انتخابات الأقاليم تفرز معادلات سياسية جديدة في فرنسا

«تقليديو» اليمين واليسار احتكروا التمثيل على حسابَي ماكرون ولوبن

انتخابات الأقاليم تفرز معادلات سياسية جديدة في فرنسا
TT

انتخابات الأقاليم تفرز معادلات سياسية جديدة في فرنسا

انتخابات الأقاليم تفرز معادلات سياسية جديدة في فرنسا

مع وصول إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه الرئاسي الفرنسي في ربيع عام 2017، حاول الرئيس الشاب المنتخب، غرس صورة جديدة في أذهان مواطنيه بالإيحاء أن «زمناً جديداً» بدأ مع تسلمه مسؤوليات الحكم... وهو يحل محل «الزمن القديم».
كان ماكرون يعني بذلك أن البنى السياسية التقليدية التي هيمنت على المشهد السياسي في فرنسا، أقله منذ تأسيس «الجمهورية الخامسة» على يدي الرئيس الجنرال شارل ديغول بنهاية خمسينات القرن الماضي، ولّت إلى غير رجعة. وأن انتخابه بعيداً عن المجموعتين التقليديتين الرئيسيتين، وهما: من جهة، اليمين الكلاسيكي الممثل راهناً بحزب «الجمهوريون»، واليسار الاشتراكي من جهة أخرى، أفضل دليل على ذلك. ومنذ اليوم الأول، سعى ماكرون للجمع بين شخصيات يمينية وأخرى يسارية في حكوماته المتعاقبة. وهذا واضح أيضاً في الحكومة الراهنة التي أوكل رئاستها إلى جان كاستيكس، اليميني الانتماء، الذي شغل سابقاً منصب مساعد أمين عام قصر الإليزيه زمن الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي. ويمسك اليمين اليوم بما لا يقل عن ثماني وزارات، أهمها وزارات الاقتصاد والمال والداخلية. الأولى، أعطيت لبرونو لومير، والأخرى لجيرالد دارمانان. وفي المقابل، فإن اليسار الاشتراكي يشغل عدداً مماثلاً من الحقائب، وثمة وجهان يساريان بارزان في الحكومة الراهنة، هما وزير الخارجية جان إيف لودريان ووزيرة الدفاع فلورانس بارلي. لكن الصبغة العامة، أن هذه الوزارة كما سابقاتها تميل يميناً. وإلى جانب اليمين واليسار هناك شخصيات لم تكن ناشطة في الحقل السياسي، مثل وزير العدل أريك دوبون ــ موريتي، وهو محامٍ لامع. وأخرى جاءت من صفوف المجتمع المدني «المحايد». إلا أن الأهم، أن كل الوزراء انقطعوا عن انتماءاتهم وهوياتهم السابقة وأصبحوا «ماكرونيين» وإن لم ينتموا بالضرورة، عقب دخولهم جنة الوزارة، إلى حزب «الجمهورية إلى الأمام» أي الحزب الرئاسي.

يرى كثيرون في فرنسا وخارجها أن الفلسفة «الماكرونية» تعني أن «الزمن الجديد» تخطى اليمين واليسار، وتجسّد في العمل مع شخصيات متنوعة الآفاق «تصهرها» البوتقة الرئاسية ولخدمة البرنامج الرئاسي الذي أوصل إيمانويل ماكرون إلى سدة الحكم. لكنها أيضاً تستهدف تهميش الأحزاب التقليدية وإيجاد فرز جديد للمشهد السياسي الفرنسي شرحه ماكرون، وقوامه فرز الأحزاب إلى مجموعتين: من جهة، «التقدميون»، أي ماكرون ومن يريد العمل إلى جانبه... مقابل الشطر الآخر الذي سمّاه «القوميون» المتطرفون وتجسيده «التجمع الوطني» الذي ترأسه مارين لوبن، منافسة ماكرون في انتخابات عام 2017 والساعية للحلول محله في العام 2022.
كانت هذه الصورة هي الرائجة والمقبولة عموماً حتى 20 يونيو (حزيران) الماضي، موعد الجولة الأولى من الانتخابات الإقليمية الفرنسية. إلا أن الأمور انقلبت راساً على عقب. لقد كانت استطلاعات الرأي المتلاحقة ترجّح أن تكون رئاسيات العام المقبل استعادة لنسخة عام 2017، بحيث يتأهل للجولة الرئاسية الثانية ماكرون ولوبن في حين يخرج من السباق، مرشحو اليمين واليسار الاشتراكي و«الخضر» واليسار المتشدد ممثلاً برئيس حزب «فرنسا المتمردة» جان لوك ميلونشون.

