لم يعط د. آدم زيمان الكثير من الاهتمام لما يعرف بعين الدماغ mind’s eye حتى التقى بشخص لا يملك واحدة، ففي عام 2005، التقى طبيب الأعصاب البريطاني بمريض قال له إن إجراءً جراحياً صغيراً، سلبه القدرة على استحضار الصور.
خيال بصري
وبعد مرور 16 عاماً على لقائه بهذا المريض، سمع زيمان وزملاؤه من حوالي 12 ألف شخص أنهم لا يملكون «كاميرا دماغية» من هذا النوع. ويقدر العلماء أن عشرات ملايين الأشخاص يتشاركون هذه الحالة التي أسموها «أفانتازيا» aphantasia، بينما يعيش ملايين آخرون حالة التصور الدماغي الخارق التي تعرف بالـ«هايبر فانتازيا» hyperphantasia. (وفقاً للويكيبيديا فإن أفانتازيا هي حالة عصبية مفترضة هي أن الشخص لا يمتلك قدرة استخدام عين العقل. وقد اقترح المصطلح لأول مرة في دراسة سنة 2015 لنوع معين من العمى البصري. أما «هايبر فانتازيا» فهي حالة معاكسة تماما تتسم برؤية عقلية حية قوية - ملاحظة المحرر).
يعمل زيمان وزملاؤه في بحثهم الأخير على جمع أدلة حول كيفية بروز هاتين الحالتين، من خلال التغييرات التي تشهدها الشبكات الدماغية التي تصل المراكز البصرية بالمناطق الأخرى، حتى أنهم بدأوا باستكشاف كيف يمكن لبعض هذه الدوائر استحضار حواس أخرى في الدماغ، كالصوت مثلاً. وأخيراً، قد يقدم هذا البحث فرصة لتنشيط عين الدماغ أو أذنه من خلال الذبذبات المغناطيسية.
وقال زيمان، العالم المتخصص بالإدراك في جامعة إكستر البريطانية، إن «هذه الحالة لا تعتبر اضطراباً، بل إنها تبدل غريب في التجربة البشرية».
فقدان الخيال
كان المريض الذي جذب اهتمام زيمان لحالة الـ«أفانتازيا» مساح هندسي متقاعد خسر عين دماغه بعد عملية جراحية بسيطة في القلب. ولحماية خصوصية هذا المريض، يشير إليه زيمان بـإم. إكس.
عندما يفكر هذا المريض بأشخاص أو أشياء، لا يستطيع رؤيتها، ولكن ذكرياته البصرية بقيت سليمة تماماً. يستطيع إم. إكس. الإجابة على أسئلة واقعية كما إذا كان رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير يملك عينين فاتحتي اللون، حتى أنه يستطيع حل مسائل تتطلب تقليب الأشكال في العقل رغم أنه لا يستطيع رؤيتها.
للحصول على فهم أفضل للـ«أفانتازيا»، دعا زيمان وزملاؤه المرضى الذين تواصلوا معهم لملء استمارات حول الحالة، فوصفها أحدهم بأنها الشعور بشكل التفاحة في الظلام، بينما اعتبرها آخر أنها بمثابة «التفكير بالصوت فقط».
لا يذكر معظم الأشخاص الذين صرحوا بعدم امتلاكهم للعين الدماغية أنهم ملكوا واحدة يوماً، ما يرجح أنه ولدوا من دونها. وفي حالات أخرى، كحالة أم. أكس.، عاش البعض صعوبة في تذكر الأشياء التي سبق ورأوها. ولكن عندما سئل هؤلاء أيهما أكثر قتامة، لون العشب أم أوراق شجر الصنوبر، قدموا إجابة صحيحة وهي أوراق الشجر.
من ناحية أخرى، لا يفلح المصابون بالأفانتازيا كما الآخرين في تذكر تفاصيل حياتهم الخاصة، إذ من المرجح أن استعادة تجاربنا الخاصة، فيما يعرف بالذاكرة العرضية، يعتمد أكثر من تذكر الحقائق الأخرى على عين الدماغ.
ولكن المفاجأة حصلت عندما التقى زيمان وزملاؤه مع أشخاص يعانون من حالة معاكسة لحالة إم. إكس.، أي يملكون رؤىً قوية جداً، في حالة يطلق عليها العلماء اسم «هايبر فانتازيا».
عين عقل نافذة
يقول جويل بيرسون، عالم متخصص بالأعصاب الإدراكية في جامعة نيو ساوث ويلز ويدرس التصور الدماغي منذ عام 2005، إن «الهايبر فانتازيا» أبعد بكثير من مجرد امتلاك مخيلة نشطة. إنها كرؤية حلم حقيقي جداً وعدم القدرة على تحديد ما إذا كان حقيقياً أم لا. إنها أشبه بمشاهدة الناس لفيلم، ومن ثم مشاهدته مرة أخرى في رأسهم، دون التمييز بين المشاهدتين».
وبناء على استطلاعات الآراء التي أجروها، قدر زيمان وزملاؤه أن 2.6 في المائة من الأشخاص مصابون بالهايبر فانتازيا، مقابل 0.7 في المائة مصابون بالأفانتازيا.
اليوم، يعكف زيمان وبيرسون على دراسة شريحة أكبر من الناس الذين مروا بحالات تصوير دماغي متطرفة، أي استثنائية. وقد أسس شخص من مجموعة من 21 شخصاً يعانون من الأفانتازيا شاركوا في أبحاث زيمان، يدعى توماس إيبير من كيتشنر، أونتاريو، موقعاً إلكترونياً أسماه «شبكة الأفانتازيا»، تطور ليصبح منصة للأشخاص المصابين بالحالة وللباحثين الذين يدرسونها. يستطيع زوار الموقع المشاركة في استطلاع للرأي، والقراءة عن الحالة، والانضمام إلى منتديات نقاشية حول مواضيع متنوعة كالأحلام والعلاقات. حتى اليوم، شارك حوالي 150 ألف شخص في الاستطلاع، وسجل 20 ألفاً منهم نتائج ترجح معاناتهم من الأفانتازيا. وقال إيبيير: «إنها فعلاً لظاهرة بشرية عالمية. سمعت عنها من أشخاص في مدغشقر وكوريا الجنوبية وكاليفورنيا».
تجارب علمية
وقد طور بيرسون وسائل لدراسة الأفانتازيا والهايبر فانتازيا لا تعتمد على استطلاعات الرأي فحسب. وفي إحدى التجارب، استغل الباحث حقيقة أن الحدقتين لدى البشر تنقبضان تلقائياً عند النظر إلى أجسام ساطعة. وعندما طلب بيرسون وزملاؤه من معظم المتطوعين تصور مثلث أبيض، لاحظ تقلصاً في حدقاتهم.
إلا أن هذه الاستجابة لم تظهر لدى غالبية الأشخاص المعانين من «أفانتازيا» الذين درسهم الباحثون، إذ ظلت حدقات عيونهم مفتوحة، مهما حاولوا التصور بأنهم يرون مثلثا أبيض اللون.
وفي تجربة أخرى، استغل بيرسون حقيقة أن بشرة الناس تصبح أكثر قابلية للتوصيل عندما يرون مشاهد مخيفة، فعمل مع زملائه على مراقبة بشرة المتطوعين وهم يقرأون قصصاً مخيفة مسلطة على شاشة أمامهم. عند قراءة معظم المشاركين عن تجارب مفزعة كالتعرض لهجوم من سمكة قرش، رصد الباحثون زيادةً في قدرة بشرتهم على التوصيل.
وفي دراسة نشرت في مايو (أيار)، مسح زيمان وزملاؤه دماغ 24 شخصاً يعانون من الأفانتازيا و25 آخرين يعانون من الهايبر فانتازيا و20 لا يعانون من أي من الحالتين.
طلب العلماء من المتطوعين الاستلقاء على ظهورهم في آلة لمسح الصور (سكانر) وإطلاق العنان لأفكار دماغهم. وبينت نتائج التصوير أن الأشخاص المصابون بالهايبر فانتازيا يملكون نشاطاً أقوى في المناطق التي تصل واجهة وخلفية الدماغ، وأنهم قادرون على إرسال إشارات قوية من مناطق صناعة القرار في واجهة الدماغ إلى المراكز البصرية في الخلف.
تساؤلات حول الأفضلية
قد يشعر المعتادون على رؤية الأشياء بعين دماغهم أن الأفانتازيا حالة منهكة، ولكن بحث زيمان يرجح نظرية مختلفة، لأن الأفانتازيا قد تكون أفضل على أرض الواقع من الهايبر فانتازيا.
تصنع الهايبر فانتازيا صوراً تبدو حقيقية جدا جدا بحيث إنها قد تفتح الطريق إلى ذكريات خاطئة. أما الأشخاص الذين لا يملكون عيناً دماغية، فقد يستطيعون التخلص من أعباء سببتها لهم تجارب صادمة لأنهم لا يستطيعون استعادتها بصرياً في دماغهم.
ويقول زيمان إنه حسب الروايات فإن «هؤلاء بارعون في المضي قدماً، وهذه البراعة ناتجة على الأرجح عن حقيقة أنهم يشعرون باضطراب أقل من أنواع الصور التي تعيد إحياء مشاعر الندم والشوق في الكثير منا».
من جهته، اعتبر بيرسون أنه قد يصبح ممكناً، يوماً ما، أن نمنح الأشخاص الذين يعانون من الأفانتازيا عيناً دماغية لم يملكوها من قبل. فقد وجد أن تعريض المراكز البصرية في دماغ الناس لنبضات مغناطيسية غير تدخلية قد يساعد على تنشيط تصويرهم الدماغي، ما يجعلهم أكثر تلقيا للطلبات من واجهة دماغهم.
نظرياً، قد يسمح جمع النبضات المغناطيسية مع التدريب الإدراكي للناس الذين لا يملكون عيناً دماغية، بتقوية الدوائر الضرورية للصور الدماغية. ولكن بيرسون ليس متأكدا من أن إجراء هذا النوع من التجارب سيكون صحيحاً. فإذا ندم أحدهم على الحصول على تنشيط تطفلي من هذا النوع في قدرته على التصور، قد لا يكون باستطاعة العلماء تعطيل العين الدماغية من جديد، لافتاً إلى أن «هذا الأمر له جانب مظلم أيضاً».
* خدمة «نيويورك تايمز»