«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

بعد إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية وسط تخبط المشهد السياسي

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا
TT

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

«الثمانيني» سيرجيو ماتاريلا يستأنف دوره كـ«إطفائي» إيطاليا

عند انتصاف النهار الأخير من الشهر الماضي كانت شاحنة ضخمة تحمل الأمتعة الخاصة لرئيس الجمهورية الإيطالية سيرجيو ماتاريلا متجهة من العاصمة روما إلى مسقط رأسه نابولي، حيث كان قرّر الانتقال بعد تسليم منصبه للرئيس الجديد الذي كان البرلمان ينتخبه منذ مطلع ذلك الأسبوع. ولكن في هذا الوقت بالذات، اتصل مدير المراسم في رئاسة الجمهورية بالسائق يطلب إليه العودة إلى العاصمة، لأن الرئيس قرّر البقاء سبع سنوات أخرى في منصبه.
حصل ذلك بعد دقائق من تجاوب ماتاريلا مع الطلب الملحّ الذي كان نقله إليه ذلك الصباح رؤساء الكتل النيابية لتجديد ولايته. وكان ماتاريلا قد أعلن مراراً وتكراراً رغبته عن تجديدها لأسباب خاصة ودستورية، إثر فشل البرلمان - ومعه السياسة الإيطالية برمتها - في انتخاب رئيس جديد، بعد ستة أيام. وجاء الفشل بعد سلسلة من الجلسات المتتالية التي كانت أشبه بمسرحية سوريالية تابعها الإيطاليون بين الدهشة واللامبالاة، والخيبة العميقة من الطبقة السياسية التي نادراً ما كانت في مستوى التحديات والاستحقاقات الكبرى.
وبانتخابه، أصبح ماتاريلا الرئيس الثالث عشر للجمهورية الإيطالية، والثاني الذي يجدد ولايته بعد سلفه جيورجيو نابوليتانو الذي وجد نفسه في وضع مماثل منذ تسع سنوات، عندما عجزت الأحزاب السياسية عن انتخاب خلف له، وطلبت منه تمديد الولاية لسنتين. وفي حين قوبل انتخاب ماتاريلا بارتياح واسع في الأوساط الشعبية، التي وجدت فيه مرة أخرى منقذاً من العقم السياسي الذي تتخبط فيه البلاد منذ عقود، تنفَّست العواصم الأوروبية الصعداء بعدما كانت تراقب بقلق عميق انحدار الشريك الإيطالي نحو هاوية جديدة في هذه المرحلة الحرجة.
وُلِد سيرجيو ماتاريلا، رئيس جمهورية إيطاليا، في صيف 1941، وترعرع في كنف أسرة ناشطة سياسياً ضمن صفوف حزب الديمقراطية المسيحية «الحزب الدولة» - أو «الحزب الديمقراطي المسيحي»، الذي هيمن على المشهد السياسي الإيطالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى مطالع ثمانينات القرن الماضي.
كان والده برناردو قد تولّى حقائب وزارية خمس مرات متتالية، في أعقاب توليه عدة مناصب برلمانية وتنفيذية في جزيرة صقلية. وبعد تخرّج سيرجيو في كلية الحقوق بجامعة روما، اتجه إلى التخصص في القانون البرلماني والدستوري والتدريس في جامعة باليرمو (كبرى مدن صقلية) عندما وقعت حادثة اغتيال شقيقه بيرسانتي. بيرسانتي كان رئيساً لمنطقة صقلية، وقد اغتيل على أيدي المافيا، مطلع عام 1980. ويومذاك كان سيرجيو على بُعد أمتار منه، وحاول يائساً إنقاذه بعد إصابته بست رصاصات داخل سيارته.

