شوقي أبي شقرا: فور انتهائي من النّص ينتابني ما يشبه الطرب

بعد 16 عاماً من الغياب يصدر ديوانه «عندنا الآهة والأغنية»

الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا
الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا
TT

شوقي أبي شقرا: فور انتهائي من النّص ينتابني ما يشبه الطرب

الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا
الشاعر اللبناني شوقي أبي شقرا

بعد ستة عشر عاماً من الغياب، يعود الشاعر شوقي أبي شقرا بديوان جديد، كأنما لا انقطع ولا مرت السنون. باستثناء كتابه الضخم في 800 صفحة «شوقي أبي شقرا يتذكر» الصادر عام 2017 والذي ضمّنه خلاصة تجربته الحياتية والصحافية، وانطباعاته، وبروفايلات عن عشرات الشخصيات الثقافية والأدبية التي عايشها خلال ما يزيد على نصف قرن. لم يصدر لأبي شقرا منذ «تتساقط الثمار والطيور»، و«ليس الورقة» عام 2005، أي ديوان شعري.
الديوان الجديد «عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى» الصادر عن «دار نلسن» في بيروت، مفاجئ لأن صاحبه وهو في السادسة والثمانين، لا يزال يكتب بالروح الطفولية نفسها التي اعتدناها، مسكوناً بالغريب، مفتوناً بالمدهش. ولربما لا يرى الأمر كذلك، لكنك معه، في ديوانه هذا، تسأل، كيف له أن يستمر في لعبته الشعرية المحيّرة، كأنما هو يلهو عنّا وعن أتراحنا في مكان آخر، تأخذه اللغة وتشغله الصور التي لا تنتمي إلى رومانسيات الشعر، أو محرماته في كثير من الأحيان. «هي لعبة لا تفسير لها، سوى أن يكون الشاعر يملك شطارة تجعله قادراً على إيجاد الكلمة التي تصوغ المفاجأة»، يجيب أبي شقرا. فهو يتعامل مع اللغة، معترفاً بمسارها ونسبها العائلي، لكنه يتحدث في الوقت نفسه عن «محرقة اللغة» أو ما يشبه «المطهّر» الذي لا يبقى من بعده غير الجوهرة.
«هذا الكتاب جزء من محاولاتي»، يقول لنا أبي شقرا. تلك المحاولات التي بدأت مع ديوان «ماء إلى حصان العائلة» الصادر عام 1952 عن دار مجلة «شعر»، ونال جائزة المجلة. «بعد صدوره أخذت تتوالى للمرة الأولى، المواقف الإيجابية تجاه ما أكتبه، خصوصاً من المغرب وبلدان عربية أخرى. اكتشفوا شاعراً لبنانياً عنده انفتاح إيجابي، عفوي وحقيقي. وجاءت جائزة مجلة (شعر) التي أُعطيت قبلي لبدر شاكر السياب وأدونيس، لتدفع أكثر بما أكتبه إلى الواجهة».
يرى أبي شقرا أنه في الخمسينات «خيِّل للقارئ العربي أن العراق أنتج شيئاً ما في مسار الشعر العربي الحديث، لكن اللعبة كانت خارج العراق»، يعتقد أنه «كانت لدى العراقيين مبالغة في العودة إلى الأسطورة، وغرق في لغة مسرفة. وثمة شرح في القصيدة قبل أن يكون هناك معنى».
ذاك كان مسار وفي لبنان مسار آخر. «نحن أعدنا الشعر إلى مآله، إلى الطريق الصحيح. معنا كان رجوع إلى الأصل». ثم يردف ساخراً لِنَقُلْ «إنها عودة إلى فرض الإنشاء. اللعبة كانت على الطاولة وبحاجة لإيجاد منافذ متقدمة وجديدة، تحمل مصيرها الأساسي الإثنولوجي المؤصّل». لهذا كان ديوان «ماء إلى حصان العائلة» محطة مهمة. «إنه الحدث الذي بدأت بعده قصيدة النثر.
قبله أديت خدمتي العسكرية مع الشعر كما أراده البعض، وبعده كان الانفتاح الكبير انطلاقاً من وجودنا وحياتنا، هي لغة جديدة وُلدت، أردت عبرها الوصول إلى كل الطموحات الخفية والمعلنة، والرجوع إلى إمكانات العربية، وهي مهمة كانت تحتاج إلى شاعر بارع يلتقط ذلك الزخم الذي لا أحد يراه».
حين يتحدث أبي شقرا عن مجلة «شعر» التي كان شريكاً فيها مع أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال، يقول: «هي كانت مغامرة، ويبدو أن لكلٍّ قدراته، فثمة من يصل، وهناك من يتعب على الطريق».
بقدر ما هو طويل عنوان الديوان الجديد، كما دواوين أبي شقرا السابقة، أشبه بجملة مركبة، نجد أن عناوين القصائد لا تتخطى الكلمة الواحدة. نعثر على «عبرات»، و«حصار»، و«الملاك»، و«السؤال»، «موسيقى»، «المظاهرة»، «ورقة». ولا بأس بلفظة غريبة كعنوان مثل: «نزمجر»، و«طحالب»، و«الفخذ»، أو أن يكتفي بفعل مضارع مثل «يدوس»، و«تشتري»، أو ماضٍ كما «أنفخ». «تلك تقنية في الشغل» على ما يشرح أبي شقرا. لأن «الكلمة الواحدة تسهم في راحة القارئ، وعنوان القصيدة هو مفتاح، نافذة إلى المعنى» الذي يرمي إليه. «هناك علاقة بين الكاتب والنص. يخرج العنوان من وحي هذه العلاقة. ولأنه هو المدخل يسمح لي أن أفعل ما أريد، لأحافظ على كل الرصانة في التأليف. وقد يأتي العنوان قبل القصيدة أو بعدها. هذا تمليه الحالة نفسها».
يتعب صاحب «ثياب سهرة الواحة والعشبة» من الكتابة، رغم أن قراءته تشي بأنك أمام شاعر تستهويه السلوى ويأخذه العبث بعيداً إلى قصائد تنسكب كما لحن يصعب التوقف عند أيٍّ من مفاصله. «أستمتع بعد أن أُنهي نصي. ينتابني نوع من الطرب».
شيء من العودة إلى الطفولة، دائماً مع أبي شقرا، وكذا في قصائد الديوان الجديد، «قطة تشرب البحيرة»، و«الصباح والمساء مثله يفتل حاجبيه»، و«البومة تنظّف الروث من حقيبة الديناصور»، و«الساقي يأخذ يد القصائد».
أما المفردات في «عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى» فلا تردعها حدود، حيث يمكن أن تعثر على «طناجر»، و«صحون»، و«جبنة»، و«جرثومة»، و«بابوج»، و«تي شورت»، و«كشتبان»، و«مازوت». أيُّ جرأة في استخدام مثل هذه الألفاظ، التي قد تُتهم بأنها لا تتمتع بأي شعرية؟ «هنا تكمن اللعبة، ولا تفسير لها سوى المهارة في حسن اختيار اللفظة في اللحظة المناسبة التي تصنع المفاجأة. أنا أتعامل مع المفردات كما الجواهرجي. وهذا أمر جميل. شيء ما خفيٌّ يبقى كامناً بين السطور. أيّ كلمة قبل، وأيُّها بعد. إذ تعتمد الاختيارات على ميزان صحيح. إنه نوع من مهرجانية اللغة».
يُهدي أبي شقرا الديوان إلى عشرات الكتّاب اللبنانيين والعرب، وتسقط أسماء أصدقاء. لماذا هذا الإهداء بالجملة، ولماذا سقطت أسماء يُفترض أنها قريبة منه؟ لأنها مجرد دفعة أولى على الحساب، فيما سيتضمن الجزء الثاني من الديوان الذي تحضِّر له دار نشر «نلسن»، باقة أخرى من الأسماء والإهداءات، اعترافاً من الشاعر بما لكل هؤلاء من محبة وامتنان. «أنا صحافي أيضاً. كانت العلاقة مع المثقفين خلال فترة عملي الطويلة فيها مودة وانتباه وحفاظ على صلة بينهم وبين القارئ. هناك علاقات بقيت. وأحببت أن أذكر أولئك الذين لم أنسهم أبداً».
فتح أبي شقرا أبواب مكتبه كما صفحات جريدة «النهار» الثقافية، لكل المحاولات الأدبية. أسأله إن كان ندم لأنه لم يلجأ إلى التنقية والغربلة، فيجيب غير متردد: «على الإطلاق، كنت أقوم بواجبي، ولم أندم على أي اسم. عملت بلذة ومتعة. مرّت علينا الكثير من الصعاب والأحداث، قمنا بما استطعنا، مع احترام القارئ».
ديوانه الجديد كان يُفترض أن يصدر من ثلاث أو أربع سنين. الوضع الصحي مع الوباء وما تبعه من أوضاع لبنانية أخّرت الصدور. ديوانٌ استكماليٌّ في طور التحضير، إضافةً إلى مؤلف آخر. إنه كتاب يجمع فيه أبي شقرا خلاصة ما كتبه عن الأدباء في جريدة «النهار»، وبعد انتهاء عمله فيها، طوال مدة عمله الصحافي، وبعضها كان يتصدر الصفحة الأولى.



لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار
TT

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

لُقى «سمهرم» في محافظة ظُفار

تحوي سلطنة عمان سلسلة من المواقع الأثرية تتوزع على قطاعات متفرقة من أراضيها الواسعة. بدأ استكشاف هذه المواقع بشكل علمي في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إذ أنجزت بعثة أميركية أول حفرية في خور من أخوار ساحل محافظة ظفار، يُعرف محلياً باسم «خور روري». كشفت هذه الحفرية عن قلعة مستطيلة مدعّمة بأبراج، شُيّدت بالحجارة على جبل منخفض يطل على هذا الخور، وحملت اسم «سمهرم» باللغة العربية الجنوبية القديمة، وتبيّن أن هذه القلعة كانت من أهم المواني في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية التي لعبت دوراً كبيراً في تجارة اللبان الدولية. استمرّت أعمال التنقيب في هذا الموقع خلال العقود التالية، وكشفت عن مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية ثقافية تعكس الوجه الدولي الذي عُرقت به سمهرم في الماضي.

تقع سلطنة عُمان في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية، يحدّها خليج عُمان من الشمال والشرق، وتطوّقها الكثبان الرملية من الجنوب، ممّا يجعلها أشبه بجزيرة بين الصحراء والبحر. تضمّ هذه الجزيرة الشاسعة إحدى عشرة محافظة، منها محافظة ظفار التي تقع في أقصى الجنوب، وعاصمتها مدينة صلالة التي تبعد عن مسقط بنحو 1000 كيلومتر. تبدو ظفار في الظاهر معزولة عن شمال عُمان بأرض قاحلة، غير أنها تشاركه في الكثير من أوجه الشبه، كما يشهد تاريخها الموغل في القدم، حيث عُرفت بأرض اللبان، واشتهرت بتصدير هذا المورد النباتي في العالم القديم، وشكّلت بوابة عُمان الضخمة المفتوحة على المحيط الهندي حلقة الوصل بينها وبين ساحل شرق أفريقيا. برزت تجارة اللبان بشكل خاص منذ منتصف الألف الأول قبل الميلاد، كما تشهد مؤلفات كبار الجغرافيين اليونانيين، وتؤكد هذه المؤلفات أن اللبان كان يُنتج داخل هذه البلاد، ويُجمع في ميناءين يقعان على ساحل يُعرف باسم «موشكا ليمن»، ومن هناك كان يُشحن بالسفن شرقاً إلى الهند والخليج العربي، وغرباً نحو ميناء قنا على ساحل بحر العرب.

زار الرحالة البريطاني جيمس ثيودور بنيت ساحل ظفار في نهاية القرن التاسع عشر، وقضى بداء الملاريا في 1897، وبعد رحيله، نشرت زوجته ومرافقته في رحلاته كتاب «جنوب الجزيرة العربية» في 1900، الذي حوى وصفاً لموقع «خور روري» في ساحل ظفار، ويُعد هذا الوصف أول تقرير ميداني خاص بهذا الموقع. استند الرحالة البريطاني في بحثه الميداني إلى دليل ملاحة يعود على الأرجح إلى منتصف القرن الأول، يُعرف باسم «الطواف حول البحر الإريتري». و«البحر الإريتري» هي التسمية التي عُرف بها خليج عدن، وشملت البحر الأحمر الحالي والخليجين العربي والهندي. ذكر صاحب هذا الدليل ميناء «موشكا ليمن»، ونسبه إلى ملك من جنوب الجزيرة العربية يُدعى إليازوس، ورأى جيمس ثيودور بنيت أن هذا الميناء يقع في «خور روري»، وأثارت هذه القراءة الميدانية البحّاثة العاملين في هذا الحقل.

تولّت بعثة أميركية مهمة التنقيب في هذا الموقع بشكل متواصل خلال عام 1950، وعاودت العمل لفترة قصيرة خلال عام 1962، وتبيّن أن الموقع يضمّ قلعة حملت اسم سمهرم، شيّدها ملك من ملوك حضرموت في تاريخ غير محدد، كما يؤكّد نقش كتابي كُشف عنه في هذا الموقع. تبنّت البعثة الأميركية قراءة جيمس ثيودور بنيت، ورأت أن سمهرم هي «موشكا ليمن»، وحُددت هوية الملك «إليازوس» على ضوء هذه القراءة، وهو ملك يَرِد ذكره بشكل مشابه في نقوش تعود إلى أكسوم في الحبشة. قيل إن ميناء سمهرم واصل نشاطه من القرن الأول إلى القرن الثالث للميلاد، كما توحي الكتابات المنقوشة واللُّقى التي عُثر عليها في الموقع، غير أن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن هذه القراءة تحتاج إلى المراجعة. تولّت بعثة تابعة لجامعة بيزا مهمة مواصلة البحث في هذا الموقع منذ عام 1997، ونشرت تباعاً تقارير رصدت اكتشافاتها، وأظهرت الدراسات التي رافقت هذه التقارير أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، بالتزامن مع نشوء التجارة البحرية وتطوّرها في المحيط الهندي، وقبل وصول الرومان إلى مصر بزمن طويل، ولم يُهجر قبل القرن الخامس للميلاد، حين تراجع نشاطه تدريجياً مع اندحار مملكة حضرموت، وخضوعها لملوك حمير بعد سلسلة من الحروب في القرن الرابع للميلاد.

منذ نشوئه، تميّز ميناء سمهرم بطابع «كوسموبوليتي»، كما تشهد القطع الفخارية المتعدّدة المصادر التي عُثر عليها بين أطلاله. خلال تاريخه الذي دام عدة قرون، نسج هذا الميناء كما يبدو علاقات متينة مع سائر أنحاء العالم القديم، من حضرموت إلى قتبان في جنوب جزيرة العرب، إلى أكسوم في الحبشة، ومن الخليج العربي إلى آسيا ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط. في هذا الموقع، عثرت البعثة الأميركية على تمثال هندي صغير من البرونز، يبلغ طوله 8 سنتيمترات، وهو من محفوظات متحف فنون آسيا التابع لمؤسسة «سميثسونيان» في واشنطن. يُمثل هذا التمثال الذي فقد رأسه وذراعه اليسرى امرأة تلوي خصرها، وتثني ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى. تُميل هذه الراقصة وركيها وتحني كتفيها إلى الجهة اليمنى، ويتميّز لباسها المحلّي بحلله المتعددة، ومنها حزام عريض يحوي أربعة صفوف من الدرر، وقطعة قماش تنسدل من طرف هذا الحزام على الفخذ الأيمن، وثلاث قلائد من الدرر تلتف حول الرقبة. صيغ هذا التمثال وفقاً لناموس الجمالية الهندية ويُجسّد كما يبدو سيدة الشجر في العالم الهندي. كذلك عثرت البعثة الإيطالية على قطعة مما تُعرف بـ«عملة كوشان» تحمل اسم كانيشكا، ملك كابل وكشمير وشمال غربي الهند. ونقع على مجموعة من الكسور واللُّقى الصغرى تعكس هذا الأثر الهندي الذي برز بشكل خاص في سمهرم.

في المقابل، يظهر أثر حضرموت في مجموعات أخرى من اللُّقى، منها المسكوكات، والأواني المتعددة، والأنصاب الحجرية المزينة بالنقوش الحجرية. من هذه الأنصاب يبرز حجر مستطيل يحمل نقشاً يصوّر ثوراً في وضعية جانبية، مع كتابة تسمّيه، بقي جزء منها فحسب. تُماثل هذه القطعة في تأليفها الكثير من القطع التي خرجت من نواحٍ متعددة من جنوب الجزيرة العربية، وهي على الأغلب من القطع التي تحمل في العادة طابعاً دينياً. في هذا الميدان، تحضر مجموعة من المجامر الحجرية تتميز بنقوشها التزيينية الجميلة. تحمل هذا المجموعة طابعاً جامعاً، كما أنها تحمل في بعض الأحيان طابعاً محلياً خاصاً، وتحتاج إلى دراسة مستقلّة خاصة بها.