الفيلسوف تشالمرز يستكشف تضاؤل الحدود بين الواقعي والافتراضي

العوالم الرقمية ومعضلات الفلسفة

ديفيد تشالمرز
ديفيد تشالمرز
TT

الفيلسوف تشالمرز يستكشف تضاؤل الحدود بين الواقعي والافتراضي

ديفيد تشالمرز
ديفيد تشالمرز

كانت طبيعة الوعي Consciousness، ولم تزل، إحدى المعضلات الوجودية التأصيلية الثلاث: أصل كل من الوعي والكون والحياة. يقترن البحث الفلسفي والعلمي الخاص بمعضلة الوعي - بالضرورة - مع معضلة الواقع، أو لنكن أكثر دقّة: مع كيفية تعاملنا مع ما نسمّيه «الواقع الحقيقي». ثمة العديد من المعضلات الفلسفية المتصلة مع دينامية تعاملنا مع الواقع الحقيقي، وليس خافياً أنّ المدرستين الفلسفيتين الكلاسيكيتين (المثالية والتجريبية) إنما تخالفت في كيفية تشكيل الواقع في العقل البشري. ربما كان التمييز بين العالم الواقعي وسواه من عوالم مُخلّقة أيسر في عصور سابقة عندما لم تكن التقنيات الرقمية قد تطوّرت وبلغت مديات غير مسبوقة كما نشهد في أيامنا هذه؛ لكنّ التطويرات الثورية في حقل العوالم الافتراضية Virtual Worlds المدعمة بالقدرات الحاسوبية المتعاظمة باتت تفرض مقاربة مختلفة للحدود الفاصلة بين العالم الواقعي والعوالم الافتراضية. النتيجة المتحصلة التي صارت تفرض كينونتها بقوة هي الاضمحلال المتواتر بين تلك العوالم، وليس بعيداً ذلك اليوم الذي سنشهد فيه توازياً فلسفياً ومعيشياً بين العالم الواقعي والعوالم الافتراضية.
يردُ اسم الفيلسوف الأميركي - الأسترالي ديفيد تشالمرز David Chalmers كأحد الفلاسفة العلماء الأكثر تأثيراً في الحقل البحثي الخاص بطبيعة الوعي واستكشاف الحدود بين العالم الواقعي والعوالم الافتراضية. يعمل تشالمرز في الوقت الحاضر أستاذاً للفلسفة والعلوم العصبية في جامعة نيويورك، كما يعمل مديراً مشاركاً لمركز (العقل، الدماغ، الوعي) العائد للجامعة ذاتها. يعمل تشالمرز كذلك أستاذاً فخرياً للفلسفة في الجامعة الوطنية الأسترالية، وتشغل اهتماماته طيفاً بحثياً واسعاً يمتد من فلسفة العقل (وبخاصة الوعي) إلى الأسس الفلسفية لكلّ من العلوم الإدراكية، والفيزياء، والتقنية، فضلاً عن مساهماته الكبيرة في فلسفة اللغة، والميتافيزيقا، والابستمولوجيا. تشهد الكتب التي نشرها تشالمرز بهذا الطيف البحثي الواسع الذي يميز نشاطه، ومن هذه الكتب (سأكتفي بذكر عناوينها العربية فحسب):
- العقل الواعي: في البحث عن نظرية أساسية - 1997
- فلسفة العقل: قراءات كلاسيكية ومعاصرة - 2002
- طبيعة الوعي - 2010
- تكوين العالم - 2012
أحدثُ كتب تشالمرز هو كتابه المنشور في 25 يناير (كانون الثاني) 2022، وقد اختار له العنوان التالي الواقع+: العوالم الافتراضية ومعضلات الفلسفة، وبالإنجليزية هو:
Reality +: Virtual Worlds and the Problems of
Philosophy
جاء هذا الكتاب البدين ذو الـ544 صفحة متزامناً - أو بعد وقت قصير - من إعلان عملاق شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» تحوّله إلى شبكة «ميتافيرس» التي تنطوي على ميزات افتراضية كبرى، وقد رأى المعاضدون لهذا التحوّل إضافة نوعية في رؤيتنا لمعنى وكينونة «الواقع الافتراضي»، حيث سيكون متاحاً للبشر العيشُ والعملُ واللعبُ في عوالم افتراضية بديلة عن الواقع المفترض أنه واقع حقيقي؛ في حين رأى المناوئون لهذه الانتقالة النوعية مزيداً من تكريس قوى السيطرة للشركات العملاقة على عقول البشر وتشكيل طبيعة حياتهم المستقبلية. صار هؤلاء المناوئون يتحدثون عن «استعمار العوالم الافتراضية» للحياة البشرية.
يرى تشالمرز في «ميتافيرس» إمكانية مثيرة ستساهم في تعزيز فهمنا لمعضلات الهوية Identity، الوعي، العناصر الوسيطة Agency التي لطالما كانت ميدان بحث وتفكّر الفلاسفة منذ عصر أعاظم فلاسفة الإغريق وحتى يومنا الحالي. يمثل الواقع البديل للواقع الحقيقي تحديا مستمرا لبعض أكثر مفهوماتنا المسبقة والراسخة بشأن الواقع، وغالباً ما تتمظهر هذه التحديات بأشكال غير مسبوقة؛ الأمر الذي يفتحُ نوافذ جديدة غير مطروفة من البحث الفلسفي. يسمّي تشالمرز هذا البحث الفلسفي الجديد الفلسفة التقنية Technophilosophy، ويختصر جوهره بالمواضعة التالية: الفلسفة تساعدنا على فهم معظم المعضلات المستجدة بشأن التقنية، وفي المقابل تساعدنا التقنية على فهم معظم المعضلات القديمة بشأن الفلسفة.
يضمُّ الكتاب أربعة وعشرين فصلاً، كلّ فصل منها يبدأ بمساءلة واحدة من المعضلات الفلسفية القديمة، ثم يستكشف تشالمرز - بطريقة شديدة البراعة لا تنقصها الحرفنة الفلسفية الأنيقة - كيف يمكن لهذه المعضلات أن تكون ميداناً للبحث على ضوء المستحدثات الجديدة في عصر الواقع الافتراضي. إنه تعشيق إذن بين الفلسفة القديمة والتقنية الحديثة. من المعضلات التي يتناولها بتفصيل وإسهاب ثمة ثلاث أساسية: ما هو الواقع؟ وهل ثمة وعي في العالم الرقمي؟ وكيف ينبغي أن ننشئ مجتمعاً افتراضياً؟ يبدو تشالمرز مؤهلاً بعدّة مفاهيمية علمية وتقنية وفلسفية ضاربة لتناول مثل هذه المعضلات وتقديم إجابات مقبولة لها؛ فقد كان على الدوام عاشقاً للألعاب الحاسوبية وروايات الخيال العلمي، ولطالما كان مهووساً بحب التقنية وتطبيقاتها الواسعة. يُعرفُ عن تشالمرز أنه علّم نفسه ذاتيا لغة البرمجة الحاسوبية المسمّاة Basic عندما كان في العاشرة من عمره، وقضى معظم وقت الإغلاق بسبب الجائحة الكورونية في غرف الدردشة يتبادل الأحاديث الفلسفية المنتجة (وليس هراءات يعمد أصحابها لقتل الوقت عبثاً) مع زملائه الفلاسفة الذين يشاطرونه ولعه الفلسفي. ليس غريباً بعد هذا أن نشهد تشالمرز في كتابه يمازج بين الفلسفة الصينية القديمة والثنائية الديكارتية (معضلة العقل - الجسد) والميتافيزيقا المخبوءة في فيلم Matrix (بنسخه العديدة) وألعاب الحرب الحاسوبية. يؤكد تشالمرز في هذا الشأن، أنّ كُتّاب الخيال العلمي إنما يقدّمون أفكاراً عميقة لا تقلّ شأناً عن الأفكار التي يقدّمها أعاظم الفلاسفة. من الواضح أنّ هذا القول ينطوي على دعوة لتفعيل أهمية الخيال البشري في الحياة، سواء كانت في نطاق واقع حقيقي أو عوالم افتراضية.
يقدّم تشالمرز في كتابه الجديد ادعاءً واحداً أساسياً مع بضعة ادعاءات صغرى. الادعاء الرئيسي لتشالمرز في كتابه يقوم على رؤية مفادُها أنّ الواقع الافتراضي في العقود القليلة المقبلة سيكون غير قابل للتمييز indistinguishable عن الواقع الفيزيائي (المادي) الموصوف بأنه واقع حقيقي، وسيغدو جهداً لا معنى له إذا حاولنا التفريق بين العالمين. الواقع الافتراضي سيكون واقعاً أصيلاً كما الواقع الحقيقي.
إذا أثبت المستقبل القريب صحّة توقعات تشالمرز سيكون هذا مدعاة لإثارة طائفة من التعقيدات الإشكالية، منها على سبيل المثال: كيف يمكن أن نعيش حياة طيبة داخل نطاقات غير مادية (أي افتراضية)؟ وكيف سيتمّ إدارة وتنظيم فضاءاتنا الافتراضية الجمعية؟ بل إن تشالمرز يتحدّث عن يوم ستكون فيه الحواسيب ذات قدرة كافية لمحاكاة عمل الـ86 بليوناً من الخلايا العصبية المكوّنة للدماغ البشري؛ الأمر الذي يتيح لنا تحميل الجوهر المعلوماتي المُخزّن في أدمغتنا على وسائط مادية ستكون نسخاً رقمية من كينونتنا البشرية المادية المعروفة. يرى تشالمرز، أنّ التطوّر التقني الحالي في العوالم الرقمية الافتراضية سيقودنا نحو شكل من ديكتاتورية الشركات الرقمية المزوّدة للخدمات الافتراضية Corporatocracies التي ستكون لها سطوة لا مفرّ منها في تشكيل نمط حياتنا. لن يتخذ المواطنون الافتراضيون موقفاً سلبياً إزاء تلك الشركات؛ بل سيعمدون إلى المطالبة بحقوق كاملة لهم، وسيؤدي هذا الأمر إلى نشوء توترات سياسية تسعى لتحجيم ديكتاتورية الشركات الرقمية العملاقة. هذه الانتقالة نحو عالم جديد يتمحور على الواقع الافتراضي والتطبيقات الواسعة للذكاء الصناعي ستعيدُ هيكلة المجتمع بكامله.
لطالما تساءل البشر منذ عهد فلاسفة الإغريق والصينيين القدماء عن طبيعة الواقع، واتخذ تساؤلهم الشكل المحدّد التالي: أليس ممكناً أننا نعيشُ في عالم وهمي مخادع illusory نحنُ أسميناه واقعاً حقيقياً، أو أننا قد نعيشُ في نطاق محاكاة simulation من نوعٍ ما؟ يجري الحديث اليوم عن محاكاة حاسوبية قد تكون حقيقة كبرى لم تبلغها وسائلنا الحسية القاصرة. يوردُ تشالمرز مثالاً يدعو للإثارة عندما يذكّرنا بفيلسوف صيني يدعى (زوانغ زو) عاش في الصين في القرن الرابع قبل الميلاد. كتب زو عن حلمٍ رآه في منامه واستحال فيه فراشة، وبعدما استيقظ من منامه راح يسائل نفسه: هل هو حقاً زوانغ زو الذي حلم بأنه صار فراشة، أم أنه فراشة حلمت بأنها صارت زوانغ زو؟ يعلّق تشالمرز أننا أبعدُ ما نكون عن بلوغ إجابة دقيقة لهذا السؤال حتى في يومنا هذا، ويضيف قائلاً «عالم الحلم هو نوعٌ من العالم الافتراضي؛ لكنما من غير جهاز حاسوب!»، ثم يكمل «العالم الذي نعيش فيه قد يكون عالماً افتراضياً. لستُ أقول إنه عالم افتراضي حتماً؛ لكن كونه عالماً افتراضياً هو احتمالٌ لا يمكننا استبعاده».
كتابُ تشالمرز شديد الإمتاع لكلّ من له شغف بالعوالم الرقمية والتفاصيل الحاسوبية والفلسفات التقنية والمخيال البشري الذي يمازج بين روايات الخيال العلمي والتطوّرات التقنية الثورية التي نشهدها على أرض الواقعين الحقيقي والافتراضي، ولعلّ ترجمته القريبة إلى العربية ستجعله متاحاً لكلّ الشغوفين بالعوالم الافتراضية التي باتت تقترب من أن تكون عوالم موازية لعالمنا الحقيقي.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.