- مأساة جعلته سياسياً
تلك الحادثة المأساوية غيّرت مجرى حياة سيرجيو ماتاريلا، الذي قرّر على الأثر التخلي عن التدريس الجامعي والانصراف إلى السياسة. وبالفعل، ترشّح إلى الانتخابات البرلمانية للمرة الأولى في عام 1983، وظل عضواً في مجلس النواب حتى عام 2008. وإبان هذه المسيرة ترأس لجنتي الشؤون الدستورية والعلاقات الخارجية، كما تولّى وزارة العلاقات مع البرلمان، عام 1987، ثم شغل حقيبة وزارة التربية والتعليم عام 1989. وفي عام 1998، عُيّن نائباً لرئيس الوزراء، ثم وزيراً للدفاع حين أُلغيت على عهده الخدمة العسكرية الإلزامية.
كان ماتاريلا ينتمي إلى الجناح التقدمي في حزب «الديمقراطية المسيحية»، ذلك الجناح الذي كان المخرج السينمائي الشهير والناشط السياسي بيير باولو باسوليني - الذي اغتاله الفاشيون - يطلق عليه مسمى «اليسار الكاثوليكي». وبعد انفراط الحزب تحت وطأة فضائح الفساد التي كشفتها مجموعة قضاة «الأيادي النظيفة»، لعب ماتاريلا دوراً أساسياً في تشكيل حزب «الزيتون» الذي كان يضمّ التقدميين في «الديمقراطية المسيحية» إلى المعتدلين في الحزب الاشتراكي وبعض القوى اليسارية. وفي عام 2008، قرّر ألا يترشح للانتخابات، منهياً بذلك نشاطه السياسي، لينتخب بعد ذلك عضواً في المحكمة الدستورية عام 2011.
ولكن، في عام 2015، جاء انتخابه رئيساً للجمهورية مفاجأة لكثيرين. وتحقق هذا الأمر بعد الاتفاق الذي كان توصل إليه السياسي والملياردير اليميني سيلفيو برلوسكوني مع خصمه اليساري اللدود ماسّيمو داليما لانتخاب جوليانو داماتو (والثلاثة من رؤساء الحكومات السابقين). لكن رئيس الوزراء الشاب والنجم الصاعد في صفوف الحزب الديمقراطي ماتّيو رنزي فاجأ الجميع بترشيحه ماتاريلّا، الذي جرى انتخابه في الدورة الثالثة.
كانت ولاية ماتاريلا الأولى محفوفة بالمصاعب منذ بدايتها، إذ كانت تتعاقب على إيطاليا حكومات تتشكّل من تحالفات برلمانية هشّة، بعد مخاض طويل وعسير. وفي الوقت الذي كانت القوى اليمينية المتطرفة المناهضة للمشروع الأوروبي تصعد بسرعة في المشهد السياسي الإيطالي، كانت الأحزاب المعتدلة تواصل تشرذمها، وتتعمق الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ سنوات. مع هذا، أظهر الرئيس المخضرم الآتي من عمق التجربة الديمقراطية المسيحية قدرة عالية على الاعتدال والحياد والدفاع عن المؤسسات الدستورية، وكان على مسافة متساوية من جميع القوى السياسية المتناحرة في بلد تهوى أحزابه العمليات الانتحارية في أعصب الأوقات.

