اختيار «الأمانة العامة للهيئة العربية للمسرح»، رفيق علي أحمد ليوجّه رسالة في اليوم العالمي للمسرح، 10 يناير (كانون الثاني) الحالي، ذريعة للإلحاح عليه، هو المنكفئ، لإجراء لقاء. يغذّي المسافة من الأحاديث الصحافية، فاللسان قد يشطح بما يسبب له المتاعب. ليس خشية من الصراحة، بل لأنّ الإحباط اللبناني يطفح حداً مريعاً، فيخنق الأنفاس. مسرحه مستفزّ، مشتعل، منهمك بالإنسان؛ والميمات الثلاثة تضاف إليها رابعة: مُرّ المذاق، لا مكان فيه للترقيع والتجميل ومسح الجوخ.
لم يخن رفيق علي أحمد المسرح طوال عقود، «وما أغراني سواه»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، مدافعاً عن شغفه أمام الظروف. يهيم بين العتمة والضوء، على بُعد أمتار من الناس، فيحدث التفاعل البديع. هو واحد من مؤسسي «الهيئة العربية للمسرح» في إمارة الشارقة، مع معنيين بالخشبة والقيمة الإنسانية للفن. اعتقد حينها أنه مشروع مصيره الإهمال، لكن جهود حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي تضمن الاستمرارية. «رجل يعشق المسرح، مثقف وإنساني»، يختصر رفيق علي أحمد بعض مزاياه.
يشعر بالرضا حيال كونه نال الإنصاف في وطنه، «ولو أردتُ جمع الجوائز لامتلأت الخزائن». التكريم الكبير من الناس. يتوافدون إلى مسرحه، وإن استمرت العروض لأشهر. نوعه لا يزحف خلف وسام ولا يتوسل تحية. بجرأة يعترف أنه رفض تكريماً من جهة رسمية رفيعة، كتسجيل موقف اعتراضي على السيستم اللبناني، مُفقّر الإنسان وقاهره.
يستعيد حكمة الشيخ القاسمي: «يستمر المسرح ما دامت الحياة»، ولملاقاة الأقوال بالأفعال، يترك الحاكم، حامل الهمّ الثقافي، وديعة مالية في «الهيئة العامة للمسرح»، لضمان استمرارها الطويل. والأخيرة تجد في رفيق علي أحمد عطاءً جديراً بالاهتمام، فتضمّه لباقة من مسرحيين عريقين أثروا في الحركة الثقافية المسرحية وزادوها غنى وأضواء. هو الواقف على مسارح ضخمة في رومانيا وأميركا وأوروبا وكندا، والذي تُحدث مسرحياته في لبنان صخباً جماعياً ونقاشاً في معايير الوعي والمواطنة ومكانة الفرد وكرامته.
قرأ الكبير يعقوب الشدراوي رسالة «الهيئة» في بداياتها، وكبير آخر من لبنان يقرأ رسالتها في عام 2022. أي مضمون سيوجّه رفيق علي أحمد للمسرحيين وصنّاع الإبداع؟ تنشر «الهيئة» كلمته باللغات الثلاث، فيلخّص: «تتناول الرسالة حاجتنا الملحّة إلى المسرح في ظل العولمة المتوحشة. وفيها أتساءل عن الأسباب خلف انقطاع التواصل بين الأجيال والثقافات، وهجرة الجمهور العربي للمسرح، إلى تأثير مواقع التواصل في هذا الجمهور المعرّض لسلب ذاكرته ولغته. مع تمنٍ: تجديد الرهان على عودة المسرح ودوره».
تحاول الكلمة طرح أسئلة معروفة الأجوبة: «نؤكد السؤال لنعيد تأكيد الجواب». والمؤكد أيضاً بالنسبة إلى رجل المسرح اللبناني، هي ولادة الحكمة من الخيبات والتقدّم في العمر، فتجعله يختار التوقيت المناسب للكلام والصمت. غريب حال الإحباط، يسيطر ويستشرس. ينتشر في الإنسان ويهدّ قواه. وقد أصاب فناننا وسكنه، بثقله ومراراته، فشاء الابتعاد. يا أستاذ رفيق نريدك في مقابلة. آسفون على الإزعاج، فالفنان المطلوب خارج التغطية حالياً.
