من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي

«لقلق النبي يونس» لمحمود النعيمي بوصفها رواية جيل

من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي
TT

من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي

من الوعي الأسطوري إلى الوعي العقلي

تبدو رواية «لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر» للروائي محمود جاسم عثمان النعيمي، الصادرة عام 2020، وكأنها مجرد رواية عن المكان، وتحديداً عن مدينة الكوفة، كما يشير الغلاف «رواية عن الكوفة وعكد اللوي». لكن الرواية في واقع الأمر، أوسع من ذلك بكثير. وحتى لو نظرنا لها بوصفها رواية عن المكان، فهي كناية عن مكان أشمل هو العراق وليس مجرد تلك الرقعة الجغرافية المحددة، على الرغم من سمو مكانتها وعراقتها. فالرواية هي رواية جيل كامل، ربما يمثله بطلها اللامسمى الأستاذ الجامعي، المؤرخ والمفكر، والذي وجد نفسه مشلولاً وقعيداً بفعل إطلاقات إرهابية غادرة أصابته في سنوات الاقتتال الطائفي بعد الاحتلال، وتحديداً بعد عام 2006، حبيس مقعده الذي يتلصص فيه وعبر النافذة الوحيدة في الغرفة على العالم الخارجي، الذي حُرم منه للأبد.
وهي أيضاً رواية شخصية، عن بطلها المركزي وراويها المؤرخ والمفكر المنشغل بهموم عصره ومجتمعه، والتي تتحول، بفعل انشغالاتها الفكرية، وبشكل خاص عبر «المخطوطة» إلى رواية أطروحة تحاول أن تزحزح الكثير من الثوابت العصية على التغيير، والتي جمّدت العقل التنويري لصالح عقل نقلي متقوقع داخل قوقعة الماضي.
يبدو بطل الرواية اللامسمى والذي يتماهى إلى حد كبير مع مؤلف الرواية نفسه من خلال إسقاطات متبادلة، موزعاً بين هموم وانشغالات يومية وحياتية، وأخرى فكرية وفلسفية. فهو منشغل بهموم وطنه ومدينته وأسرته، ويأسره حبٌّ من طرف واحد، مثل أبطال بيكيت «في انتظار غودو». لكن انشغالاته الأساسية تظل متمثلة في صراعه ضد العقل السكوني، الامتثالي المتصلب، من خلال موقف تنويري وعقلي رافض لما هو نقلي ومتحفي من قيم وأفكار بالية. فهو يطرح مفهومه الخاص بالعقل المغاير (ص 19) والذي يرى فيه أن المثقف ليس ذلك المنشغل بالفكر والثقافة فقط، بل هو أيضاً، ربما مثل «المثقف العضوي» عند غرامشي يجب أن يندمج بشؤون عصره ومجتمعه. ورغم تعذر حركة البطل، فقد أصرّ أثناء انتفاضة تشرين على الذهاب إلى ساحة التحرير ببغداد ليتماس مع الجيل الجديد الذي يصنع بثورته تاريخاً بديلاً، وهو واحد من أهدافه التي كان يعمل في ضوئها. إذ كان يعمل في مشغله الثقافي على تأسيس كتابة مغايرة (ص 14) وكان يدعو أصدقاءه وطلبته بالدراسات العليا، وخاصة في «وصيته» الثقافية إلى تبصير الناس بالحقيقة، ومعايشة حياة الناس والمجتمع والعصر.
ومن الأفكار المركزية التي تناضل هذه الرواية بوصفها رواية أطروحة من أجل التأسيس عليها، أهمية الوعي التنويري الذي يحاول الالتفاف عليه التقليديون والسلفيون من خلال ثنائية الوعي – الخبز؛ وذلك بدفع الناس لإهمال عنصر الوعي والانشغال بالبحث عن الخبز فقط، والتأكيد على تكامل وجهي الثنائية الضدية هذه. ومن مفاهيم «الأطروحة» في الرواية ضرورة احترام «الآخر» وفهمه والإصغاء لرأيه، وعدم الانغلاق على موقف شخصي أو مونولوجي منفرد. ولا تتخلى الرواية لحظة عن معاودة وتقليب إشكالية الوعي النقلي والوعي العقلي، وتأكيد مسؤولية المثقف في إحداث التغيير ونشر الوعي التنويري، مهما كان الثمن.
تتموضع الرواية تاريخياً وكرونولوجياً وزمكانياً، في الزمن المعاصر، وتتزامن مع انتفاضة تشرين، وجائحة كورونا، لكنها غالباً ما تعود إلى الماضي من خلال تنشيط فعل «الذاكرة» لردم الفجوات التاريخية التي تعيد تشكيل صورة المدينة تاريخياً وفكرياً، وتسهم في خلق «هوية سردية للمدينة» بمفهوم بول ريكور، وهو ما حققه سابقاً الروائي زهير الجزائري في رواية «باب الفرج» التي كانت عن مدينة النجف أيضاً، وكذلك سبق الروائيين محمد خضير ومهدي عيسى الصقر بكتابه «هوية سردية» لمدينة البصرة.
«لقلق النبي يونس» تتحول أيضاً إلى سردية ثقافية أو رواية ثقافية، وهو مفهوم من مخرجات النقد الثقافي سبق وأن أشره الدكتور سمير الخليل في كتابه «الرواية سرداً ثقافياً» الصادر عام 2020.
واحتكاماً إلى مفهوم «السرد الثقافي» تكتنز الرواية بمجموعة هائلة من المأثورات والحكايات والأساطير والخطابات والممارسات التي راكمتها المدينة عبر تاريخها الطويل، وهي تمثل مادة تاريخية وأنثروبولوجية وفكرية عن الوجه الآخر المغيّب، وربما المسكوت عنه من حياة المدنية.
ومن الناحية السردية، فإن السرد الغالب هو سرد مبأر يمر عبر شاشة وعي بطل الرواية، وبعض الشخصيات المشاركة الأخرى، وغالباً من خلال توظيف ضمير الغائب الذي هو صورة مموهة عن «أنا» المتكلم والذي يسميه الناقد تودروف «أنا الراوي الغائب».
لكن السرد يتحول أحياناً إلى توظيف ضمير المتكلم «أنا»، وخاصة داخل «المخطوطة» الفكرية، والتي تحول الرواية إلى نصين سرديين «اكتشفت، وأنا أقلب صفحات التاريخ أن هناك خلافاً عميقاً بين قطبين متضادين، أو بمعنى أصح متوازيان لا يمكن أن يلتقي أحدهما بالآخر»، ونجد تنشيطاً لفعل «الذاكرة» بطريقة قصدية؛ مما يمنح الرواية صفة «الميتاسردية أيضاً.
ويتأكد المنظور البوليفوني التعددي للرواية، وقصدية الكتابة الميتاسردية مراراً، عبر صفحات الرواية، «كان يقرأ، وفي الوقت نفسه يكتب، ويرى أن الكتابة فيها فرض عين، كما يصطلح عليه الفقهاء، ولكن أي كتابة؟ هو يريد أن يكتب بما يغاير ما يكتبه الآخرون» (ص 12).
ويكشف السرد عن توظيف بنية المشهد الروائي والصورة الفوتوغرافية، كما فعل ذلك عند تدقيقه في عشر صور تمثل مراحل مختلفة من حياته وحياة مدينته: وهو يرى أن الصورة وثيقة ناطقة لا لبس فيها، وهي أصدق إنباءً من الرواية، ولكن ما يجمعهما، أنهما أصبحا طيف ذكرى». (ص 240 – 243).
والرواية، مع ذلك، لا تخلو من مقاطع سردية مباشرة تنتمي إلى سرد الراوي العليم، لكنها لا تؤثر على فنية الرواية واتجاهها السائد في التبئير السردي الداخلي أو الذاتي. ثمة دائماً تناوب بين السرد البصري الكرونولوجي الخطي المتصاعد مع حركة الأحداث المعاصرة وفعل الذاكرة الذي يستغور صور الماضي المندرسة.
وتمثل النافذة التي يطل منها على الشارع والعالم الخارجي بمثابة مرقاب على الحياة والمستقبل بكسر حدة الشلل الذي أقعده مجبراً على كرسي مدولب؛ ولذا تصدرت النافذة استهلال الرواية «صارت هوايته التي شغف بها، وفضّلها على غيرها من الهوايات والتي تنافسها سوى القراءة، التحديق من خلف شباك غرفته المطل على الزقاق» (ص 9).
وتوظيف النافذة، بوصفها مرقاباً يطل على الخارج، عتبة سردية لجأ إليها عدد كبير من الروائيين والقصاصين الأجانب والعرب والعراقيين. وربما يتذكر القارئ بطلة قصة «ايفلين» للروائي الآيرلندي جيمز جويس من مجموعته القصصية «أهل دبلن» والتي كانت فيها بطلة الرواية تطل على العالم الخارجي من خلال نافذة غرفتها وتقرر فيه مصيرها ومستقبلها. كما نجد توظيفاً واسعاً للنافذة في أقاصيص محمود عبد الوهاب، ومحمد خضير، ولؤي حمزة عباس، وأحمد خلف، وغيرهم. وربما يمثل شباك محمود عبد الوهاب في قصة «الشباك والساحة» المكتوبة عام 1969 علامة مميزة ترتبط إلى حد كبير بعالم بطل رواية «لقلق النبي يونس»، حيث نجد بطل الرواية المقعد، والمصاب بالشلل، يطل أيضاً وهو جالس في كرسيه المدولب على العالم الخارجي من خلال نافذة غرفته عبر ثنائية الداخل - والخارج.
رواية «لقلق النبي يونس» رواية تحتشد بحياة خصبة وموّارة، وتكشف عن مجموعة من الرموز والعلاقات السيميائية التي تتطلب تأويلاً خاصاً منها رمزية عنوان الرواية المركب. ورمزية «اللقلق» في الرواية تشكل إشكالية كبيرة ومهمة ترتبط بالحوار الفكري بين ما يسميه الروائي بالوعي الأسطوري والوعي العقلاني (ص 121). فقد بدا اللقلق للوهلة الأولى بوصفه أحد الرموز الدالة تاريخياً على مدينة الكوفة، لكننا نكتشف أن هذا الرمز كان يرتبط بالوعي الأسطوري، وذلك من خلال قيام الناس بتوجيه النذور لهذا اللقلق. ولذا؛ يصبح إسقاط هذا الرمز الممثل لغلبة العقل الأسطوري أمراً مهماً لفتح الطريق أمام التنوير ونشر الوعي العقلي، وهو ما حصل فعلاً عندما قام عدد من مربي الطيور «المطيرجية» بإيقاع اللقلق في كمين محكم وإسقاطه عن عرشه وإنهاء سطوته الرمزية على فضاء المدينة والتي كانت تمنع طيورهم من التحليق بحرية.
ومن الأهداف الفكرية والفلسفية للرواية، التأكيد على تواصل الأجيال، حيث تتحمل الأجيال الجديدة مسؤولية مواصلة رسالة التنوير العقلي وتحطيم الأصنام المعرقلة للوعي والتفكير والحياة.
يمكن القول، إن رواية «لقلق النبي يونس» رواية محتشدة بالحمولات الفكرية والآيديولوجية، فضلاً عن صور الحياة الاجتماعية والتأريخية لمدينة الكوفة العريقة، وأنها تشكل إضافة مهمة في خلق الهوية السردية لهذه المدينة وأناسها عبر تاريخها الطويل.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.