ثمّة تماثيل ترفعها الدول تخليداً لذكرى أبطالها في الحروب ولإنجازات روّادها في الفكر والفن والسياسة. لكن التمثال الذي يطالع الزائر عند مدخل المقرّ الرئيسي لمنظمة الصحة العالمية في مدينة جنيف السويسرية «مختلف»... مع أنه يخلّد مأثرة تاريخية لا تنقصها البطولة أو الريادة. إنه تمثال يجمع بين رجل وامرأة، وطفل يتناول لقاحاً على يد طبيب أو ممرّض، تذكيراً بواحد من أهمّ الإنجازات في تاريخ الصحة العالمية... عندما أعلنت هذه المنظمة أواخر سبعينات القرن الماضي القضاء نهائياً على مرض الجدري. ذلك المرض الوبائي الذي أوقع ما يزيد على 300 مليون ضحية في أقلّ من سبعة عقود في العالم.
إلا أن ما لا يقوله التمثال على مدخل المنظمة الدولية هو أن الجدري كان المرض الساري الوحيد الذي تمكّنت البشريّة من استئصاله على مر التاريخ، في مأثرة ما زالت حتى اليوم تشكّل ذروة النجاحات التي حققتها المنظمة، ولم تتكرّر حتى الآن. لقد تحقق ذلك الإنجاز بفضل التعاون بين الدول الكبرى في عزّ «الحرب الباردة»، وكان مثالاً على فاعلية النظام المتعدد الأطراف والمؤسسات المنبثقة عنه عندما تتضافر جهود الدول الأعضاء لتحقيق هدف سامٍ مشترك.
اليوم يستبعد الخبراء أن نرى ذات يوم تمثالاً للتذكير بالقضاء على فيروس كوفيد - 19، إذ يرجّح الخبراء أنه حتى في حال السيطرة على جائحته، لن يتمكّن العالم من إعلان النصر النهائي على الفيروس كما حصل في 8 مايو (أيّار) عام 1980 عندما اعتمد القرار التاريخي الذي أعلن تحرير العالم من مرض الجدري بشكل نهائي. وحقاً، لا تزال تلك اللحظة تشكّل منعطفاً في مسار التعاون الدولي الأوسع من المجال الصحي وحده. ذلك أن منظمة الصحة العالمية، رغم سلطاتها المحدودة وكونها وكالة فنية وغير سياسية، لعبت دوراً مركزياً في التطور الصحي والاجتماعي للبشرية، وكانت مرآة انعكست فيها دائماً المعارك السياسية والعقائدية منذ أواسط القرن الماضي إلى اليوم.
يوم 11 مارس (آذار) من العام الماضي أعلن المدير العام للمنظمة الإثيوبي الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس أن كوفيد - 19 غدت «جائحة عالمية» أوقعت حتى اليوم ما يزيد على 3.5 مليون ضحية في شتّى أرجاء العالم، وتسبّبت في ركود غير مسبوق بعدما دخل الاقتصاد العالمي في شبه غيبوبة.
- بدايات التعاون الدولي
قبل نصف قرن كانت العلاقات الدولية أسيرة الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أما اليوم فهي تتشكّل على وقع صعود «المارد الصيني» والنزعات القومية الحادة والتيارات الشعبوية وأزمة النظام المتعدد الأطراف الذي تشكل منظمة الصحة إحدى مؤسساته الرئيسية.
ومع تحوّل الجائحة، منذ مراحلها الأولى إلى أزمة اقتصادية عالمية الأبعاد، كان من الطبيعي أن تنتقل الصراعات الجيو - سياسية إلى المنظمة الوحيدة المكلّفة تنسيق الجهود الدولية لاحتواء تفشي الفيروس والتصدّي لهذه الجائحة، التي يرى فيها العديد من الخبراء بداية لأزمات أخرى - صحية وبيئية - ما زال العالم غير مستعدّ لها... رغم أن المحاولات لإبرام اتفاقات صحية دولية تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر.
أول المؤتمرات الصحية الدولية انعقد عام 1851 بهدف حماية أوروبا الغربية من الكوليرا الآتية من الشرق. وفي حينه تقرّر فرض حجر صحي بحري لمنع دخول الوباء إلى القارة الأوروبية. وتمّ الاتفاق على إنشاء «نظام للإنذار وتبادل المعلومات»، إذ أدركت الدول أن وقف دخول الكوليرا إلى بلد معيّن لن يجدي نفعاً إذا بقي الوباء يسري في البلدان المجاورة. لكن مع ذلك أصرّت الحكومات على الاحتفاظ بكامل صلاحياتها الصحية، رافضة تقاسمها تحت إدارة مشتركة.