- ضحية مقاطعة الانتخابات
حتى اليوم، ما زال متابعو الشأن السياسي الداخلي في فرنسا يجمعون على اعتبار أن المنافس «الأمثل» لماكرون هي لوبن، رغم أن الأخيرة تسبقه أحياناً في استطلاعات الرأي... وأحياناً العكس. وكان المرجح جداً، حتى الاستحقاق الأخير، أنهما سيتواجهان مجدداً، وأن ماكرون سيتغلب، للمرة الثانية، على لوبن انطلاقاً من الاعتقاد السائد أن الناخبين الفرنسيين ليسوا مستعدّين بعد لتقبّل تسليم قيادة فرنسا لشخصية تأتي من اليمين المتطرف... رغم الجهود التي بذلتها لوبن في السنوات الماضية لتقدم نفسها على أنها «معتدلة». والدليل على ذلك أن دارمانان، وزير الداخلية - وهو يميني متشدد ومدافع شرس عن العلمانية ومحاربة «الانفصالية الإسلاموية» -، تهكّم على لوبن خلال مناظرة تلفزيونية شهيرة أجريت الشهر الماضي حين عاب عليها أنها تخلّت عن آرائها وآيديولوجيتها السابقة. وخلال الأيام الأخيرة، انسحبت مجموعة من كوادر «التجمع الوطني» (حزب لوبن)؛ لأنها ما عادت تعتبر أن الحزب اليميني المتطرف يمثلها أو يحمل طموحاتها ويدافع عن قناعاتها. كذلك، فإن المنظّر السياسي والصحافي أريك زيمور، الذي كان من أشد أنصار لوبن والمدافعين عن آرائها في السنوات الأخيرة، يخطط الآن لمنافستها على الفوز بأصوات اليمين المتشدد، وهذا الأمر من شأنه إضعافها، لكنه لا يخدم مصالح ماكرون؛ إذ إن تراجع لوبن يمكن أن يسهّل مهمة وصول مرشح يميني كلاسيكي إلى الدورة الثانية، وهو ما لا يتمناه الرئيس الحالي.
كانت هذه القراءة صالحة حتى الانتخابات الأخيرة بجولتيها التي هزّت، إلى حد بعيد، الصورة السابقة. ذلك أن النتائج التي أسفرت عنها بيّنت أن هناك ثلاثة خاسرين، هم على التوالي: الديمقراطية الفرنسية بسبب النسبة العالية من التغيب عن التصويت، والرئيس ماكرون، ولوبن بسبب النتائج الكارثية التي حصدها حزباهما «الجمهورية إلى الأمام» و«التجمع الوطني»... وإن كانت الظاهرة الأبرز قد تمثّلت بعودة «الزمن القديم» إلى الحياة.
الضحية الأولى بالطبع هي الديمقراطية الفرنسية. فنسبة المقاطعة جاوزت في الدورة الأولى الـ67 في المائة. ولم تجد النداءات التي أطلقها قادة الأحزاب والمسؤولون السياسيون الفرنسيون لتحفيز الـ48 مليون ناخب للمشاركة في الجولة الثانية. وجُلّ ما حصل عليه هؤلاء جاء مخيباً للآمال؛ إذ إن نسبة أقل من واحد في المائة إضافية أصغت لنداءات الاستغاثة وارتادت مراكز الاقتراع، بحيث بقي الامتناع عن التصويت أكثر من 65 في المائة؛ الأمر الذي لم تعرفه أبداً الانتخابات المماثلة في السابق. وكما بعد الجولة الأولى، تبارى السياسيون والمحللون في تفسير أسباب الحب المفقود بين الناخب وصندوق الاقتراع.
منهم من رأى فيه أزمة الديمقراطية وتشويها لمعناها، وهذا واضح ولا يحتاج لشروح؛ إذ من غير الطبيعي أن تحصل انتخابات من غير ناخبين. وذهبت فئة أخرى لاعتبار أن ما حصل ليس أقل من أزمة نظام، في حين سعى المتفائلون لتبرير التغيب بالإشارة إلى تبعات جائحة «كوفيد - 19» وتحوّراتها وتدابير التباعد الاجتماعي ورغبة المواطنين الاستفادة من نهاية أسبوع بعد تدابير الحجر التي أنهكتهم طيلة أشهر طويلة. وبعضهم أرجع هذه الظاهرة إلى ملل المواطنين وتشكيكهم في البرامج المطروحة واعتبار أن حياتهم اليومية لن تتغير مهما كانت هوية اللوائح الفائزة.
وأما التفسير الأخير، فعنوانه أن نسبة كبيرة من المواطنين لا تعي أهمية الانتخابات الإقليمية ولا تفقه صلاحيات مجالس المناطق وانعكاساتها على الحياة اليومية للمواطن، وبالتالي فإن اهتمامها ينصب بالدرجة الأولى على ثلاثة استحقاقات رئيسية: الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية. والخلاصة الطاغية، أن نسبة المشاركة المتدنية تمنع من استخلاص النتائج المتسرعة مما أفرزته الدورتان الأولى والثانية.