- ترنح الحكومات...وصعود اليمين
وجرياً على عادتها منذ قيام «الجمهورية الأولى»، شهدت إيطاليا خمس حكومات خلال الولاية الأولى لماتاريلا، الذي أوشك في إحدى المرات على تجاوز البرلمان، والدفع لتشكيل حكومة تكنوقراط منعاً لوصول الشعبويين واليمين المتطرف إلى الحكم. وبعد فترة من التوتر الشديد ذهب حزب «النجوم الخمس» الشعبوي، الذي يملك أكبر كتلة في البرلمان، حد التهديد بعزله، فيما كان زعيم «الرابطة» اليميني المتطرف ماتّيو سالفيني يكرر أن سرجيو ماتاريلا ليس رئيسه. غير أن ماتاريلا استطاع أن يستقطب تأييداً شعبياً واسعاً راح ينعكس تدريجياً على التفاف الأحزاب السياسية حوله، والتوافق عليه بوصفه الوحيد القادر على إخراج البلاد من المستنقع السياسي الذي وصلت إليه.
ومع أن النظام السياسي الإيطالي ليس رئاسياً، بل يحصر السلطات التنفيذية بيد رئيس الحكومة، فإنه يعطي رئيس الجمهورية صلاحيات حساسة تكتسب أهمية كبيرة في الأزمات، مثل سلطات تعيين رئيس الحكومة وحل البرلمان والدعوة إلى إجراء الانتخابات العامة. وكان ماتاريلا قد لجأ إلى استخدام هذه الصلاحيات منذ بداية ولايته، عندما عيّن باولو جنتيلوني، وزير الخارجية الأسبق والمفوّض الأوروبي للشؤون الاقتصادية حالياً، لتشكيل حكومة وقطع الطريق أمام اليمين المتطرف الذي كان يدفع باتجاه الانتخابات المسبقة التي كانت الاستطلاعات ترجّح فوزه بها. وعندما توافق حزب «الرابطة» مع «النجوم الخمس» لتشكيل حكومة ائتلافية في ذروة هجوم القوى اليمينية المتطرفة على المشروع الأوروبي، رفض ماتاريلا إسناد وزارة الاقتصاد إلى بالو سافونا الذي كان ينادي بالخروج من نظام العملة الأوروبية الموحّدة.
في أول تصريح لماتاريلا بعد عودته عن قراره عدم التجديد، وتجاوبه مع طلب القوى البرلمانية قبول انتخابه لولاية جديدة، استخدم الرئيس الإيطالي «الثمانيني» عبارات قاسية مثل «الظروف العصيبة» التي تعيشها البلاد، بسبب الأزمتين الصحية والاقتصادية. وشدّد على «روح المسؤولية» لمواجهة «حالة الطوارئ» السياسية لتوصيف الحالة التي وصلت إليها إيطاليا.
وإذا كان انتخاب ماتاريلا لولاية ثانية مبعثاً للارتياح في الداخل والخارج، لما يمثّله من قدرة على الاعتدال والاستقرار، فهو أدى إلى المزيد من الانشقاقات داخل القوى الرئيسة في الائتلاف الحاكم وقياداتها المتنازعة. وكان أبرز الخاسرين في حصيلة المناورات على الجلسات البرلمانية الست لانتخاب الرئيس، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني الطامح لقيادة تحالف القوى اليمينية في الانتخابات المقبلة، الذي بدأ نجمه بالأفول بعدما تصدعت علاقته بحليفيه برلوسكوني وزعيمة حزب «إخوان إيطاليا» جورجيا ميلوني، التي تنافسه منذ أشهر على قيادة القوى اليمينية المتطرفة.
الخاسر الآخر كان جيوزيبي كونتي، رئيس الوزراء السابق والزعيم الجديد لحزب «النجوم الخمس»، الذي يتعرّض لخطر الانقسام الوشيك، بعد المواجهة الصدامية التي نشأت عن الانتخابات الرئاسية بين كونتي ووزير الخارجية وأحد رموز الحركة، لويجي دي مايو.

- خادم ومنقذ للديمقراطية
من ناحية أخرى، عندما قبل ماتاريلا بتجديد ولايته، وقال: «أنا مواطن في خدمة الجمهورية ولا أستطيع التنصّل من هذه المسؤولية»، كان يدرك أن قراره هذا قد يكون فرصة أخيرة لإعادة تشكيل النظام السياسي الإيطالي الذي يتهاوى منذ ثلاثة عقود. وهو النظام الذي جعل من إيطاليا الحلقة الأضعف بين الديمقراطيات الأوروبية، ومن حالة الطوارئ السياسية تعبيراً لازماً في قاموسها السياسي.
لكن السنوات السبع الأولى التي أمضاها ماتاريلا في رئاسة الجمهورية لم تقتصر على تجسيده المؤسسات الدستورية وحرصه الدؤوب على صونها والدفاع عنها في وجه المحاولات العديدة، والمستميتة أحياناً، لتجاوزها؛ فهو كان حريصاً أيضاً على إعادة الاعتبار للفئات الاجتماعية التي همّشتها السياسة في صراعاتها الطويلة والعقيمة من أجل البقاء والتوارث الذاتي. ومع مرور السنوات اكتسب الرئيس الهادئ تأييداً شعبياً كاسحاً كان يظهر بعفوية خلال تنقلاته، واحتراماً عميقاً في المحيط الأوروبي عبّرت عنه شهادات الدكتوراه الفخرية التي منحته إياها جامعات أوروبية مرموقة، والمدائح التي كانت تنهال عليه من نظرائه الأوروبيين.

