انتهت أمس (السبت) أعمال الدورة الثالثة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي. وحتى كتابة هذا التقرير في صباح اليوم ذاته، لم يكن هناك أي مؤشر لتميّز فيلم عن آخر في أي من مسابقات الدورة؛ أهمها بالطبع مسابقة الأفلام الرئيسية ومسابقة «آفاق السينما العربية».
لا يسود المهرجان عادة ما يسود مهرجانات أساسية أخرى حول من سيكون الفيلم الفائز. هذا لاختلاف المنوال والاهتمامات، وربما الثقافة المعرفية عموماً. لكن بصرف النظر عن الرابح والخاسر، أثمرت هذه الدورة عن توفير مجموعة كبيرة من الأفلام العالمية التي تستحق المشاهدة وتستقطب الإعجاب. وعلى هذا الصعيد وحده، يبرز نجاح لجنة الاختيار في حشد مجموعة الأفلام المناسبة لمهرجان كبير. وعلى صعيد آخر، هناك نجاح أفضل في إدارة العمل على كثرة تشعبه. ولا ننسى أنه في النهاية فعل مجهد مكلف، في ظروف متقلبة لوباء يفرض نفسه على كل جوانب الحياة والنشاطات حول العالم.
ما هو مؤكد أنه بعد 43 سنة من العمل الشاق الدؤوب لصنع مهرجان سينمائي مصري عالمي، ما زالت الطريق مفتوحة أمام مهرجان القاهرة السينمائي لمزيد من البذل.
في تاريخه العريق، استقبل ألوف الأفلام، وعدداً كبيراً من الشخصيات والنجوم السينمائية البارزة، وجذب عشرات ألوف المشاهدين، وأصدر كتباً، وأقام محاضرات وورشاً، ولم يتوانَ عن السعي لتحقيق مكانة عالمية. لم ينجح هذا السعي في كل مرة من مرات المهرجان، ولا على نحو مضطرد. كل من أداره، من مؤسسه كمال الملاخ إلى أبرز رؤسائه في الحقبة الأولى (وأكثرهم حزماً) سعد الدين وهبة، إلى لفيف من الذين تسلموا إدارته، تفاوتت النتائج لأكثر من سبب. أدرك الجميع منذ البداية صعوبة النجاح إذا ما تمثل في أن تأتي كل دورة من دوراته أفضل من الدورة السابقة أو -على الأقل- مثلها. لخلق مهرجان دولي في عاصمة أو مدينة عربية، تتكاتف الجهود والميزانيات عادة، وتتغير الإدارات بين ما فشل منها وما نجح، لكن هناك حالة لا يستطيع فيها المهرجان (أي مهرجان) الوثوق من تحقيق الموقع العالمي الذي ينشده، لأنها في نطاق لا يستطيع المهرجان العربي (ونحو 3 آلاف مهرجان آخر حول العالم) فرض نفسه عليه، وهو جعل السينمائيين العالميين ينتظرون المهرجان، ويختارونه عنوة عن المهرجانات الأخرى لعرض أفلامهم.
نعم، هناك أفلام أميركية وبريطانية وفرنسية وأوروبية أخرى، وهناك أفلام من أقطار آسيوية وأفريقية، وهناك عدد كبير من الأفلام العربية، لكن المسألة ليست في التنوع، بل ما إذا كان المهرجان العربي فعل يحتاج إليه العالم أم لا، وحدث يتابعه صانعو السينما من منتجين وأصحاب استديوهات وأصحاب مشاريع وموزعين أم لا.
بوجود ثلاثة مهرجانات أوروبية رئيسية (كان، وبرلين، وفنيسيا)، ومهرجانات تقف في الصف الثاني منها، وتُعد بدورها أساسية (صندانس، وتورونتو، ولوكارنو، وكارلوڤي ڤاري، وسان سابستيان)، من الصعب شد الرحال إلى مهرجان عربي إلا بشروط لها علاقة بما يستطيع المهرجان توفيره من أفلام يسعى هو إليها (ولا تسعى هي -في معظمها- إليه)، وتنظيم إغراءات تجارية ومنصات تسويق، إلى آخر ما يساعد صانعي الأفلام على عد أنه لا غنى عن هذا المهرجان أو ذاك.
