«من النساء إلى العالم»: نريدك أقل قسوة

رسائل حميمة وخلفيات شديدة التنوع

«من النساء إلى العالم»: نريدك أقل قسوة
TT

«من النساء إلى العالم»: نريدك أقل قسوة

«من النساء إلى العالم»: نريدك أقل قسوة

بقيت الرّسائل - بمختلف أشكالها - وإلى عهد قريب واحدة من أهم أدوات التوثيق التاريخي وسجلات ثمينة لتتبع مسارات التطوّر الاجتماعي والفكري لجيل أصحابها هذا إن لم تكن المصدر الأساسي لمعرفتنا عن العالم وأحداثه في نقطة ما من تقاطع الزّمان والمكان، نقرأ في نصوصها - وما وراء نصوصها - شهادات محمّلة بمعانٍ كثيرة تفوق أحياناً عدد كلماتها، وتنقلنا بطرفة عين لنشترك في تجارب بشر عاشوا بعيداً عنا في الجغرافيا أو التاريخ أو كليهما معاً، لكننا نجد دائماً ما يجمعنا بهم بشكل أو آخر.
هذا الفنّ القديم المبجّل، كاد يندثر مع مطلع القرن الحالي، بعدما اختطف الفضاء السيبراني من الورق والبريد الجزء الأجمل من مهماتهما، ونقل مخاطباتنا - غالبها - إلى صناديق افتراضيّة باهتة تنقل بملمس البلاستيك والزجاج وبخط لا يشبه شخص كاتبها نصوصاً عمليّة تقنيّة، فيما الشخصي والحميم والمشغول بدقات القلوب انتقل إلى وسائل تواصل اجتماعي نزقة بعضها لا يتورع حتى عن مسح كلماتنا خلال يوم وليلة، أو أن يغلق حساباتنا بالكليّة إن تجرأنا وخرجنا عن خطوط مالكيها في وادي السليكون.
إليزابيث فيليبولي الصحافية والناشطة الاجتماعيّة ومؤسسة منتدى الفكر العالمي - التي تحتضنها جامعة أكسفورد - والمبادرة المنبثقة عنها «أثينا 40» التي تستهدف تعزيز فرص النساء القياديات والتعريف بمساهماتهن، استفادت بحكم شبكة علاقاتها المعولمّة بنساء مؤثرات من بيئات ومهن وخلفيّات شديدة التنوّع لتسترد لفن الرسائل بعضاً من ألق مفقود، وتطلب لمجموعة مختارة منهن أن يكتبن - دون قيود - رسائل موجهة إلى نساء أخريات كنّ ملهمات لهّن في مراحل مختلفة من حياتهّن، شخصيات تاريخية أو معاصرة من الفضاء العام أو إحدى نساء الأسرة أو حتى سيدات عاديات صنعن فرقاً في حياة من حولهن. تلك الرسائل جمعتها فيليبولي مع مقدّمة تعريفيّة ورسالة ختاميّة منها وجهتها لكل نساء العالم ودفعتها للنشر في كتاب يصدر اليوم عن دار آي بي توريس (مجموعة بلومبزري للنشر) بلندن بعنوان «من النساء إلى العالم: رسائل من أجل قرن جديد».
الكاتبات جميعهّن يحملن أسماء معروفة بمساهمات كثيرة ومتنوعة على الأقل في مجالات عملهّن، سياسيات وأميرات ومخرجات وممثلات وعالمات وكاتبات وناشطات ومذيعات، سجلت كل منهنّ في رسالتها إلى ملهمتها مشاعر شخصيّة نحوها مستندة إلى التاريخ الشخصي لهؤلاء النساء وتجاربهن القاسية أحياناً في مواجهة العالم والحياة ومرور الزّمن، مرفقات مع بوحهنّ قضايا اجتماعيّة تمثّل تحديّات لم تحسمها البشريّة رغم كل تقدمها التكنولوجي والعلمي كالتشرّد، والحروب، واللاجئين، والأنظمة الفاسدة، والاعتداءات الجنسيّة، والتفاوتات الجَندريّة، والحق في التعليم والعلاج والصحة العقليّة - النفسيّة، والتأقلّم مع التحولات الجذريّة في طرائق العمل والتواصل، والهجرة بين الأماكن وغيرها.
بكتاب مثل هذا، الأقرب ما يكون إلى باقة من الورد، يصعب بالفعل القول بأن هذي الرّسالة هي الأكثر تأثيراً بين رفيقاتها، أو تلك الأهم بينها، إذ كلّ منها خاص ومميّز وعابق بعبير مختلف، لكن دون شك سيجد كل قارئ في بعضها على الأقل جرعة محبّة وأمل وإلهام أقرب إليه أو إليها، بمن فيهم القراء العرب الذين سيجدون ثمانية من المؤثرات العربيّات بين الكاتبات، من السعودية والأردن وعُمان ولبنان وفلسطين والعراق، ولعّل هذا يكون حافزاً إلى جانب المحتوى لنقل هذا الكتاب إلى العربيّة.