- هل يكمل مدة رئاسته؟
ليس معروفاً بعد ما إذا كان ماتاريلا سيكمل السنوات السبع من ولايته الرئاسية الثانية، خصوصاً أنه تجاوز الثمانين من العمر، وكان صرّح مراراً بأنه راغب في الانكفاء عن النشاط السياسي. وليس من المستبعد أن يكتفي بسنتين فحسب من هذه الولاية حتى إجراء الانتخابات العامة المقبلة في ربيع عام 2023، وتشكيل الحكومة الجديدة، تمهيداً لوصول رئيس الوزراء الحالي ماريو دراغي إلى رئاسة الجمهورية. والمعروف على نطاق واسع أن دراغي يسعى للرئاسة ويتوافق الجميع على أنه المرشح الأمثل لتوليها، لكنه عزف عنها نزولاً عند الضغوط الأوروبية والدولية كي يبقى في رئاسة الحكومة حتـى إنجاز خطة الإنقاذ والإصلاحات الهيكلية التي فشلت إيطاليا في تحقيقها طوال العقود الثلاثة الماضية. وثمة اعتقاد بأن هذه المعادلة كانت في أساس الاتفاق بين ماتاريلا ودراغي عندما قبل هذا الأخير في العام الماضي تكليفه تشكيل الحكومة الحالية.
مقابل ذلك، من المحتمل أيضاً أن يكمل ماتاريلا ولايته حتى النهاية ليصبح الرئيس الذي أمضى أطول فترة في رئاسة الجمهورية الإيطالية، إذا ما قرر دراغي الترشح لمنصب رئيس المفوضية الأوروبية خلفاً لأورسولا فون در لاين، الرئيسة الألمانية الحالية للمفوضية، التي تتراجع حظوظها في تجديد ولايتها، خاصة بعدما فقدت دعم «عرّابتها» المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.
الذين يراهنون على بقاء ماتاريلا حتى نهاية ولايته يربطون ذلك ببعض الاستحقاقات الدستورية التي قد تنشأ عن البرلمان الذي ستتمخض عنه الانتخابات العامة المقبلة، ومنها تعديل الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب بعد المهازل المتكررة التي تسبب بها انتخابه من مجلسي النواب والشيوخ والرؤساء الإقليميين، فضلاً عن احتمال تعديل قانون الانتخاب الذي يشكّل بنداً دائماً على برنامج الأحزاب السياسية الإيطالية. ولا يستبعد هؤلاء أن ماتاريلا، الضليع في القوانين البرلمانية والدستورية، له رغبه في مواكبة هذه الاستحقاقات وتوجيه دفتها.


مقالات ذات صلة

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

حصاد الأسبوع الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

تنطلق الأحد، الجولة الأولى من الانتخابات النيابية الفرنسية المبكرة، حيث دعي 49.5 مليون مواطن فرنسي للتوجه إلى صناديق الاقتراع بعد سنتين فقط من الانتخابات السابقة المماثلة. ولقد كان من المفترض أن تحصل هذه الانتخابات في العام 2027، بيد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نسف الأجندة الانتخابية بقراره ليل الأحد في التاسع من يونيو (حزيران) الحالي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. هذا الأمر أثار الذهول ليس في فرنسا وحدها، بل أيضاً داخل الاتحاد الأوروبي... لا، بل إن المستشار الألماني أولاف شولتس، المعروف بتحفظه، لم يتردد في التعبير عن «قلقه» إزاء ما ستحمله نتائج الانتخابات، وتخوّفه من تمكن اليمين المتطرّف ممثّلاً بـ«التجمع الوطني» ورئيسه الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 سنة فقط، إلى السلطة.