- ضعف الحزب الرئاسي
لا شك أنه يتعين أخذ هذه التحفظات بعين الاعتبار. لكن ثمة علامات بارزة لا يمكن القفز فوقها لما تحمله من دلالات ستكون لها تبعاتها في الاستحقاقات المقبلة. وخلال الأيام المنقضية منذ الدورة الثانية، أي منذ 27 يونيو، جرى التركيز على الضعف البنيوي لحزب «الجمهورية إلى الأمام» الرئاسي الذي لم ينجح في تخطي نسبة الـ7 في المائة من الناخبين. وهذه النسبة تُعد الأسوأ لحزب يمارس السلطة ويتمتع بأكثرية نيابية مريحة منذ عام 2017، ولا يمكن القول إن ماكرون لم يبد اهتماماً بهذا الاستحقاق، لا، بل إن كل المؤشرات كانت تدل على أنه انغمس فيها «حتى العظم» وعمد إلى تعبئة وزرائه لإحراز نجاحات تحسب له ولحزبه، ويكون لها مردودها الانتخابي لدى الاستحقاق الرئاسي. وهكذا، أرسل ماكرون 15 وزيراً من حكومته للمشاركة في هذه الانتخابات، آملاً أن يحقق أحد الهدفين التاليين أو كليهما معاً: إما الفوز بإدارة أحد الأقاليم الـ13 التي تتشكّل منها فرنسا القارية و(أو) أن تحتل لوائحه - على الأقل - موقعاً يجعله مؤثراً في ضمان الفوز للفريق الذي يتناغم معه. وفي هذه الحال، يمكن أن يأمل بأن يرد له الجميل في الانتخابات الرئاسية. والحال، أن لوائح «فرنسا إلى الأمام» لم تنجح في الفوز بأي إقليم من الأقاليم، لا، بل إن العديد من مرشحيها إما أخرج بعد الجولة الأول لأنه لم يحصل على نسبة 10 في المائة الضرورية للاستمرار في المنافسة أو احتل، في الجولة الثانية، المراتب الأخيرة.
قيل الكثير في تفسير النكسة الرئاسية الانتخابية. ويقول التفسير الأول، إن حزب ماكرون حديث العهد مقارنة بأحزاب اليمين واليسار، وبالتالي فإن انغراسه المحلي والشعبي ما زال ضعيفاً. ويقول التفسير الثاني، إنه من الخطأ استخلاص نتائج متسرّعة من انتخابات محلية ــ إقليمية وتعميمها على انتخابات «وطنية» مثل انتخابات رئاسة الجمهورية، واعتبار أن نتائج الأحد الماضي ستنسف حظوظ الرئيس الفرنسي في البقاء لولاية ثانية في قصر الإليزيه. ويلجأ أصحاب هذا القول إلى الإشارة إلى أن استطلاعات الرأي التي نشرت يوم الجولة الثانية بيّنت أن ماكرون مستمر في تصدّر لائحة المرشحين الرئاسيين مع لوبن بحيث حصل كل منهما على 24 في المائة من الأصوات. كذلك، تفيد استطلاعات الراي الأخرى، أن شعبية ماكرون إلى ارتفاع والسبب الرئيس في ذلك إدارته لجائحة «كوفيد - 19» ورهاناته الصائبة التي مكّنت البلاد من أن تعود إلى الحياة الطبيعية الكاملة بدءاً من الخميس الماضي بفضل تراجع الإصابات والحالات المستعصية.
ومن جانبه، شدد ماكرون، أكثر من مرة، في الأيام السبعة الماضية، على التمييز بين ما هو محلي وما هو عام، لا، بل أكد أنه لن يحدث تغييرات جذرية في تشكيلة حكومته التي سترافقه حتى الانتخابات الرئاسية، وسيبقي كاستيكس على رأسها. ويتركّز الجدل داخل الحزب الرئاسي على الحاجة إلى تغيير أمين عام الحزب النائب ستانيسلاس غيريني، الذي يعاني من حضور شاحب إعلامياً وسياسياً ومن إخفاقه في تحويل «الجمهورية إلى الأمام» إلى حزب شعبي يتمتع بجمهور قوي وقادر على توفير الدعم للمشروع الرئاسي.
ثمة تقبّل عام لهذه الصورة المرسومة. بيد أن الأهم موجود في مكان آخر. فمع ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة، طفا إلى السطح «الزمن القديم» الذي أراد ماكرون وأده، وعادت الأحزاب التقليدية القديمة إلى الواجهة. إذ اكتسح اليمين الكلاسيكي واليسار الاشتراكي المتحالف مع «الخضر» أحياناً والمنفصل عنهم أحياناً أخرى، المشهد السياسي.
اليمين حافظ على الأقاليم السبعة التي يديرها، بينما أبقى اليسار الاشتراكي هيمنته على الأقاليم الخمسة التي يسيطر عليها منذ عام 2015، بل وكسب إقليماً إضافياً من المقاطعات الفرنسية ما وراء البحار. وهكذا تبيّن الخريطة السياسية وجود لونين فقط: الأزرق والأحمر (أو الوردي). الأول لليمين والآخر لليسار. وعليه، عادت الحياة تدبّ في شرايين اليمين واليسار على السواء، وبرز «الخضر» كقوة يجب أخذها بعين الاعتبار... وعاد الأمل إلى هذه الأحزاب التي لم تعد ترى أن ثنائية ماكرون - لوبن قدر محتوم. ومن هنا قلق الطرفين معاً.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.