«هناك شيء غامض لا أعرف ماهيته يشدني إلى منطقة الشرق الأوسط. أشعر أحياناً كما لو أنها، بألوانها وثقافتها وتقاليدها، تجري في دمي. شعور لا أستطيع تفسيره لكنه واقع يزيد عُمقاً كلما تخيلتها أو زُرتها». هذا ما استهل به المصمم الفرنسي الأصل ستيفان رولان حديثنا عبر «زووم».
يأتي اللقاء على خلفية أول تجربة له مع الأزياء الرجالية التي ارتأى أن يخص بها الرجل العربي. فهي عبارة عن مجموعة تشمل البشت والثوب، مما يجعلها تجربة أقرب إلى المغامرة بالنظر إلى أن الأزياء العربية التقليدية عموماً تحظى بمكانة تصيب كل دخيل تُسول له نفسه الخوض فيها بالوجل والقلق. لكن ستيفان رولان غير كل هؤلاء. فعلاقته بمنطقة الشرق الأوسط واحترامه لتقاليدها يُذوب الكثير ويمنحه نوعاً من الشرعية لإضفاء لمساته عليها.
يعود بذاكرته إلى الوراء ليتذكر البداية قائلاً: «كان ذلك منذ عقود، وكانت الرياض أول محطة لي فيها. كنت حينها شاباً أمر بفترة من حياتي مُثخنة بالجروح والقلق. وأنا أغادر المطار، سمعت صوت الآذان يتناهى إلى مسامعي. فجأة شعرت بنوع من السكينة كانت قد غابت عني طويلاً. في هذه اللحظة عرفت أن شيئاً بداخلي تغير إلى الأبد». هكذا بدأت علاقته بالمنطقة وهكذا استمرت وقويت عبر العقود. ومع ذلك يُنفي ستيفان أنه يرى نفسه مستشرقاً بالمعنى المتعارف عليه. يفضل أن يشبه نفسه بلورانس العرب مع فارق مهم حسب رأيه «في حالتي، تأثرت بروح المنطقة من الناحية النفسية والروحانية إلى حد ما، أما في حالة لورانس فأعتقد أنه انغمس فيها إلى حد الإدمان».
لا يختلف أي متابع للموضة أن المنطقة بادلته نفس الحب، وربما أكثر. وبحكم أنه مصمم أزياء متخصص في الـ«هوت كوتور» فإن الجنس اللطيف كان الشريحة المُحركة لهذه العلاقة. نجح في كسب ودها متكئاً على الثقة المتبادلة. كانت هذه الثقة، على المستويين الشخصي والمهني، الخيط الذهبي الذي ربطه بزبوناته. كان لا بد أن يفكر يوماً في فتح جسر بينه وبين الرجل أيضاً.
وهكذا بعد 20 عاماً، جاءت الفرصة. يشرح بأن فترة الحجر الصحي دافع قوي لكي يفكر في الأمر جدياً ويُنفذه، من دون أن ينسى التأكيد أن أكثر من شجعه على خوض هذه المغامرة أن العديد من الرجال طلبوا منه ذلك. ليس هذا فحسب بل «كانوا يقترحون أن أترجم لهم الثوب والبشت بلمساتي ورؤيتي». في الأخير استجمع قواه وخاض التجربة التي «كانت جديدة وفي الوقت ذاته مثيرة» حسب تعبيره، قدمها خلال أسبوع الموضة الراقية في شهر يوليو (تموز) الماضي، والآن بعد نجاحها، يتمنى ألا تكون تجربة يتيمة.
لا يخفي أن الثقة التي كسبها عبر السنوات بين صفوف النساء كمصمم يعشق المنطقة ويحترم تقاليدها هي نفسها التي أكسبته ثقة الرجل العربي وفتحت له المجال لإضفاء لمسته الباريسية على زي يتضمن مخزوناً ثقافياً وعاطفياً قوياً.
عندما أذكر له صعوبة الخوض في زي يتمتع بمخزون ثقافي وتاريخي يجعل الكثير من المصممين الأجانب يتجنبونه، وغالباً ما يفشلون في إضفاء الجديد عليه لأنه يُعرضهم لفقدان مصداقيتهم، يرد بثقة: «بالعكس، وجدت أن الملابس التقليدية تفتح المجال للكثير من الإبداع وحرية التعبير ما دام الأمر يتم ضمن الاحترام». ويتابع بحماس: «الثقافة العربية غنية وسخية بشكل يتيح لكل من يريد فرصة الغوص فيها والاستلهام منها بدءاً من الديكور الداخلي، والزليج، والزخرفات على الخشب والمجوهرات والسجاد...كل هذه الأشياء يمكن الغرف منها بسهولة وترجمتها بشكل جيد». النتيجة كما يظهر في الصور أن المصمم لم يخيب الظن فيه، فالتشكيلة المحدودة جاءت راقية بتفاصيلها، سواء تعلق الأمر بالثوب أو البشت، اللذين قدمهما حيناً على شكل «كيمونو» لكن بترجمة عربية، وحيناً بتصميم هجين بين البشت والتوكسيدو.
ولأن ستيفان تعود على التعاون مع فنانين عالميين طوال مسيرته، فإنه تعاون هذه المرة مع الفنان بندر السديري لطبع بعض هذه التصاميم بالخط العربي.
يُردد سيفان أن فترة الحجر الصحي التي أودت بالعديد من بيوت الأزياء المستقلة، أو على الأقل أثرت عليها بشكل يثير القلق على مُستقبلها، لم تكن سلبية بالنسبة له. بالعكس، فقد استفاد منها لالتقاط أنفاسه وإعادة ترتيب أوراقه والعودة إلى ما يعشقه: تصميم أزياء تحاكي الفن. هنا أيضاً لا يُنكر فضل المرأة العربية عليه. فقد كانت أكثر من دعمه في هذه الفترة كونه مصمم فساتين أعراسها المفضل.
«كانت فترة غريبة فعلاً» حسب اعترافه: «لم نتوقف طوال الجائحة عن تلقي الطلبات. صحيح أنها لم تكن بالحجم الذي تعودنا عليه قبل 2020. لكنها كانت مهمة جداً وكبيرة بالنظر إلى أننا كنا نمارس التباعد الاجتماعي وغيره من الاحترازات الضرورية في العمل. الفضل يعود إلى أن العديد من الأعراس الفخمة والمهمة التي كانت مُبرمجة من قبل، ولم يكن بالإمكان إلغاؤها، مما جعل ورشاتنا لا تتوقف عن العمل. وهذا ما يؤكد قناعتي الدائمة بأن الـ«هوت كوتور» فن لا يمكن أن يتأثر أو يموت».
بيد أن انتعاش «ميزون ستيفان رولان» وقدرتها على الوقوف في وجه الجائحة، بل واجتيازها لها بأمان ونجاح، يعود أيضاً إلى شريكه بيير مارتينز.
كان هذا الأخير العقل الذي كان يحتاجه مصمم يعشق الفن والإبداع ولا يفهم كثيراً في الجانب التجاري والمادي، الأمر الذي عرضه لبعض الكبوات في السابق. كمصمم وإداري متمرس، استطاع بيير أن ينقل دار «ستيفان رولان» إلى مرحلة جديدة خلال فترة قصيرة. يشرح رولان أنه اكتشف بأنه «من الصعب على أي أحد القيام برحلة في مجال الـ(هوت كوتور) بشكل فردي...إنها تحتاج إلى مجهود جماعي يكون أفراده عائلة متماسكة يعرف كل فرد منها دوره ومكامن قوته». بعد التحاق بيير بالدار، شهدت توسعاً في مجالات أخرى مثل الجلديات والأحذية والإيشاربات وأول تشكيلة أزياء جاهزة موجهة للسوق الصينية. مشاريع أخرى على الأبواب مثل تعاونه مع مؤسسة الفن والتراث بالرياض، إضافة إلى تشكيلة من الجلابيات والقفاطين نُفذت كاملة بأنامل سعودية.
كل المؤشرات تقول إن ستيفان رولان توصل أخيراً إلى وصفة كانت غائبة عنه أو ربما كان الفنان بداخله يتمرد عليها ويرفض الاعتراف بها، ألا وهي أن الاستمرار في التعبير عن أي رؤية فنية يحتاج إلى حنكة إدارية ونظرة واقعية. «العالم تغير وعلينا أن نتغير ونتأقلم معه بشكل أو بآخر» هذا ما أنهى به رولان الحديث. لم تنم نبرة صوته عن استسلام أو مرارة. بالعكس كانت مفعمة بالأمل والقوة.
أول تجارب ستيفان رولان في مجال أزياء الرجال... عربية
قال لـ «الشرق الأوسط» إن الرجل الشرقي هو من شجعني على ترجمة البشت والثوب التقليدي
أول تجارب ستيفان رولان في مجال أزياء الرجال... عربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة