تتكئ الشاعرة اللبنانية ليندا نصار في ديوانها الجديد «الغرفة 23 وقصائد أخرى» الصادر عن دار خطوط وظلال بالأردن، على اللعب بالأشياء الصغيرة المهمشة والمنسية، باحثة في ظلالها عن نقطة التقاء مغايرة، تلمّ شتات ذات مأزومة في متاهة واقع مضطرب، وتسعى لأن تجعلها أكثر التصاقاً وحميمة بذكرياتها وأحلامها وأشيائها الخاصة. ولا سبيل إلى ذلك الخروج من هذه المتاهة سوى مواجهة الشعر والحياة معاً، بلا فواصل أو عقد زمنية، الشعر ابن الحرية والتجريب والمغامرة، والحياة كما هي، حافة مراوغة، لا معنى للوقوف عليها، سوى الخوف من السقوط في الهاوية، بما تحمله من مرادفات تشي بالزوال والعدم.
ربما لذلك يظل الخوف من السقوط في هاوية الكتابة هو نقطة الأمان ألقابعة تحت قشرة الوعي، وعي الذات الشاعرة بكينونتها، والمقدرة على أن تخط وتمحو، تحب وتكره، تكون أو لا تكون، وغيرها من أسئلة وهواجس الوجود، في واقع أصبح كل شيء فيه يتحلل ويتداعى، وغدا التعايش مع الموت في كنفه، كضيف مقيم، محاولة مميتة للتشبث بالأمل في الحياة؛ واقع كابوسي، تعيشه الذات في وطن مهدد بالتفتت والانقسام. ومن ثم تبدو الكتابة وطقوسها ضرباً من الجنون ومجابهة اللامعنى في أبسط تفاصيل اللعبة، ومخاطرها إنسانياً وشعرياً.
هكذا تمهد الشاعرة لديوانها قائلة:
«ثمة جنون في طقوس الكتابة لا يستوعبه سوى من احترق بنار المعنى... هــا أنــا خــارج الغرفــة 23، ومــا زلــت أكتــب خوفاً مــن أن يفيـض الحبـر في دمـي، أكتـب لأخفّـف مـن ثقـل الحيـاة عبــر مقاومــة الصمــت الأخــرس... إننا نكتب فعلاً، كي نكون فعلاً على قيد الحياة»
في هذا التقديم لا يقين لشيء، فقط حيرة الذات والخوف من اقتران الحبر بالدم، والرهان على الكتابة كفعل مقاومة ومبرر للبقاء على قيد الحياة. لكن خلف هذا الخوف تكمن رمزية مُرة من اليأس والإحباط، تتسع دلالتها في أجواء القصائد الست عشرة، وعبر 76 صفحة من القطع المتوسط، ثمة إحباط عاطفي وإنساني واجتماعي، يتناسل بشكل متخفٍّ أحياناً، وسافر ومتحدٍ أحياناً أخرى، يطارد الذات في أبسط تفاصيلها، ويتحول إلى قناع لضحية، فقدت دورها على المسرح.
تدفع الشاعرة بهذا المعنى قصائدها إلى حد المرثية للذات والواقع معاً، وفي معادلة، تتحول فيها الذاكرة إلى مجرد أرقام مجردة ومصمتة... فعلى هذا النحو من البساطة الشعرية الموحية تقول في نص بعنوان «نوتة 36»:
«أصابع فوق خطوط جسدي
لا أحد سواي في الغرفة 23
هو مجرد ظل يراقبني
من بعيد
ينسيني كعكة الميلاد
أوقد شمعة أولى
في حديقتي السريّة
تذرفني تجاعيدي
أعدها رقماً رقماً
وأنا أعزف النوتة السادسة والثلاثين
عيني تجمع حبات الكحل الذائبة
في ظرف أصفر
وتبعث بها إليّ
على صندوق بريد الهدايا»
يبدو المشهد هنا وكأنه اختزال لتداعيات الداخل والخارج، وصدى ذبذبة شاردة في فراغ لوحة العمر، فراغ النوتة والموسيقى معاً، بينما تتسم الصورة الشعرية بمسحة من الشجن الذاتي، تتسرب عبر دوال النفي والقطع (أصابع فوق، لا أحد سواي، هو مجرد) ويمنح تتالي الفعل المضارع الذات مسافة رخوة، لتراقب موضوعها من زوايا متعددة، وفي علاقة لا تخلو من الإحساس بالوحشة والفقد، حيث لا هدايا، سوى حبات الدموع ترتد إلى العين نفسها، بعدما ذابت في الكحل.
يستعيد المشهد السابق نفسه في مونولوج مشرَّب بنبرة من البوح، في نص بعنوان «دهشة رقم جديد» (ص 23) تتقاطع فيه المرايا وتتجاور، وتصدره الشاعرة بومضة من شعر بدر شاكر السياب تقول: «القبلة برعمة القتل»، فيما يقول النص:
«لم أكن سوى فتاة فندق
تعلِّقُ حزنها في هواء غرفة
كتب على سوادها 23
هكذا نادتني الأرقام يومها
بغصّة من وراء الباب
كيف حصل هذا الطرق الخفيف في ذاكرتي؟».
تدور بي السماء
غير آبهة بسقوطي الأخير
في نهر الحيرة
أحمل كرة نار في أحشائي
أقلِّم الوقتَ بأسناني
متسائلة عن كريات دمي التي تأخرت
خلسة مني
لم أوقن أبداً أن الحياة ستبني رؤاي في السِّر
تفاصيل الغروب لا أجنحة لها
أحمل عيني الشاردة
وفي كأس الانتظار
أتخيل ألف شكل لي «
تترك الشاعرة الإجابة عن سؤالها مفتوحة على أقسى لحظات الونس والعزلة معاً، الونس برفقة باقة من الشعراء (أدونيس، درويش، حجازي، الفيتوري، السياب) وغيرهم، تستأنس بهم كنقرات مضيئة على باب النص، من الوقوع في براثن الخوف، وضجر الرقم «23» عنوان حيزها المكاني الضيق، والذي تحول إلى فوبيا، تطالعها في تذكرة السينما وفي غرفة العناية بالمشفى. كما ينتصب أحياناً كلعبة مضادة، توهم بخلاص عابر مؤقت وساخر، فينسخ الرقم نفسه في أرقام أخرى، ويتراءى كثقب في ذاكرة معطوبة، تنزوي الذات الشاعرة في داخلها بهويتها المنتهكة، تتلمس طاقة ما، لمواصلة الكتابة واللعب مع الأرقام بإحساس آخر، يردها لأجواء الصبا والطفولة «يقول الطيف: هذا الحلم صغير جداً - لِمَ لا تقلبين الأعداد لتتقاعدي مرة أخرى في الثالثة والستين».
لا يتوقف هذا الخلاص المشحون بالمرارة والسخرية عند لعبة الأرقام وما تضمره من الإحساس بالتشيؤ وفقد القيمة والمعنى، وإنما يمتد إلى كل تفاصيل الحياة، ونلمح حالة من التنكر، تتحايل فيها الذات على موضوعها، وتنقسم عليه من موقع الضد، فتخاطبه بضمير المخاطب، وبنرجسية مفتعلة؛ بحثاً عن أسطورة خاصة، يمكن اللواذ بها، إلى حد التلاشي، تماماً كما فعل الفتى الجميل نرسيس، المغرم بوجهه السابح فوق صفحة الماء، كما تقول الأسطورة اليونانية، وتطالعنا أصداؤه في هذا النص التي تصدره بومضة مرحة للشاعرة البولونية «هالينا بوسفياتوفسكا»، عن ماضي القبلات وحاضرها (ص 14):
«يسخرون من تسريحة شِعْرها
يقطفونه بالغيمات الصناعية
كلما تأخَّر المطرُ
تصلي القصيدة تحت وابل من الصور
المجنونة في الضاحية
نكاية في من يمجد الحرب
أسترق نظّاراتٍ طيبة من عينيها
كي لا تفضحني الاستعارة
أهذا هو قلبُ المعنى في العين
أم مجردُ ظلٍّ يترنح من غرفة تجاور حزني
المساء ثقي
والشاعرة تراقص بحيرة خرساءَ من الانتظار
نرسيس صديقها الوحيد يرمي بخاتمه السحريِّ
إلى أصابعها الخشبية
ترفضه
تعيده إلى جيبه المثقوب بالحصى
مرة أخرى يمسح عرقه بالزيت
يردِّد ابتسامات مقلوبة ليلاً
على صفحة الماء
في خزانة غرفتها تذكّرت كيف كان يتودد إليها في السِّر،
ونبيذه يخطف العين».
يشكل القسم الثاني من الديوان، والذي عنونته الشاعرة بـ«قصائد أخرى» وجهاً آخر لمراثي الذات، تتماثل فيه صورة مدينتها «بيروت»؛ المهددة بكوارث الحرب والفساد مع مشاهد وتاريخ مدن أخرى، زارتها، وتنفست هواءها، ولفحتها قصص حانية عابرة عاشتها في شوارعها وأزقتها ومقاهيها. بهذه الروح تودع القسم الأول قائلة (ص47):
«لا وقتَ للحبّ
كواكب السماء أغلقت مجرّات أحلامها
حتى مساءات الشتاء ستفقد وقتها يوم يعبث بها
تقول في نفسها هكذا هو العالم
دخانٌ سابق لنيرانه
يشعل ألفَ قصيدة في رئة شاعرة
خنقتها الحرب»
وسط هذه الأجواء المشوبة بإحساس لاعج بالغربة تستعيد ليندا نصار مشاهد وصور مدائنها البديلة المفضلة: مرتيل المغربية، مسقط العمانية، باريس وكنيسة نوتردام وأصداء الحريق الذي ضربها في مقتل، وفيكتور هوغو، وروايته الشهيرة عنها: «القصيدة التي أجلت مفاجأتها حتى السطر الأخير - لم تدرك يومها أن الهواء سيضيع بوصلة الحياة - وأن الموت لا يغرف التأجيل: هذا ما كان يظنه فيكتور هوغو.. - هنا شمعة أمام مذبح الحب».
اللافت في قصائد هذه القسم علو نبرة التبرير في بناء الصورة الشعرية، ما يجعلها أقرب إلى روح المنطق وتراتب المقدمات والنتائج، منها على سبيل المثال(ولأني لست حرا أترك لك بقية القصيدة في درج المكتب - كي تفكري في نهاية تصلح لها) ص 69. (من أنا... كي لا أحمل في حلقي غيمة صغيرة تشبهني) ص 61. إضافة إلى تشتت الوصف - أحياناً - ما بين المظاهر الخارجية للمكان وبين التوثيق الداخلي للمشهد شعرياً المفعم بالعواطف والمشاعر الذاتية... ورغم هذه الهنّات الطفيفة حمل الديوان صوتا شعرياً خاصاً، قادراً على إثارة الدهشة والأسئلة ببساطة وسلاسة لغوية شائقة.
مراثي الذات في واقع مضطرب
الشاعرة اللبنانية ليندا نصار في «الغرفة 23 وقصائد أخرى»
مراثي الذات في واقع مضطرب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة