أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»

«مشروع أومّا» للطفية الدليمي

أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»
TT

أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»

أربع صياغات لقصة واحدة تتحدث عن شخص واحد... «حي بن يقظان»

السخرية اللاذعة التي يواجه بها «فلاح» أصدقاءه المثقفين المتحمسين لإنقاذ أنفسهم وبلادهم من يأسها في شقة العزاب ببغداد، بتشبيههم بقادة «الفيالق السومرية» في مدينة «أوما» في عهد ملكها القوي «لوكال زاكيسي» الذي كان يتحضر لغزو «لكش» والاستيلاء على كنوزها ثم توحيد بلاد سومر، هي حجر الأساس المهمل الذي يتنكر السرد له في رواية الكاتبة العراقية لطفية الدليمي «مشروع أوما» - منشورات «المدى»، 2021. هذه السخرية نقرأها، ابتداءً، في استرجاع خارج زمن السرد الذي يبدأ بعودة إبراهيم الصافي لبلدته/ قريته الصافية. لم تستقر الرواية على توصيف نهائي للصافية؛ فهي بلدة، وهي قرية أيضا، برغم أن توصيف البلدة أكثر تواترا واستخداما في الرواية.
قصة العائد وما يتصل بها من عوالم سردية مغرية، إذن، هي الأصل الذي تدافع عنه الرواية وتتعمد تبريزه عبر العنوان، أولا، بما يقدمه من تأويل سردي مخصوص. وهناك، ثانيا، ثيمات العمل المتعلقة ببناء عالم متخيل يوازي عالمنا الحقيقي؛ غير أن المفارقة أن مقاصد الرواية وعالمها السردي لا تنجح في إخفاء و«طرح» القيمة الفائقة لـ«سخرية» فلاح السوداء وقد تكفلت، بمفردها، بصناعة المشهد بطرفيه اللذين سيحيلاننا إلى زمنين ومكانين وقصتين مختلفين تماما «وقد نتحدث عن ثلاث قصص!»، وهي ذاتها ما سيحسم توزيع المادة الحكائية في الرواية على قسمين: الأول بعنوان «وقائع بلدة الصافية»، والثاني بعنوان «مشروع أوما»، وينشغل القسمان بتوزيع مادتهما الحكائية على فقرات تحمل عناوين مختلفة.
القصة المضمرة: حي بن يقظان... أربعة مؤلفين لقصة واحدة، أربعة ينفذون «مشروع أوما».
ولكن لماذا كل هذه الأهمية لسخرية «فلاح»، الشاب شبه الفوضوي الذي لم يستقر، في حياته، على «عمل» أو «دراسة»؛ فمن دراسة الفلسفة في الجامعة التي هجرها ليعمل «بائع كتب» ومصمم ديكورات ومصور أفلام قصيرة وعازفا في فرقة موسيقية، إلى «صيغة المبالغة» الملازمة لاسمه كما يصحح لأصدقائه: «فَلّاح» وليس بـ«فلاح» «يا ناس اسمي على وزن (فعّال)». هذا القدر اللافت من «الفوضوية» المصاغة بسخرية فاقعة أعطت كلامه وسلوكه النافرين قيمة كبرى نجدها بصياغة أخرى ومختلفة لقصة ضمنية لا يصرح بها السرد سوى مرة واحدة ثم يهملها. إنها قصة «حي بن يقظان» التي تعاقب على «تأليفها» أربعة فلاسفة مسلمين، هم: الفيلسوف «ابن سينا» وقد كتبها أثناء سجنه، وأعاد كتابتها الشيخ شهاب الدين السهروردي، وتولى إعادة كتابتها، مجددا، الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، والكتابة الأخيرة كانت على يد ابن النفيس. عندنا هنا أربع صياغات لقصة واحدة، تتحدث عن شخص واحد يسمى «حي بن يقظان» الذي ينشأ على جزيرة منعزلة برعاية «ظبية» تجده هناك، وقد ضاع منها ابنها، فترضع الطفل وترعاه. يستعيد إبراهيم الصافي «لأمر لم يعلنه» قصة حي بن يقظان أمام أصدقائه ويجري بينهم حديث عن القصة الفلسفية التي تنسجم وقائعها مع رغبة المتحاورين بالخروج من مأزقهم الشخصي في بلادهم المحطمة؛ فتصطدم القصة المستعادة بسخرية «فلّاح» الذي يستعيد، ساخرا، مشهد المدينة السومرية المتأهبة للانقضاض على «لكش» وتوحيد سومر. وشتان بين المشهدين، مشهد الفيالق السومرية ومشهد الأصدقاء المتحمسين لإنقاذ أنفسهم من الطوفان. في المشهد الأول كان هناك «ملك» قوي يحكم «مدينة» صاعدة ستنجح بتوحيد بلاد سومر، فيما المشهد الثاني يختصره أربعة شباب يائسين لا يملكون غير «الثرثرة» سبيلا لإنقاذ أنفسهم من الطوفان القادم.
يهمل السرد قصة «حي بن يقظان» ومقاصدها، مثلما لا يحتفي كثيرا بسخرية فلّاح، ويدشن عالمه بمنطق العائد «إبراهيم الصافي» إلى قريته بعد تسع سنوات؛ غير أن إبراهيم لا يعود لبلدته المخربة وبساتينها المحترقة ليروي ما حصل، كما تعودنا في سردية المنفي العائد في روايات عراقية وعربية كثيرة. إنه يعود ليفتح بيت أهله المهمل بعد وفاة أمه، يعود لحب عمره «زهيرة الصافي»، ويعود ليحول سخرية «فلاح» إلى واقع وفي باله أن «الصافية»، بلدته، هي أوما السومرية التي يجب «الشروع» ببنائها. يترك إبراهيم أصدقاءه في بغداد ويعود ليبدأ العمل بـ«مشروع أوما». وقبل أن يغادر يدعوهم للالتحاق به، وسنجد، بعد حين، أن فلّاح وفيصل هما الملتحقان الوحيدان به. هكذا تكتمل الأركان الأربعة للقصة المضمرة، قصة أربعة مؤلفين تركوا لنا قصة واحدة بأربع صياغات سردية فلسفية، فيما نحن، الآن، أمام أربعة أشخاص سينفذون «مشروع أوما».
أي قصة: زمن أوما المستعاد... زمن الصافية المتخيل؟
لا يزيد الزمن في الرواية عن ثلاث سنوات. يبدأ في اليوم العاشر من أغسطس (آب) سنة 2026 وينتهي في صيف 2028؛ ولكن يوجد زمن آخر يقابله حينا، ويمثل غالبا ذاكرة يستعيدها زمن السرد ويتبناها. إنه زمن «أوما» المدينة السومرية في أقصى الجنوب العراقي في عهد ملكها «لوكال زاكيسي». الزمن الأول هو زمن متخيل، تجري أحداثه في المستقبل لكنه، كذلك، زمن مشبع بالإحالات إلى أحداث كبيرة وخطيرة حصلت في عقد زمني يسبق زمن السرد المتخيل. عندنا إشارات واضحة عن وقائع تخص وتؤرخ لسقوط مدن كبرى بيد عصابات القتلة المسلحة وميليشيات لا رادع لها تعيث فسادا في البلاد، إشارات عن مظاهرات كبيرة تسبقها أخرى عن مدن وبيوت تُسقط على رؤوس أهلها. ثمة حكومة ضعيفة تعجز عن توفير أبسط الخدمات من ماء وكهرباء، ناهيك عن حماية الناس، مواطنيها المفترضين. وثمة «الصافية» التي نعرف، من إشارات ضمنية، أنها تقع في مدينة عراقية شرق بغداد «ديالى». فيما يظل الزمن الثاني، زمن أوما المستعاد «في حدود 2327 قبل الميلاد، المقابل لبعض زمن السرد 2027 بعد الميلاد»، خلفية حكائية يتكئ إليها السرد، فهي أقرب إلى مرآة كبرى ترى فيها شخصيات الرواية ذواتها المضطربة والمتحولة في آن واحد. ومثلما يختلف الزمنان، يختلف المكانان كذلك؛ «الصافية» في شرق البلاد، وأوما في الجنوب. والرابط بين المكانين والزمنين هو مقاومة اليأس والنجاة من الطوفان القادم لا محالة بعد توحيد البلاد مجددا.
وبعودة إبراهيم الصافي إلى «الصافية» يتقرر كل شيء في الرواية: الوقائع السردية لقسميها الأول والثاني، وصور الراوي ومنطق السرد ومشهدية المكان، بل حتى عتبة العنوان ذي الحمولة الإخبارية التي تظهر للقارئ بصيغة السؤال، فيما يكون النص جوابا مفترضا لسؤال ابتدائي: ما مشروع أوما؟ ولا بأس؛ لكن هل، حقا، أن ثيمة «العودة» تحظى بكل هذه القيمة؟ تقرر هذه الأهمية، ابتداء، تراجعا سرديا لقيمة «السخرية» التي أهملها السرد والمتمثلة بشخصية «فلّاح» عبر كلامه وأفعاله. وهذا التراجع مفهوم ومسوغ لصالح تنامي قيم العمل والبناء الثاوية في العنوان «مشروع أوما». لكن السرد ينشغل، في الخفاء، بقصة ثانية، هي الأصل كما نعتقد، تمثلها قصة الفلاسفة الأربعة الذين تركوا لنا أربع قصص عن حي بن يقظان، وهم في الرواية إبراهيم الصافي وزهيرة الصافي فيصل «ولاحقا زوجته معلِّمة التلاميذ» ثم فلّاح «ولاحقا مها الفتاة المغتصبة».
كم قصة عندنا هنا؟ هل نحن إزاء قصة مدينة «أوما» السومرية بوصفها «الأمثولة» الكلية للذاكرة؛ أم أننا إزاء قصة بلدة «الصافية» كما يقدمها القسم الأول، أم أننا إزاء قصة الجدة المتسلطة، أم قصة العمة «روضة» التي حبستها الجدة في قبو البيت الكبير وماتت مع جنينها، أم أن «مشروع أوما» هو التمثيل الموازي الأحدث لقصة حي بن يقظان بصياغاتها الأربع؟ يمكننا أن نقول إننا أمام كل هذه الحكايات؛ نحن أمام قبو الحكايات، القبو الذي تنزل إلى قاعه زهيرة فتصدمها رائحة العفونة وأسرار الجدة الراحلة ومصائبها، وهي ذاتها أسرار بيت الصافي الكبير، أسرار الصافية. نحن إزاء هذه الحكايات كلها؛ ولكن كيف؟
لنترك عتبة العنوان ونتأمل الصور التي يظهر عبرها راوي السرد. هو الراوي المراقب الذي يحكي وينقل لنا رؤى وخطابات الشخصيات السردية، وفي مواضع ليست كثيرة يترك مكانه ويتولى السرد الراوي كلي العلم، ثم نجد الراويين، في الخاتمة، يتركان الشخصيات تتكلم، بعد أن حقق المشروع قدرا ملحوظا من النجاح، وصار بقاؤه ودوامه رهن قدرة الجميع، لا سيما إبراهيم وزهيرة، على المقاومة والصمود. زهيرة، مثلا، تنتظر مولودها من إبراهيم، وهي تعرف أن القتلة وعصابات الإرهاب لن يتركوهم بسلام. فيصل يعود بزوجته «المعلِّمة» إلى «الصافية» ويستكمل معها مشروع التعليم الحر للأولاد. فلّاح يتوج حبه لـ«مها/ علياء»، الفتاة المغتصبة التي تعهدت الجدة برعايتها وتبنيها. تنتهي الرواية كما لا تبدأ، بالأمل ومشهد البساتين المزدهرة بعد أن كانت محض رماد في مفتتح الرواية، لكن مشهد الخاتمة لا يخدع القارئ بأوهام الانتصار إنما يضعه في قلب مشهد «القتلة» المتربصين بالحالمين.
تنسجم مشهدية المكان مع تحولات الراوي وأصواته السردية، فالـ«صافية»، مثلا، كما يقدمها القسم الأول من الرواية، هي مكان بلا ملامح حقيقية؛ مجرد قرية شهدت الخراب والموت، نكتشف تفاصيلها الأولى بعيني زهيرة في مطلع الرواية. قرية لا يميزها سوى بستان الورد ومشهد بيت الصافي الكبير على مرتفع مكاني ليس بعيدا عن النهر. لكنها ستأخذ سمات المكان الحقيقي ذي الملامح الذاتية بتحول السرد إلى منطق الراوي المتكلم، إذ سنشهد تفتح المكان وازدهاره عندما يتولى الرواة الأربعة سرد قصة كل منهم. لنقل عندما يتولى الرواة «كتابة» قصة «مشروع أوما»، وهو الأصل الذي جهد السرد لإخفائه بلا جدوى.

- ناقد وأكاديمي عراقي



بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان
TT

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة في ذلك الدرس الأسبوعي الكبير للبروفسور محمد أركون في السوربون. كان دائماً برفقة شخص آخر هو معجب الزهراني. وكنا نرى فيهما الوجه المشرق والمتألق للمملكة العربية السعودية. وما كنا نعرف آنذاك أن معجب سيصبح لاحقاً أحد أشهر المثقفين العرب. وسوف يتبوأ أعلى المناصب في العاصمة الفرنسية: مديراً عاماً لمعهد العالم العربي. كان طالباً عادياً مثلنا لا أكثر ولا أقل. وقد شعرنا بالفخر آنذاك لأن أحد أبناء جيلنا وصل إلى هذا المنصب الرفيع. هذا ناهيك بكونه ناقداً أدبياً وأستاذاً جامعياً لامعاً. وأعتقد أن أحمد أبو دهمان كان فخوراً به إلى أقصى الحدود. كنا مجموعة من الطلاب العرب نحضر تلك الدروس الشهيرة في ثمانينات القرن الماضي وربما تسعيناته. وهي الدروس التي جددت الفكر العربي الإسلامي بشكل غير مسبوق. إنها دروس دخلت التاريخ من أوسع أبوابه بل ودشنت التاريخ العربي ما بعد الأصولي. وقد أصبح بعض طلابه من المشاهير لاحقاً. فبالإضافة إلى الدكتور معجب الزهراني يخطر على بالي الآن شخص آخر نال شهرة واسعة هو الدكتور التونسي محمد الحداد. وهناك حتماً آخرون في مشرق العالم العربي ومغربه ممن خرجهم ذلك الدرس الأكاديمي العبقري الخالد.

فيما بعد توطدت علاقتي بأحمد أبو دهمان عندما تفضل علي واستكتبني في جريدة «الرياض» الغراء. ولم أكن معروفاً آنذاك كثيراً. ولكنها ساهمت في التعريف بي عندما نشرت مقالاتي على صفحاتها الثقافية تحت إشراف الشاعر سعد الحميدين. وكنت أشعر بمتعة كبيرة في تدبيج تلك المقالات وتسليمها له باليد كل أسبوع لكي يرسلها إلى الجريدة. كان يعطيني عادة موعداً في مقاهي باريس القريبة من منزله في الدائرة الخامسة عشرة. وهي منطقة اليونيسكو وبرج إيفل في الواقع: أي من أرقى المناطق الباريسية وأحلاها. وكنا نتحادث كثيراً في المقهى ويجر الحديث الحديث. وما أمتع الحديث مع أحمد أبو دهمان. ما أمتع تلك الأحاديث الباريسية أيام زمان. كم أصبحت الآن بعيداً عنها وعني. وفي عهده الميمون بصفته مسؤولاً عن جريدة الرياض في باريس لم يكتف بنشر مقالاتي المتفرقة على صفحات الجريدة السعودية الكبيرة وإنما كلفني أيضاً بنشر كتابين لا كتاب واحد في سلسلة «كتاب الرياض». وهي سلسلة مشهورة ولها وزنها. وقد كان الكتاب الأول بعنوان: «قراءة في الفكر الأوروبي الحديث»، والثاني بعنوان: «العلم والإيمان في الغرب الحديث». وهما أول كتابين أنشرهما في حياتي. ومن ثمّ فجريدة الرياض لها فضل كبير علي.

ثم ابتدأت في السنوات اللاحقة أنشر أكثر فأكثر على صفحات «الشرق الأوسط» وانقطعت علاقتي مع الرياض تدريجياً. وقد تزامن ذلك مع عودتي إلى المغرب وعودته هو إلى السعودية.

كنا نعرف أحمد أبو دهمان كاتباً حساساً وصحافياً لامعاً لاذع الأسلوب أحياناً. ولكن ما كنا نعرف أنه روائي يستطيع السيطرة على فن القصة من أولها إلى آخرها. وهنا تكمن المفاجأة الأولى لكل من يعرفونه من كثب. يحصل ذلك كما لو أنه خبأ سره أو لعبته زمناً طويلاً حتى انفجرت في آخر لحظة كالقنبلة الموقوتة. ولكن هل كان هو ذاته يعرف أنه قادر على فن السرد الروائي إلى مثل هذا الحد. ألم يكن يحسب نفسه شاعراً، وشاعراً فقط. وقد كان شاعراً بالفعل. وروايته تضج بالشعر. هذا لا يمنع ذاك. في الواقع أن الكاتب (أي كاتب) لا يعرف من هو بالضبط قبل أن يجرب نفسه. من المعلوم أن نجيب محفوظ كان يعتقد في البداية أنه سيصبح مفكراً أو فيلسوفاً على طريقة طه حسين. ولذلك راح يدبج المقالات الفكرية أو الاجتماعية قبل أن يكتشف في حناياه موهبته الضخمة بوصفه روائياً عبقرياً.

أما المفاجأة الثانية في حالة أحمد أبو دهمان فهي أنه يكتب روايته الأولى بالفرنسية وينجح نجاحاً باهراً. ولعله المشرقي الوحيد الذي حقق هذا الاختراق في الساحة الفرنسية إذا ما استثنينا أمين معلوف بالطبع. ولكن أمين معلوف لبناني تعلم الفرنسية منذ نعومة أظفاره وليس على كبر كما هي حالة أبو دهمان وحالتنا جميعاً. وأما المفاجأة الثالثة فهي أن الرواية (رواية الحزام) حظيت بالطبع في أشهر دور النشر الباريسية: غاليمار. ومعلوم كم هو من الصعب الوصول إلى هذه الدار التي لا تنشر عادة إلا لكبار الكتاب المكرسين سابقاً. ثلاث مفاجآت دفعة واحدة كانت كافية لكي تجعل من هذه الرواية السعودية حدثاً ثقافياً على كلا المستويين العربي والفرنسي. ولكن عن أي شيء نتحدث بالضبط؟ ما مضمون هذه الرواية؟

لنقل باختصار شديد إنها سيرة ذاتية مقنعة. بالطبع فإن الكاتب يستطيع أن يختبئ خلف الروائي بطل القصة ويقول: لا تصدقوا ما أقول. هذا كله خيال في خيال. لا تأخذوا الكلام على حرفيته فهناك دائماً مسافة بين الكتابة الروائية والواقع الحقيقي. وهذا صحيح. ولكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا من الاعتقاد بأن الكاتب استوحى أحداث الرواية من حياته الشخصية خاصةً. فهناك توازٍ (إن لم يكن تطابقاً) بين حياة البطل وحياة أحمد أبو دهمان ذاته. ويتجلى هذا التطابق عندما يقول الراوي إنه سيصبح صحافياً لاحقاً، أو عندما يتحدث باستمرار باسم ضمير الشخص الأول، أو عندما يصف مساره من القرية إلى مدينة «أبها» عاصمة الإقليم، إلخ. وهو مسار كلاسيكي معهود لجميع أبناء الريف الفقراء الذين يريدون أن يتعلموا ويخرجوا من هامشيتهم ويصعدوا في المراتب الاجتماعية ويصلوا... وفي هذا الصعود إلى القمة تتجلى لنا ضخامة الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريقهم. ينبغي أن يخترقوا عدة حواجز قبل أن يصلوا. ولا يصل في نهاية المطاف إلا النجباء منهم والذين عانوا الأمرّين وصبروا حتى النهاية. وهكذا تنطبق عليهم كلمة نيتشه الشهيرة: «وحدها الشخصيات الاستثنائية تخترق الظروف».

هناك إذن ثلاث بيئات في الرواية: بيئة القرية الأولى، وبيئة مدينة أبها عاصمة الإقليم، وبيئة العاصمة المركزية الكبرى: الرياض. وقد توقف الكاتب طويلاً عند تصوير البيئة الأولى بكل حجرها وشجرها وبشرها وطبيعتها. وقدم لنا لوحات أخاذة لا تقل جاذبية عن أجمل اللوحات الفنية ورسوم المدرسة الانطباعية الفرنسية. ويبدو أن الكاتب كان يجد متعة كبيرة في استعادتها واستذكارها وهو بعيد عنها في باريس. فهل الرواية عبارة عن تصفية حسابات مع الذات والطفولة بالمعنى الإيجابي للكلمة وليس السلبي؟ دون شك. لنقل إنها مراجعة للذات واستكشاف لهوية الذات وأعماقها على كبر. إنها بحث عن الجذور وحنين جارف إلى الأصول لشخص أراد تخليد قريته وطفولته في عمل أدبي رفيع. وربما لهذا السبب نشرتها غاليمار في سلسلة «الطفولة الأولى». بعد أن كتب هذه الرواية يستطيع أحمد أبو دهمان أن يتنفس الصعداء ويقول: لقد أديت واجبي وسددت ديوني. لقد تصالحت مع نفسي.

هناك مشاهد سينمائية أو شبه سينمائية في الرواية حتى لكأنك تحسها وتراها بأم عينيك. ومنها مشهد ذهاب أمه في منتصف الليل لجمع الحطب مع نساء القرية كما كانت تفعل أمي أنا أيضاً. إنه مشهد يصعب عليك أن تمر عليه مرور الكرام دون أن ترتجف. بالمختصر المفيد ما يلي: كل النساء العائدات وأكوام الحطب على رؤوسهن يمضغن بعض الخبز لتخفيف العناء والتعب والجوع ما عدا أمه التي تعض على الحبل بنواجذها موهمة بأنها تأكل شيئاً مثلهن. لقد قتلني هذا المقطع قتلاً، دمرني تدميراً. ولكنه أحياني وأنعشني في الوقت نفسه لأنه أعادني إلى طفولتي العميقة، طفولتي السحيقة. شكراً أحمد أبو دهمان. ألف شكر. إنه الفقر المدقع، الفقر الأسود، ولكنه الممزوج بالشرف وعزة النفس.

هذه قراءة سريعة وناقصة جداً لرواية أحمد أبو دهمان، التي دخلت التاريخ الآن. وهي تشكل مفخرة ليس فقط له، وإنما للأدب السعودي الحديث كله، بل وللآداب العربية بأسرها. تحية لك يا أحمد. تحية لك كاتباً مبدعاً وفارساً عربياً ترجل. كنا نتمنى لو بقيت معنا فترة أطول.


التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار
TT

التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار

عاد الشتاء وعاد التحديق الموسمي في النار. النار ليست مادة، بل لغز. تاريخياً، لم يكن طهي الطعام والدفء هما الغرضان الوحيدان، بل كان الإنسان يصف صلي عظامه وجروحه بالنار علاجاً لكل أوجاعه التي يعرفها والتي لا يعرفها، كقوة تطهير. من الصداع وأوجاع الظهر إلى عضّات الحيوانات ولسع العقارب والحيّات، كان يعالج كل ذلك بالاصطلاء والكي.

لكن التحديق في النار وفي حركتها الأفعوانية التي لا تستقر على شكل ثابت ولا تعيد نفسها مرتين، يشعر بأن هذا المشهد ليس مجرد رؤية عابرة، بل انجذاب صامت يعلق بالفكر. ثمة شيء في النار يدعو إلى السكون أمام شيء ذي قداسة وهيبة. كأنها تخاطب طبقة أقدم من العقل، طبقة لا تستجيب بسهولة للتفسير. في لحظة التحديق يأبى الذهن بغريزته الأولى، كل محاولة لاختزالها إلى شيء محدد. النار لا تحضر أمامي كجسم، بل كفعل وحركة خالصة. إنها صيرورة تُرى ولا تُمسك. ولهذا يبدو أي تعريف مادي لها ناقصاً منذ البداية، مهما بدا مطمئناً أو دقيقاً.

تقول الفيزياء والكيمياء الحديثة إن اللهب ليس مادة صلبة ولا سائلة، بل مزيج من غازات متوهجة وبلازما ضعيفة ناتجة عن الاحتراق. هذا توصيف دقيق من حيث القياس والتحليل، لكنه لا يلامس جوهر تجربتنا الحية بالنار. إنه يشرح شروط الظهور، لا معنى الحضور. العلم هنا يتعقب الظاهرة، ويفككها إلى عمليات وجسيمات وانتقالات طاقة، لكنه لا يجيب عن السؤال الذي يفرض نفسه، ماذا تكون النار في ذاتها؟ بل لعل هذا الوصف العلمي، بدل أن يحسم المسألة، يزيدها تعقيداً، لأنه يعترف ضمنياً بأن النار ليست شيئاً قائماً بذاته. ما يظهر كمادة ليس إلا وسيطاً تمر عبره النار، لا النار نفسها، ولهذا لا يمكن تثبيتها في مفهوم واحد.

من هذا التوتر بين ما يُعاش وما يُفسَّر، نعود إلى البدايات الأولى للفلسفة، إلى الفلاسفة الأيونيين الذين جرى تصويرهم طويلاً بوصفهم ماديين بدائيين. غير أن هذا التصوير يخفي أكثر مما يكشف. فطاليس حين قال إن الماء هو المبدأ الأول لم يكن يتكلم عن سائل محسوس، بل عن مبدأ حيّ قادر على التحول والتولد. وأنكسيمانس حين جعل الهواء أصلاً لم يكن يقصد هواء التنفس، بل قوة لطيفة تتكاثف وتتخلخل فتنتج الكثرة. أما أنكسيمندر، حين تحدث عن غير المتعين، فقد تجاوز أصلاً فكرة المادة المحددة، ووضع مبدأ لا يُرى ولا يُمسك. سؤالهم لم يكن مما صُنع العالم كجسم، بل كيف يصير، وكيف يتحول، وكيف يمكن للعقل أن يفهم الحركة نفسها.

في هذا السياق تُظهر نار هيراقليطس معناها الحقيقي. فهي ليست عنصر الموقد، ولا مادة فيزيائية، بل صورة فلسفية للصيرورة الدائمة. النار عنده تعبير مكثف عن عالم يقوم على التوتر والصراع والتحول المستمر. إنها تقول إن الوجود لا يُفهم من خلال الثبات، بل من خلال التغير، وإن الحقيقة ليست ما يستقر، بل ما يتبدل. ولهذا لا تكون نار هيراقليطس مبدأً مادياً بالمعنى الحرفي، كما يروج الماديّون، بل لغة فكرية تشير إلى أن العالم فعل وحركة لا جوهر، وأن العقل نفسه لا يستطيع أن يفهم الكون إلا إذا تخلى عن وهم السكون.

هذا الحدس القديم يجد امتداده المعاصر عند غاستون باشلار. ففي كتابه «التحليل النفسي للنار» لا يسعى إلى تقديم نظرية علمية جديدة، بل إلى قلب زاوية النظر رأساً على عقب. إنه يعيد النار من المختبر إلى المخيلة، ويقول إن الخطأ لم يكن في اختيار النار موضوعاً للتفكير، بل في اختزالها إلى مادة. النار، في نظره، صورة نفسية عميقة، تسكن الإنسان قبل أن يفكر فيها علمياً، وتسبق المفهوم والتجربة المعملية معاً. إنها ترتبط بالرغبة والمعرفة والعدوان والألفة في آن واحد، ولهذا تملك هذه القدرة الغريبة على لفت النظر وإيقاف الزمن، فننظر إليها في صمت وإجلال.

يرى باشلار أن التحديق في النار فعل تأملي بدائي، يكشف عن أحلام السيطرة والتحول والتطهير. في النار نحلم بالقوة، لكننا نستحضر الخطر أيضاً، وننجذب إليها بقدر ما نخشاها. إنها تجمع الأضداد النفسية، الدفء والدمار والسكينة والتهديد، ولهذا كانت حاضرة في الأساطير والطقوس وتاريخ السحر وذاكرة الشعر، لا بوصفها عنصراً طبيعياً فقط، بل بوصفها تجربة داخلية كثيفة. والعلم، بحسب باشلار، لم يتقدم إلا حين قطع مع هذه الخيالات النارية الأولى، لكنه حين فعل ذلك ربح الدقة وخسر المعنى، ربح السيطرة وخسر الدهشة.

وهنا لا يدعو باشلار إلى رفض العلم، بل إلى وضعه في موضعه. العلم يفسر الظواهر، لكنه لا يستنفد دلالتها. النار، حتى بعد كل التفكيك الفيزيائي، تظل تجربة تُعاش قبل أن تُحلل، وتظل قادرة على إرباك العقل الذي يريد تحويل كل شيء إلى موضوع يمسك به ويهيمن عليه. ولهذا يحوّل باشلار السؤال مِن: ما النار؟ إلى ماذا تفعل النار في النفس؟ سؤال لا يبحث عن جوهر ثابت، بل عن أثر وعلاقة وصدى داخلي.

عند هذه النقطة يكتمل المسار النظري. تنتقل النار من كونها ظاهرة تُوصَف مادياً إلى كونها مبدأً دلالياً للصيرورة عند الفلاسفة الأيونيين، وتبلغ ذروتها الفلسفية عند هيراقليطس بوصفها لغة للتغير الدائم لا عنصراً فيزيائياً. ثم يأتي باشلار ليعيد توجيه السؤال، فلا يجعل النار موضوعاً للعلم ولا مبدأً كونياً، بل يجعلها مفتاحاً لفهم المخيلة الإنسانية ذاتها. عند هذا الحد تتكشف حدود المادية، لا بعدها خطأ، بل بوصفها أفقاً جزئياً ابتدائياً من أفق الفهم، وتظهر إمكانية تفكير آخر لا يُلغي العلم ولا يناقضه، بل يضعه في موضعه، ويذكّر بأن بعض الظواهر لا تُستنفد حقيقتها بما تتكوّن منه، بل بما تُحدثه في الوعي والخيال.

* كاتب سعودي.


«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني
TT

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

عن مركز أبو ظبي للغة العربية صدرت رواية «سنوات المغر» للكاتبة والشاعرة الإماراتية مريم الزرعوني، وذلك ضمن مشروع «قلم»، الذي «يدعم رعاية الأصوات السردية الإماراتية، لتأخذ فرصتها في منظومة السرد العربي المعاصر».

تقع الرواية في 223 صفحة من القطع المتوسط، وتتناول سيرة شخصية (غريب) المولود في الشارقة في زمن شكل مفترقاً تاريخياً حاسماً في الخليج العربي، حين كانت الهويات تتشكل والحدود ترسم ملامحها الراهنة. وتستعرض رحلة هذا البطل القلق في بحثه عن إثبات ذاته وإنسانيته، بينما تضعه الظروف في مواجهة عالم لا يعترف بالفرد إلا عبر الوثيقة، فتبدو مساراته وكأنها محاولة دائمة لانتزاع الاعتراف بوجوده.

وتنشغل بفكرة العبور بين الأمكنة والهويات، إذ يتحول الزمن إلى مادة قابلة للتأمل، بعيداً عن السيرة أو الشهادة المباشرة. تدخلنا الرواية عالم (غريب) بثقة، ولا ترفع صوتها، إنّما تهمس في وعي القارئ المحبّ، للدخول في حوارٍ إبداعي مع الرواية، بينما تتشكل الشخصية الرئيسة داخل فضاء خليجي متغير، محمّل بأسئلة الانتماء والذاكرة والحدود التي ترسمها التحولات الاجتماعية والسياسية. وتتميز بنبرة هادئة تتجنب الاستعراض، معتمدة على بناء داخلي متماسك، يسمح للشخصيات أن تنمو عبر التفاصيل الصغيرة بعيداً عن المنعطفات الصاخبة، واللغة فيها تتعدّى التوسّل بالحكي؛ لتخلق آليات تسهم في تركيب جديد للمعنى، وتتقدم بحذر، كما تسمح بظهور أشكال سردية محسوبة ومختلفة داخل الفضاء الطباعي، تزجّ بالقارئ في النصّ السيري المتخيّل، فاتحًة آفاقه أمام بناء التجربة الإنسانية من الداخل.

تسعى «سنوات المَغَر» إلى تقديم إجابة محتملة على سؤال الهويّة، ثم تترك الباب موارباً للتأمل في معنى العيش داخل تحولات كبرى. فدون ادعاء تمثيل جماعي، تنحاز الرواية إلى العمق الإنساني الغامض، وتسبر مسؤولية الفرد في تكوّن الهويّة، ومغبّات القرارات التي عليها سيتجلى المصير.

تستنطق الجمادات لتصبح شريكة في رواية الحكاية؛ فتروي شجرة وصخرة ومرآة وأطياف حلمية مقاطع من سيرة (غريب)، مانحة الرواية تعددية صوتية تعكس التوتر بين زمن الشظف وزمن الطفرة، وبين انكسارات الذات وتحولاتها داخل فضاءات الخليج الممتدة، وتنسج الكاتبة عبر هذا التمازج توازياً بين تحول المكان وتحولات الإنسان، في بناء سردي محكم يوثِّق الذاكرة ويستعيد طبقاتها المتراكمة.

تعد «سنوات المغر» العمل الروائي الأول لمريم الزرعوني الموجه للكبار، بعد أن قدمت رواية اليافعين «رسالة من هارفارد».

من أجواء الرواية نقرأ: «مّد يده وأطبقها على الغيمة وابتسم، شعر بدفء يسري من النافذة إلى جسده، أخذ يمرر سبابته على ملامحها ويرسمها حتى اكتملت، تحدّرت من عينيه دمعتان صارتا خيطين شفيفين يتصلان عند ذقنه مشكّلتين قطرة ضخمة تهوي بحرارتها على صدره، نادته المضيفة لتقديم وجبة الغداء، فلم يلتفت... كررت نداءها لكنّه لم يشعر، كان ملتصقاً بالنافذة مغموراً في حِجر سهيلة، يفتح فمه ثم يلوك النبق من يدها، غارقاً في حلاوته».