية قد تعرضت لانتقادات شديدة بعد إرسالها خوذاً ومستشفيات عسكرية إلى أوكرانيا، خاصة أنها ثالث أكبر مصدّر للسلاح في العالم، في حين ترسل الولايات المتحدة وبريطانيا منذ أسابيع طائرات مليئة بالأسلحة لكييف. ثم إن رفض استمرار برلين إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، يأتي رغم أنها خرجت في الماضي عن الأطر التي كانت حددت فيها نفسها، وأرسلت أسلحة مثلاً لـ«البيشمركة» الأكراد في شمال العراق طوال السنوات الماضية التي كانت القوات الكردية تقاتل فيها «تنظيم داعش». وكانت تلك المرة الأولى التي ترسل فيها ألمانيا أسلحة إلى مناطق نزاعات.
لكن الدبلوماسية التي تحدثت عنها بيربوك كانت غائبة عن المؤتمر الأمني، رغم أن وزيرة الخارجية الألمانية عقدت اجتماعاً على هامشه مع فرنسا وأوكرانيا، ضمن «صيغة النورماندي». وكان الطرف الرابع والأهم في هذه المجموعة، التي أسست لمناقشة تطبيق «اتفاقية مينسك» الموقعة عام 2014 والتي تهدف للحوار بين كييف وموسكو، كان غائباً. غياب روسيا عن المؤتمر كان بإرادة الكرملين، الذي رفض الدعوات المتكرّرة لإرسال ممثلين عنه «لعرض وجهة نظره» من الأزمة، بحسب ما قال رئيس المؤتمر.
وبالفعل، لم تمضِ 24 ساعة على انتهاء «مؤتمر ميونيخ للأمن» ومغادرة الزعماء، كل إلى بلده، حتى بدأت روسيا التصعيد بشكل كبير، فأعلنت الاعتراف بـ«جمهوريتي» دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، وتبعت الخطوة بإرسال جنودها كـ«قوات حفظ سلام» إلى الإقليمين، لتتبعها ببدء غزو أوكرانيا.

- نداء يقظة للأوروبيين
من دون شك، تحول «المؤتمر» هذا العام إلى نداء يقظة بالنسبة للأوروبيين. إذ عاد النقاش بقوة حول جيش أوروبي قادر على الانتشار بسرعة وحماية حدود القارة في حالات لا يمكن لـ«ناتو» أو للولايات المتحدة التدخل مباشرة، كما هو حاصل الآن في أوكرانيا. وهذا النقاش قديم يتجدد كل سنة، وعادة لا يتعدى أيام «المؤتمر» الثلاثة، غير أنه هذا العام قد تكون له أصداء أكثر واقعية وجدية في ضوء التهديد الروسي للقارة الأوروبية، وعجز «ناتو» عن مواجهة روسيا، لكون أوكرانيا ليست عضواً في الحلف. وهو ما يعني أن الحلف غير مجبر على الدفاع عنها. واللافت أنه رغم كل هذه التحذيرات الغربية خلال الأيام التي سبقت الغزو الروسي، والتوقعات القائلة بأن روسيا ستدخل فعلاً إلى أوكرانيا، فقد شكل بدء العملية العسكرية مفاجأة في أوروبا.
من ناحية أخرى، أبرز ما أظهره فعلاً «مؤتمر ميونيخ» هذه المرة، هو متانة العلاقة عبر الأطلسي بعد سنوات من الصلات المتوترة في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب. فالمؤتمر الذي عادة ما يكون منبراً لمناقشة العلاقات الأوروبية - الأميركية، وتشارك فيه سنوياً وفود أميركية كبيرة من الكونغرس، عاد هذا العام وأكد على متانة هذه العلاقة. وحرصت نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس، ووزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، على تكرار تعبير «قوتنا في وحدتنا»، وهو تعبير أيضاً تكرر على لسان المسؤولين الأوروبيين الآخرين الذين تنفس كثيرون منهم الصعداء بعد رحيل ترمب الذي ترك آثاراً موجعة في سنوات سابقة من المؤتمر. وكانت لحظة امتناع الحاضرين عن التصفيق إبان مؤتمر العام 2018 عندما ذكر نائب الرئيس الأميركي - آنذاك - مايك بنس اسم دونالد ترمب، وقال إنه يأتي حاملاً معه تحياته الحارة، مؤشراً على مدى تدهور العلاقات بين الأوروبيين والأميركيين في عهد الرئيس السابق.
وحرصت هاريس هذا العام في كلمتها أمام المؤتمر على التأكيد أن الولايات المتحدة وأوروبا تقفان سوياً في مواجهة روسيا. وقالت تعليقاً على التصعيد العسكري الروسي الذي كان مجرد حشود عسكرية على الحدود مع أوكرانيا: «لقد حققنا وحدة لافتة مع حلفائنا (الأوروبيين)، وهذا واضح من خلال اعترافنا المشترك بالتهديدات، وردّنا الموحّد عليها وتصميمنا على حفظ الأمن والسلم العالميين». وأردفت: «نحن وحلفاؤنا أقرب معاً، وهدفنا ورؤيتنا المشتركان واضحان».
ورغم ذلك، فإن هذه الوحدة الغربية التي ظهرت في ميونيخ بوجه روسيا، عكست أيضاً واقعاً جديداً سيكون على الأوروبيين التعامل معه. إذ جاء في تقرير لـ«المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» أنه على الرغم من الوحدة الغربية في مؤتمر ميونيخ فإن «إدارة بايدن أوضحت أنه لا يمكن منح ضمانات عسكرية إلا للأطراف الأعضاء في (ناتو)، وأن أقصى ما يمكن تقديمه للدول خارج الحلف هو فرض عقوبات وإرسال معدات عسكرية والانخراط في الدبلوماسية». وأضاف «المجلس» - وهو مركز أبحاث مرموق يتخذ من برلين مقراً له - في تقريره أن «توسيع (ناتو) لأي دول، باستثناء فنلندا والسويد، ليس مطروحاً بتاتاً، وهذا قد يكون صحيحاً أيضاً بالنسبة لعضوية الاتحاد الأوروبي».



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».