الفن عند رفيق علي أحمد، حجر يُلقى في المياه الآسنة، فيحرّكها لتتشكل الدوائر من عمق السُبات. يدرك أنّ للمثقف دوراً في التأثير الاجتماعي وتطوير ثقافة البشر، ويبحر في شرح علاقته مع السلطة عبر التاريخ: «ستقتله أم تنفيه». يمقت التمترس وراء التفرقة والمذهبية (وصمة في لبنان)، وإغلاق آفاق العقل. لمس الانسداد وهو يحوم حوله كغراب، فانكفأ لعناق العزلة.
تحرّضه زوجته؛ يسمّيها حباً «مديرة أعمالي»؛ على عدم الغياب، وتلحّ: «لِمَ لا تطل في هذا البرنامج؟ لِمَ لا توافق على هذه الدعوة الصحافية؟»، فيسمع النصيحة مرة ويصرّ على التواري، مرات. يقول بفم ملآن: «لم يغرني ضوء ولا شاشات، ولم أزحف خلف الأسفار. أعمل في التلفزيون لتأمين تكاليف الحياة حين لم يعد المسرح بأحسن حال في لبنان. هاجسي التعبير عن نفسي والعيش بسلام».
هو «معني بالبني آدم»، كما يردد كصرخة. يتأمل جيداً عيون الحاضرين في مسرحه، ويلمح فيها اختزال القهر الجماعي: «عيون كالزجاج، حزينة، تكاد تفقد بريقها». يحلو له تأكيد رضاه عن نفسه، مع تصويب البوصلة: «أنا إنساني، أدافع عن عائلتي ووطني، وعن جيراني وفق المثل اللبناني (إذا جارك بخير، إنت بخير)». ومع تمادي الإحساس بالتغريب والضغط النفسي، والاستفحال في مصادرة مقومات الوجود، تساءل: «على من تقرأ مزاميرك يا داود؟». شعوره بأنه «مهرّج» جعله يعيد حساباته: «ظننتُ أنّ لي دوراً آخر. تبيّن العكس».
بركان داخلي من عواطف ومعاناة، خلاصة نضاله الفني على الشكل الآتي: «لم أعد أستطيع التفكير». يطول شرحه للتركيبة اللبنانية، غارفاً من التاريخ ومحللاً في خرائط المستقبل. فهو عاش الحرب، وبرغم القصف والمدافع، «أنتجنا مسرحاً وأجدنا بناء الصداقات والأفكار». اليوم، ينشد الخلاص الفردي: «ألا أفقد عقلي وسكينتي الداخلية».
يشارك في الجزء الثالث من «عروس بيروت»، وصوّر في الصيف مسلسل «فتح الأندلس». ينتقد الكراهية المقنّعة بين نجوم التلفزيون، «على عكس المسرح، حيث يسند الممثل تعثّر الآخر». هنا، يشعر بأنّ الجمهور أمامه هو «الطعنة» الوحيدة الممكنة إن اهتزّ أداؤه وخيّب الظنون؛ وفي التلفزيون، بقوله: «الطعنات من كل الجهات».
كثرت أسفاره إلى تركيا حيث موقع تصوير «عروس بيروت»، وظل يشتاق إلى بيروت، معاكساً لوعة فيروز: «أنا عندي حنين، وبعرف لمين». للجلوس في المقهى، لمحاكاة البحر، للمدينة بصمودها وانكساراتها، ومع ذلك، لا يقوى على العيش في مكان آخر.
لا يكبّر أحلامه، فيضع أمامه أهدافاً صغيرة ويسعى إلى تحقيقها. يشبّه حياته بالنهر الطويل؛ يجتازه بتهوّر في الطفولة، بتروٍ في النضج، وعلى مهل في الشيخوخة، باحتمالَي السقوط والنهوض. أمنياتك للسنة الجديدة؟ «ما نيل المطالب بالتمني»، يقول «أمير الشعراء» أحمد شوقي.
11:16 دقيقه
رفيق علي أحمد: «التهريج» أبعدني... ولا شيء يغريني
https://aawsat.com/home/article/3399971/%D8%B1%D9%81%D9%8A%D9%82-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%87%D8%B1%D9%8A%D8%AC%C2%BB-%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%AF%D9%86%D9%8A-%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%8A%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D9%86%D9%8A
رفيق علي أحمد: «التهريج» أبعدني... ولا شيء يغريني
يوجّه رسالة في اليوم العالمي للمسرح ويصوّر «عروس بيروت»
المسرحي اللبناني رفيق علي أحمد
- بيروت: فاطمة عبد الله
- بيروت: فاطمة عبد الله
رفيق علي أحمد: «التهريج» أبعدني... ولا شيء يغريني
المسرحي اللبناني رفيق علي أحمد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