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع مارين لوبن (رويترز)

ماكرون: أنا موجود في الإليزيه حتى مايو 2027... ولن أخرج منه

> إزاء واقع الانسداد السياسي، لم تتردد مارين لوبن، زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف والطامحة في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، في دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون.

حصاد الأسبوع ستيفاني خوري

ستيفاني خوري... «خبيرة حل أزمات» تسعى إلى إنهاء «الانسداد السياسي» في ليبيا

دفع اختيار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري، نائباً للمبعوث الأممي إلى ليبيا، إلى الكلام عن مساعٍ للاستعانة بـ«خبيرة الأزمات» لإنهاء حالة «الانسداد السياسي» في ليبيا، التي لم تفلح معها جهود المبعوثين الأمميين السابقين على مدار أكثر من 13 سنة. ثم إن اختيار خوري، خلال مارس (آذار) الماضي «قائماً بأعمال المبعوث الأممي» هناك، أعاد إلى الأذهان الدور الذي لعبته مواطنتها ستيفاني وليامز قبل 4 سنوات عند اختيارها نائباً للمبعوث الأممي، ثم مبعوثة أممية في مارس 2020. وكانت وليامز قد أشرفت حينذاك على اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية»، والاتفاق على إجراء انتخابات كانت مقرّرة في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021، قبل تعثر تلك الخطوة.

أحمد إمبابي (القاهرة)
حصاد الأسبوع من جولات القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان (رويترز)

التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»... تمهيد للأسوأ أم للتسوية؟

انتقلت المواجهات بين «حزب الله» اللبناني وإسرائيل إلى مرحلة الحرب النفسية مع ارتفاع مستوى التهديدات بين الطرفين واستمرار العمليات التي تتصاعد حدّتها وتتراجع وفقاً لمسار المساعي التي تبذل لمنع توسّع الحرب إلى لبنان. اليوم، يستخدم كل من «حزب الله» وإسرائيل وسائل التهديد التي انتقلت من الشروط والشروط التفاوضية المضادة إلى الرسائل السياسية والعسكرية، التي وصلت إلى الإعلان عن «بنك أهداف» الحرب المقبلة؛ الأمر الذي يطرح جملة من «علامات الاستفهام» حول النيات الحقيقية خلفها، منها ما يراه البعض أنها ليست إلا سعياً لرفع سقف التفاوض ؛لأن لا مصلحة للطرفين بتوسيع الحرب، ولا قرار حاسماً بهذا الشأن.

كارولين عاكوم (بيروت)
حصاد الأسبوع حوار على الواقف بين هوكشتين مع بري في بيروت (آ ف ب/غيتي)

«الحرب النفسية» تنعكس توتّراً في لبنان

> على الرغم من أن أهالي جنوب لبنان يعيشون حرباً حقيقية، فإن اللبنانيين بشكل عام، ومعهم القطاعات الاقتصادية على اختلاف أنواعها، يعيشون على وقع مستوى التهديدات.


ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
TT

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)
الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

لا يخفى على أحد مصدر القلق في العاصمة الألمانية برلين من النتائج المحتملة للانتخابات النيابية الفرنسية. فأولاً، هناك الثقل الذي تمثله فرنسا باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي. وثانياً، فرنسا هي عضو الاتحاد الأوروبي الدائم الوحيد في مجلس الأمن الدولي المتمتع بحق النقض (الفيتو). وثالثاً لأنها تمتلك وحدها القوة النووية.

فضلاً عما سبق، لطالما شكّل محور برلين - باريس الحاضنة للمشروع الأوروبي الذي جاء لقلب سنوات الحروب بين البلدين. وطيلة العقود المنصرمة، شكّل «الثنائي» الألماني - الفرنسي القاطرة التي دفعته إلى الأمام، وأفضت به لأن يضم راهناً 27 دولة أوروبية ويتأهب لفتح ذراعيه أمام أوكرانيا ومولدوفا، وثمة مجموعة دول أوروبية أخرى تنتظر أن يفتح لها الباب لولوج جنة الاتحاد.