تكتب الروائيّة التركيّة البريطانيّة إليف شافاك إلى رئيسة وزراء نيوزلندا جاسيندا آرديرن (التي كانت أصغر سيدة في التاريخ المعاصر تتولى منصباً تنفيذياً وهي في الـ37 من العمر، وثاني سيّدة بعد الراحلة رئيسة وزراء الباكستان بينظير بوتو تلد وهي على رأس عملها الرئاسيّ) وذلك بعد حادثة الاعتداء الإرهابي على كرايستتشيرش، وتخاطب عازفة التشيلو الإيطاليّة سيلفيا تشايسا البريطانيّة الراحلة جاكلين دو بري التي كانت واحدة من أهم عازفات التشيلو في القرن العشرين قبل أن تنطفئ في قمّة عطائها، وتحادث الإعلاميّة السعودية المعروفة منى أبو سليمان شخصيّة الأفروأميركيّة مارغريت غارنر التي اشتهرت بعد أن روت توني موريسون قصّتها في رواية لها لكونها فضّلت أن تذبح ابنتها بيدها على أن تسلمّها لتجار العبيد البيض الذين لحقوا بهما بينما كانتا تفران إلى ولاية أوهايو الحرّة خلال القرن التاسع عشر، لتجنبّها حياة مثل حياتها: ملؤها الذّل والاغتصاب والضرب والمعاملة السيئة التي لا تليق حتى بالحيوانات، واختارت الممثلة اللبنانيّة الفرنسيّة ياسمين المصري أن تبعث لأمها - ممثّلة لكل النساء في عائلتها - بقصيدة شعريّة، فيما وصفت العراقيّة الأميركيّة بسمة علاوي في رسالتها إلى الممثلة الأميركيّة أنجلينا جولي مدى تأثرها كطفلة عراقيّة صغيرة بمشاهد الجولات الإنسانيّة التي ذهبت إليها النجمة العالميّة إلى أفريقيا ومناطق منكوبة أخرى وإنفاقها من عوائد عملها على مساعدة المنكوبين واللاجئين بل وتبني ثلاثة منهم للعيش مع أولادها في الولايات المتحدّة، فيما تحدّثت الأميرة الأردنيّة بسمة بنت الحسن إلى روح جدّتيها: الملكة زين الشرف - عقيلة الملك طلال ووالدة الملك حسين - وبيغام شايستا سوهاراواردي - التي تولت تمثيل الباكستان سفيرة إلى الأمم المتحدة وكانت أوّل سيّدة مسلمة تشغل ذلك المنصب في المنظمة الدوليّة وكانت إلى جانب إلينانور روزفلت - عقيلة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت - النساء الوحيدات ضمن فريق الأمم المتحدة الذي أنجز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما الصحافيّة اللبنانيّة الكنديّة رولا عازار فكتبت رسالة تدمي القلوب إلى خالتها الراحلة رامانا فياني التي قضت بالحرب الأهليّة اللبنانيّة الأخيرة وتصف بها حال بلادها هذه الأيّام الذي لا يسرّ صديقاً، وكتبت الأردنيّة ديما بيبي إلى السيّدة هيفاء حجّار النجار مديرة المدرسة الأهليّة للبنات بعمّان، وغيرها كثير.
ولعل أصعب الرسائل على قلب القارئ قد تكون تلك التي خطتها الأوغنديّة هيلين وايسوا - مؤسسّة منظمة ريب هيرتس الأوغنديّة التي تتدخل لمساندة النساء ضحايا الاغتصاب - موجهة إيّاها إلى زهراء محمود المديرة التنفيذيّة لبرنامج ماما كاش، وهو أحد أكبر الصناديق العامّة في العالم المتخصصة بدعم النساء والفتيات وتحكي فيها عن تجربتها الشخصيّة عندما تعرضّت للاعتداء مِن قبل مَن يفترض به أن يحميها وهي لم تزل صبيّة في الحادية عشرة من العمر يحيط بها مجتمع بطريركي لا يرحم.
تدافع فيليبولي عن (نسويّة) الرسائل، رغم أن القضايا المطروحة تمس كافة أبناء المجتمع ذكوره كما نسائه بإصرارها على أن وجود النسويّة بحد ذاته دلالة خلل في النظام العالمي، إذ لو كانت هناك عدالة ولو نسبيّة، لما شعرت كثيرات بالحاجة للنضال من أجل تحقيق ذواتهنّ وتحصيل حقوقهن.
لا حلول يقترحها «رسائل من النساء إلى العالم» حول إصلاح مواضع الخلل والتخليّ، لكنّه يمنح المتلقي فرصة نادرة لمشاهدة العالم كما تراه النساء وأملاً في قدرة نصف المجتمع على إنتاج نموذج بديل للقيادة وتوجيه مستقبل البشريّة ليستند بدلاً من معايير الرّبح المادي البحت والتنافس على استنفاد موارد الكوكب حد شنّ الحروب إلى أسس من التضامن الإنساني والذّكاء العاطفي وقيمة الإنسان كإنسان، بغض النظّر عن لون بشرته أو جنسيته أو جندره أو عمره أو ثقافته أو عقيدته أو حالته الصحيّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصادية. ربّما في النهاية سنجد أن الأمهات هنّ الأقدر على إعادة تصوّر عالم جديد أفضل لنا جميعاً.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.