نقلة نوعية
هذه السنة هي الرابعة لتولي المنتج محمد حفظي إدارة هذا المهرجان، وقد قال في مقابلة منشورة قبل أسبوع إنه لم يكن واثقاً، بعد الدورة الأولى، إذا ما كان سيعود في الدورة المقبلة لتولي مهام الرئاسة. الحديث إليه يحيط بجوانب مثيرة لرجل يتميز بمدارك فيلمية واسعة، وبثقافة سينمائية شاملة، وله تجارب محلية وعربية ودولية في صناعة ما زالت زاخرة واعدة بين كل صناعات الترفيه والثقافة. محمد حفظي من بين القلائل الذين تسلموا إدارة هذا المهرجان، ورفعوا من مستواه، وأعادوا إليه الأهمية التي كان قد افتقدها في السنوات السابقة.
لكن كل ذلك النجاح والطريق ما زالت طويلة لوضع المهرجان على المستوى الذي يطمح إليه. ربما ليست طويلة كما كانت قبل عشر سنوات، أو حتى أقل، لكنها طويلة بما فيه الكفاية.
وفيما يلي نص الحوار:
> بعد أربع سنوات مرت على بدء رئاستك لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كيف تنظر إلى هذه التجربة وما حققته أو لم تحققه بعد؟
- كان لا بد من تحقيق نقلة نوعية لتحريك عجلة المهرجان مرة أخرى. أردت منذ البداية أن يكون هذا المهرجان اللقاء الأهم بين المهرجانات الأخرى للسينما العربية والسينمات العالمية. وأحد الأمور التي هدفت إليها كذلك هو دفع الجمهور المحلي للإقبال على الأفلام، وتحسين ظروف العرض والتوقيت، وتطوير عنصر التواصل بين الحاضرين. أعتقد أنني أدركت منذ البداية حاجة الجمهور لأخذ هذا المهرجان على نحو جاد، وهذا لم يكن متوفراً من قبل على هذا المستوى إلا في دورات محدودة. الآن، كل الصالات مليئة، والتذاكر تنفد سريعاً من معظم العروض، وهناك نسبة كبيرة من الأفلام التي يريد الجمهور في مصر معرفتها. المهرجان بالنسبة لي ليس تجمع أشخاص وأفلام، بل طرح كثيف لمختلف القضايا، ولا يمكن تحقيق النجاح عالمياً إلا بإشراك الصناعة العالمية في هذا المهرجان عبر نشاطاته ومنصاته الثقافية والصناعية.
> هناك مهرجانات عربية أخرى تهدف للشيء ذاته، ولا نرى أي رغبة في التعاون؛ كل مهرجان يعمل بمنأى عن الآخر…
- هذا صحيح تماماً. لقد دعوت -ولا زلت- للتنسيق بين المهرجانات العربية لتعزيز التعاون بيننا، لكن أعتقد أنه لا توجد خطة عمل موحدة لذلك. دعوت سابقاً إلى هذا التعاون لتنظيم البحث في أوضاعنا اليوم، وكيفية مواجهة المستقبل معاً، وتحقيق الطموح المطلوب منها. أرى أن هذا ضروري مع اتساع رقعة المهرجانات، وانضمام مهرجان البحر الأحمر إلى خريطة المهرجانات العربية.
> هذا التنسيق مفقود منذ البداية. خلال إدارتي البرمجة العربية لمهرجان دبي السينمائي، جرت محاولة للتنسيق، لكن التجاوب كان محدوداً جداً. هل هناك من تحديات أخرى واجهتها في سبيل تعزيز حضور المهرجان عربياً أو عالمياً؟
- حاولت، وأعتقد أنني نجحت في توفير برامج عروض أفضل من السابق. هناك مجموعة من الأفلام التي شهدت عروضها الأولى عالمياً في القاهرة. وهناك أفلام مرشحة للتنافس على سباق الأوسكار، أو على جوائز أخرى في موسم الجوائز الحالي. الغاية كانت الاهتمام بالأفلام، وتحسين مستوى العروض التقنية. لكن إلى جانب كل هذا هدفت إلى إعادة السعي لقيام سوق سينمائية تكون المحطة النموذجية لإنشاء سبب إضافي لتأكيد موقع المهرجان وسط المهرجانات العربية والدولية.