القفز إلى المجهول

هذا ليست المرة الأولى التي قرّر فيها رئيس فرنسي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة.

الجنرال شارل ديغول، مؤسس «الجمهورية الخامسة»، فعل ذلك مرتين، وسار على دربه الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران، وتبعه خليفته في قصر الإليزيه، جاك شيراك.

إلا أن ثمة فروقاً تجعل الوضع الراهن مختلفاً إلى حد كبير مع ما عرفته فرنسا في السابق. فخلال العقود المنصرمة، كانت الانتخابات تفضي إمّا إلى فوز اليمين التقليدي متحالفاً مع الوسط أو اليسار المسمّى «حكومي» وعَصَبه الحزب الاشتراكي. وعند فوز الأخير بالرئاسة للمرة الأولى في العام 1981، بناءً على «برنامج حُكم مشترك» يضم كل تلاوين اليسار، بما في ذلك الحزب الشيوعي، لم يتردّد ميتران في ضم وزيرين شيوعيين إلى حكومته مع أن فرنسا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والعالم غارق وقتها في «الحرب الباردة».

ولكن، رغم ذلك، سارت الأمور بسلاسة وبعيداً عن الهزّات لا في الداخل ولا في الخارج.

بعكس ذلك، أحدث قرار ماكرون زلزالاً سياسياً ستكون له تبعات لعقود على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فرنسا. واللافت، أن أقرب المقرّبين من ماكرون، مثل رئيس الحكومة غبريال أتال ورئيسة مجلس النواب يائيل براون - بيفيه وشركائه في السلطة ورئيس حكومته السابق أدوار فيليب... كلهم صبّوا جام غضبهم على قراره لأنه «غير مبرّر»، ولأن لا شيء كان يُلزمه بحل البرلمان، وبالأخص، بعد نجاح منقطع النظير لحزب «التجمع الوطني» في الانتخابات الأوروبية حين حصد ضِعفي ما حصل عليه تحالف الأحزاب الثلاثة الداعمة للعهد والحكومة، أي «تجدد» و«الحركة الديمقراطية» و«هورايزون».

زعيم جبهة اليسار جان لوك ميلونشون (آ ف ب)

قرار ماكرون أحدث صدمة عامة. ولذا؛ سعى غير مرة، لشرح دوافعه وإقناع مواطنيه بصوابية قراره من غير أن يفلح. إذ بينت تقارير صحافية أنه اتخذ قراره بعيداً عن أي تشاور ضارباً عرض الحائط بما ينصّ عليه الدستور، الذي يفرض عليه التشاور مع رئيسي مجلسي النواب والشيوخ، مكتفياً بـ«نصائح» مجموعة ضيقة قريبة من المقربين منه.

رهانات ماكرون الخاطئة

لقد بدا واضحاً في الأيام القليلة التي انقضت بعد حل البرلمان، أن «رهانات» الرئيس الفرنسي جاءت خاطئة. ولفهم قراره، تتعين الإشارة إلى أن الانتخابات النيابية (التشريعية) السابقة لم تعط ماكرون سوى أكثرية نسبية في البرلمان، بعكس ما كانت عليه الأمور في ولايته السابقة حين تمتعت حكوماته المتعاقبة بأكثريات فضفاضة صادقت على كل مشاريع القوانين التي قُدّمت إلى البرلمان.

وحقاً، خلال السنتين المنصرمتين من ولايته الثانية، كان على حكومة إليزابيث بورن ثم حكومة غبرييل أتال التفاوض والمساومة، أحياناً مع اليمين وأحياناً أخرى مع اليسار و«الخضر»، لتوفير الأكثرية اللازمة. وكان «سيف» سحب الثقة منها دائماً قريباً من عنقها لدرجة أنه كان يمكن أن تسقط في حال توافقت المعارضة يميناً ويساراً على التخلص منها.

ولكن رغم هشاشة الوضع السياسي، انقضت سنتان من عمر العهد واستمرت الحياة السياسية على وتيرتها المعتادة. ومن هنا، فإن المحللين السياسيين اعتبروا بادرة ماكرون «متهوّرة» وقائمة على حسابات غير دقيقة. لا، بل إن كثيرين قارنوا بين ما حصل في ألمانيا، حيث حصل الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على النسبة نفسها التي حصل عليها تحالف أحزاب ماكرون، ومع ذلك، لم ينخرط المستشار أولاف شولتس في مغامرة شبيهة بمغامرة ماكرون رداً على القفزة الانتخابية الكبيرة التي حققها حزب «البديل» اليميني المتطرف. وها هي الحياة السياسية في ألمانيا قد عادت إلى سابق عهدها بانتظار الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

جوردان بارديلا... مرشح اليمين المتطرف لرئاسة الحكومة العتيدة (رويترز)

أزمة نظام

يقول العارفون إن ماكرون راهن - في قراره - على أمرين: الأول، الانقسامات العميقة داخل اليسار الفرنسي بين حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون من جهة، وبين المكوّنات الأخرى من جهة ثانية... وتحديداً الحزب الاشتراكي و«الخضر». والآخر، ضَعف اليمين الفرنسي التقليدي ممثلاً بحزب «الجمهوريون» - وريث الديغولية -، واعتباره أن ثمة فرصة لتشكيل «ائتلاف وسطي» يضم الأحزاب الثلاثة الداعمة له تقليدياً، والتي يمكن أن ينضم إليها مرشحون قادمون من اليسار المعتدل ومن اليمين التقليدي.

غير أن الرهانين سقطا: فاليسار نجح خلال زمن قياسي في طي صفحة الخلافات وتشكيل «جبهة شعبية جديدة» مع برنامج انتخابي محدّد. أما اليمين التقليدي، فإن رئيسه أريك سيوتي التحق باليمين المتطرف، في حين رفض أركانه المتبقّون العرض الرئاسي. ثم أن ستيفان سيجورنيه، وزير الخارجية ورئيس حزب ماكرون المسمّى «تجدد»، سارع إلى الإعلان عن أن «الائتلاف الوسطي» سيمتنع عن تقديم منافسين لمرشحي اليمين «الوسطيين» لتسهيل إعادة انتخابهم ولتشجيعهم لاحقاً للتعاون في حكومة قادمة.

خلال الأيام العشرين المنقضية منذ حلّ البرلمان، كانت الدعاية الرئاسية (أي... الرئيس ماكرون نفسه) تركّز على التخويف من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وأيضاً على إبراز التناقضات داخل اليسار، وخصوصاً على «التهويل» بسيطرة حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد عليه... فضلاً عن التنديد بزعيمه ميلونشون الذي اتهمته الدعاية الرئاسية بـ«معاداة السامية» بسبب مواقفه من الحرب الإسرائيلية على غزة. وبالفعل، تحوّل هذا الاتهام «لازمة»... تتكرّر إلى ما لا نهاية في التجمعات الانتخابية وعلى شاشات التلفزيون.

أنا... أو «الحرب الأهلية»

وهكذا، رست صورة الوضع السياسي في فرنسا على الصورة التالية: ثمة ثلاث مجموعات سياسية تتقدمها مجموعة اليمين المتطرف - أي «التجمع الوطني» - بزعامة مارين لوبن ورئاسة جوردان بارديلا (مرشح «التجمع» لرئاسة الحكومة) التي ترجّح استطلاعات الرأي المتعاقبة على حصولها على 35 في المائة من الأصوات. المرتبة الثانية تحتلها وفق الاستطلاعات «الجبهة الشعبية الجديدة» (اليسار) التي تتأرجح نسبة أصواتها حول 30 في المائة. أما «الائتلاف الوسطي» فقد عجز عن تخطي عتبة الـ20 في المائة.

بيد أن ترجمة هذه النسب إلى مقاعد في البرلمان القادم تبدو بالغة الصعوبة بالنسبة إلى المؤسسات المتخصصة؛ نظراً للنظام الانتخابي القائم على الدائرة الصغرى. إذ تضم فرنسا 577 دائرة انتخابية لكل منها معطياتها الخاصة، لكن المرجح وفق المعطيات المتوافرة حتى اليوم، أن أياً من المجموعات الثلاث لن تحصل على الأكثرية المطلقة في البرلمان القادم (289 نائباً). وبما أنه يصعب توقع تحالف أي مجموعتين من المجموعات الثلاث للحكم معاً، فإن تشكيل حكومة قادرة على حيازة ثقة البرلمان وتمرير القوانين وقيادة البلاد للسنوات الثلاث المتبقية للرئيس ماكرون في الإليزيه، سيكون بمثابة معجزة.

ينص الدستور الفرنسي على أنه لا يحق لرئيس الجمهورية أن يحل البرلمان مرة جديدة إلا بعد مرور سنة على حله للمرة الأولى. وهذا يعني أن ماكرون سيكون مقيد اليدين وعاجزاً عملياً عن إيجاد أكثرية برلمانية مطلقة أو أكثرية نسبية لن يحصل عليها بسبب طغيان اليمين المتطرف و«الجبهة الشعبية الجديدة». وهنا يبدو واضحاً أن فرنسا تسير باتجاه أزمة حقيقية، أبعد من أزمة سياسية. بل هي بالأحرى «أزمة نظام» بسبب الانسداد السياسي المتجهة إليه بسرعة... إلا في حال فوز اليمين المتطرف بالأكثرية المطلقة، وهذا أمر قد يحصل وفق عدد من المحللين.

في رسالة مكتوبة وجهها ماكرون إلى الفرنسيين بداية الأسبوع من خلال الصحافة الإقليمية، فإنه ركّز على أمرين: أحدهما أن برنامج الحكم لليمين المتطرف، ولما يسميه «اليسار المتطرف»، سيشرع الباب أمام فرنسا لولوج أزمات متنوعة. والآخر التأكيد أن لا خلاص لها إلا بتمكين «ائتلاف الوسط» من الحصول على الأكثرية.

بيد أن الرئيس ذهب في اليوم التالي أبعد من ذلك؛ إذ حذر في «بودكاست» من انزلاق فرنسا نحو «الحرب الأهلية» في حال وصل حزب «التجمع الوطني» أو حزب «فرنسا الأبية» (من خلال «الجبهة الشعبية الجديدة») إلى الحكم. فاليمين المتطرف، كما قال، يصنّف المواطنين وفق ديانتهم وأصلهم بينما «فرنسا الأبية» يتبع «نهجاً طوائفياً».

هذا التنبيه استدعى ردود فعل عنيفة اتهمت الرئيس بـ«اللامسؤولية»؛ إذ قال بارديلا إنه «لا يجوز أن يصدر عن رئيس للجمهورية مثل هذا القول»، في حين اتهمه ميلونشون بـ«السعي دوماً لإشعال النار». كذلك، أثار هذا الكلام استغراباً شديداً حتى في صفوف «الماكرونية»؛ إذ اتهمه أحد نوابها بأنه «فقد بوصلته السياسية» وأنه يسعى لإخافة المواطنين المتقدمين في السن لدفعهم للعودة إلى أحضان حزبه.

والواقع، أن استطلاعات الرأي تبيّن أن الانتخابات القادمة ستشكل نوعاً من الاستفتاء على اسم ماكرون الذي أمضى في الحكم، حتى اليوم، سبع سنوات. كما أنها مرجّح أن تفضي الانتخابات إلى مجلس نيابي تحكمه الفوضى بسبب هشاشة السيناريوهات الحكومية التي قد تكون متاحة بناء على نتائج الانتخابات.

...وأخيراً، ثمة أحجية على ماكرون و«ائتلاف الوسط» حلها، وهي تتناول الجولة الانتخابية الثانية يوم الأحد 7 يوليو (تموز)، ومضمون «النصيحة» التي سيقدّمانها لناخبيهما في حال انحصر التنافس بين مرشح يميني متطرف وآخر من «الجبهة الشعبية الجديدة»... وما الذي سيتعين عليهم اختياره «ما بين الكوليرا والطاعون»!