مستوى أفلام
> ميزانيتك السنوية هي أقل من ميزانيات مهرجانات أخرى، هل هذا ما يعيق مهرجان القاهرة عن النمو على النحو الذي تطمح إليه؟
- هو بالفعل أقل من ميزانيات مهرجانات عربية في مصر أو خارجها، لكننا في إطار ما هو متوفر حققنا كثيراً مما نصبو إليه. التحديات كثيرة، والنمو من وضع لآخر على نحو متواصل أو مستمر هو غاية مهمة، لكنها تتطلب التمويل، وتتطلب الدراية والمعرفة وحسن الإدارة في كل جانب من جوانب العمل.
> هي ربما شاقة أكثر لو لم يكن رئيس المهرجان من أهل الصناعة.
- صحيح.
> كيف ترى المستقبل إذن؟
- أراه أكثر تعقيداً. المهرجانات العربية الموجودة، مثل الجونة والبحر الأحمر ومراكش وسواها، تستطيع أن تشهد تقدماً شاملاً لو تعاونت جيداً فيما بينها، لكن عدم التعاون لن يوقفنا عن العمل المطرد لتحسين أداء هذا المهرجان.
> ما رأيك بوضع السينما العربية حالياً؟ هل هناك ما يكفي منها لتغطية هذه المهرجانات أو سواها في العالم العربي؟
- هناك مصاعب في الأفق بالنسبة لهذا الموضوع، لكن بالطبع ليست كل المهرجانات العربية تصبو لأن تعرض أفلاماً عربية لم يسبق عرضها. غير أن تلك التي تهدف للتميز بعروضها الأولى من الأفلام العربية ستواجه وضعاً غير مريح، لأن عدد الأفلام الجيدة محدود، ولو أنه لن يصل إلى حد عدم توفر ما يكفي. هناك مهرجانات تقوم بدعم الأفلام، مثل أيام مهرجان قرطاج السينمائي، وهناك مهرجانات أخرى مثل مهرجان البحر الأحمر سيرفع هذا الدعم لمستوى غير مسبوق، وهذا كله جيد. كيف توزع هذه الأفلام على المهرجانات هو من الأولويات الأساسية لكل مهرجان.
> لكن ما رأيك في مستوى الأفلام العربية التي اختيرت لهذه الدورة؟
- أعتقد أنها ذات مستوى جيد في العموم. وعلى مستوى التنوع، كان لدينا أفلام من السعودية وتونس ولبنان والأردن وفلسطين وتونس والجزائر والمغرب، ومن مصر بطبيعة الحال. أرى في الوقت نفسه أن العددية ليست مقياساً. قد تكتفي المسابقة بفيلم مصري واحد، كما حدث هذا العام بالنسبة لفيلم نادين خان «أبو صدام»، أو بثلاثة أفلام عربية فقط عوض خمسة أو ستة أفلام. هذا ليس مقياساً، بل النوعية هي المقياس، ونحن في النهاية نطرح المهرجان على أساس أنه عالمي، وهذا يعني أن على المسابقة أن تشمل أعمالاً من دول كثيرة. ثم لا تنسى أن لدينا قسم «آفاق السينما العربية» الذي أداره الناقد رامي عبد الرازق، وأعتقد إنه نجح في اختياراته.
> ماذا تعني لك ظروف الوباء الحالي المتجددة هذه الأيام؟ هل صحيح أن هناك مخرجين اعتذروا عن الحضور بسبب «أوميكرون»؟
- جاءتنا اعتذارات، لكن بحدود. هذا وضع يستجد من يوم لآخر. وفي الأيام السابقة، تسلمنا اعتذارات قليلة، وبالأمس جاءنا اعتذار في آخر لحظة. برلين يفكر بالتأجيل حالياً، و«كان» قد يؤجل دورته إلى الصيف مرة أخرى؛ إنها مشكلة عالمية، ونحن نتابعها من كثب.