وبنهاية الحرب العالمية الأولى كانت توجد أربع مؤسسات دولية تعنى بتنسيق السياسات الصحية، هي: المكتب الدولي للصحة العامة ومقرّه في باريس، ومنظمة الصحة التابعة لعصبة الأمم في جنيف، ومنظمة الصحة للبلدان الأميركية، ومعهد تطوير الصحة في مؤسسة روكفلر. هذه المؤسسات الأربع كانت النواة التي تشكّل منها لاحقاً النظام الصحي العالمي الراهن الذي يقوم على التوزيع الإقليمي للمهام الصحية الدولية، وتعدد الهيئات المعنية بإدارته وتنسيقه، والنفوذ القوي الذي يمارسه القطاع الخاص، والذي تنامى بشدّة في العقود الثلاثة المنصرمة. يومها كانت مؤسسة روكفلر في الواجهة، أما اليوم، فتعد مؤسسة بيل وميليندا غيتس المساهم الأول، بعد الولايات المتحدة، في تمويل أنشطة منظمة الصحة العالمية.
ومن رماد الحرب العالمية الثانية قامت ركائز النظام الدولي المتعدد الأطراف، الذي ما زال قائما إلى اليوم. وهو يضم مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظومة الأمم المتحدة، التي تشكّل منظمة الصحة إحدى وكالاتها المتخصصة، والتي تنصّ ديباجة دستورها التأسيسي على «أن صحة البشر جميعاً أساسية من أجل تحقيق السلم والأمن في العالم». وأن تحقيق هذا الهدف «يتوقّف على التعاون بين الأفراد والدول».
- ولادة المنظمة
في المرحلة التأسيسية، ساهم التوافق الذي ساد بين الدول المنتصرة على ألمانيا النازيّة في إنشاء منظمة الصحة العالمية، التي جنحت خلال السنوات الأولى مع رياح السياسة الخارجية الأميركية بتأثير كبير من مؤسسة روكفل... وهو ما أدّى الى انسحاب الاتحاد السوفياتي منها عام 1949 إلى جانب تسع دول من الكتلة الاشتراكية.
يومذاك قال الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين إن بلدان أوروبا الشرقية لم تحصل على المساعدات الموعودة من «خطة مارشال»، واعتبر أن المنظمة «خاضعة للهيمنة الأميركية»، مثلما أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في يوليو (تمّوز) من العام الماضي أن منظمة الصحة «تقع تحت سيطرة بكّين» ليبرّر انسحاب الولايات المتحدة منها. وحقاً، ظل الاتحاد السوفياتي خارج المنظمة حتى عام 1956 عندما عاد بعد وفاة ستالين وتولي نيكيتا خروتشوف السلطة في موسكو.
بذا، بدأت منظمة الصحة العالمية تتحوّل إلى ميدان لمعارك «الحرب الباردة». وأصبحت الصحة أداة تضفي على الدول هالة أخلاقية وإنسانية لا تختلف كثيراً عن الجهود التي تبذلها اليوم الصين وروسيا لتصدير لقاحاتها إلى الدول الفقيرة تحت عنوان الرعاية والحماية. وأدركت الدول أن إرسال الأطباء والخبراء إلى البلدان النامية، والمساعدة على الحد من الوفيّات الناجمة عن الأمراض وانعدام العناية الصحية، أكثر فاعلية من عمليات التجسس والانقلابات العسكرية و«حروب العصابات» لنقل بلد معيّن من دائرة نفوذ إلى أخرى.
- «حرب باردة» صحية
أواسط خمسينات القرن الماضي، في عز «الحرب الباردة» بين واشنطن وموسكو، وقف أحد النواب في الكونغرس الأميركي ليقول «الأمراض تولّد الفقر، والفقر يولّد المرض، وكلاهما أرض خصبة للشيوعية». في تلك الفترة كانت وزارة الخارجية الأميركية تماثل بين الملاريا والشيوعية، وتعتبر الاثنتين من الآفات التي تؤدي إلى استعباد الدول النامية، وبالتالي، لا بد من استئصالها.
في تلك الفترة فشلت الجهود الدولية التي كانت تقودها واشنطن لاستئصال الملاريا، فبادرت موسكو إلى إطلاق حملة للقضاء على الجدري، انضمّت إليها الولايات المتحدة وانتهت بالقضاء نهائياً على هذا الوباء عام 1980. وللعلم، خلال العقود الأولى من تاريخ منظمة الصحة العالمية كانت «الحرب الباردة» هي المعادلة التي تحكم إدارتها المشهد الصحي العالمي، بيد أنها منذ تأسيسها إلى اليوم ما زالت أسيرة المفاضلة الدائمة بين مدرستين مختلفتين في مقاربة المشاكل الصحية: الأولى قوامها التكنولوجيا الحديثة للسيطرة على البؤر الوبائية في مواقع ظهورها وانتشارها. والثانية تقوم على اعتبار الصحة الدولية وسيلة لتحسين ظروف حياة الناس والبنى التحتية الأساسية والنظم الصحية الوطنية من دون التركيز حصراً على أمراض أو أوبئة معيّنة.
من هنا، تحتاج قراءة التوترات التي تعيشها المنظمة منذ سنة ونصف السنة بسبب طبيعة استجابتها لكوفيد - 19 إلى العودة لتجاربها في مواجهات الأزمات الصحية التي تعاقبت على العالم منذ بداية هذا القرن.
في فبراير (شباط) عام 2003 كانت على رأس المنظمة رئيسة الوزراء النرويجية السابقة غرو هارلم بروندتلاند، وهي طبيبة اشتراكية وسياسية مخضرمة تحظى باحترام واسع في الأوساط الدولية، عندما ظهرت في الصين أول بؤرة لفيروس «سارس» الذي سرعان ما تفشّى في عدة بلدان مجاورة وتسبّب في وفاة ما يزيد على 800 شخص قبل احتوائه.
تلك كانت أول مرة تجمع فيها المنظمة البيانات مباشرة من مصادرها وتوزّعها عبر الإنترنت، إلا أنها كانت أيضاً المرة الأولى التي انتقدت فيها رئيسة المنظمة الصين علناً لتقاعسها عن إعطاء المعلومات حول الوباء عندما صرّحت قائلة «في المرة المقبلة عندما تلاحظون أمراً غريباً وجديداً على العالم، دعونا نأت بسرعة لنتبيّن ما يحصل».
وعام 2009 تباطأت المنظمة مجدداً في جهودها لمواجهة إنفلونزا H1N1 التي تسبّبت في فرض إجراءات حظر على تصدير بعض اللحوم. وأيضاً في عام 2014 تعثّرت استجابتها لفيروس «إيبولا» عندما كانت تديرها الصينية مارغاريت تشان ما أدّى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا في كارثة كان من الممكن تفاديها.
- استخلاص العبر
المنظمة تقول اليوم إنها استخلصت العبر من تجارب الماضي عندما استجابت بسرعة لأزمة كوفيد - 19 وحذرت الأسرة الدولية وحددت تدابير الوقاية والاحتواء. غير أن مسار الجائحة حتى الآن، والخسائر البشرية والمادية التي أوقعتها، والآفاق المتلبّدة التي ما زالت أمامها، أمور تبقي معظم التساؤلات المطروحة بلا أجوبة واضحة ونهائية: فهل تحرّكت المنظمة فعلا بالسرعة اللازمة عند ظهور الفيروس في مدينة ووهان أواخر العام 2019؟ وهل كان المدير العام متساهلاً مع الصين؟ وهل كان يملك صلاحيات ليقوم بأكثر مما قام به؟ وما هي المسؤولية التي تتحملها المنظمة في تفشي الجائحة؟
في اليوم الأخير من عام 2019 بُلّغت منظمة الصحة العالمية من الصين أنها رصدت «حالات التهاب صدري مجهولة السبب». وبعد أسبوعين من ذلك التاريخ أعلنت المنظمة عبر تويتر «أن البحوث الأولية التي أجرتها السلطات الصينية لم تسفر عن قرائن واضحة على أن الفيروس الذي تمّ تحديده في ووهان يسري بين البشر». ولكن سرعان ما تبيّن أن تلك المعلومة غير صحيحة. وفي اليوم ذاته، صرّحت المسؤولة عن الأمراض الناشئة في المنظمة الدكتورة ماريّا فان كيركوفي بـ«أنه من الممكن جداً وجود سريان محدود للفيروس بين البشر»، ودعت مستشفيات العالم إلى التأهب.
بعدها، في نهاية يناير (كانون الثاني) من ذلك العام أعلنت المنظمة أعلى درجات الإنذار المعتمدة بوصفها الوباء «حالة طوارئ صحية دولية»، بينما كان المدير العام الدكتور غيبريسوس يُغدق المدائح على الصين «لسرعة رصدها الفيروس، وعزله وتحليل تسلسله الوراثي وتقاسم المعلومات المتوفرة بشأنه». ولكن تبيّن بعد ذلك أن المنظمة كانت تملك المؤشرات الكافية لتوجيه الإنذار قبل نهاية عام 2019، وهنا يقول الخبير الفرنسي فرنسوا غوديمون، من معهد باستور في باريس، «ذلك التأخير كان حاسماً في مسار الجائحة، والمسؤولية هنا مشتركة بين الصين ومنظمة الصحة العالمية. إلا أن ما حصل بعد ذلك تقع مسؤوليته على الدول الغربية، لأن المنظمة كانت توجّه توصيات واضحة ودقيقة... تجاهلت الحكومات معظمها تحت وطأة ضغط الرأي العام والتجاذبات السياسية». ويجدر التذكير بأن تدابير الإقفال في أوروبا والولايات المتحدة لم تبدأ حتى أواسط مارس (آذار) من العام الماضي. إلا أن تأخر الصين في تسليم المعلومات خلال المرحلة الأولى، مضافاً إلى الموقف المتساهل للمدير العام تجاه سلوك بكين، هو الذي وفّر الوقود لحملة دونالد ترمب على المنظمة، وانسحابه منه لاحقاً.
- أسئلة وجيهة ومهمة
يبقى السؤال الأهمّ الذي ما زالت الأوساط العلمية تحاول الإجابة عنه بعيداً تحسّباً للجائحات المقبلة وبعيداً عن الاعتبارات السياسية: ما الذي كان تغيّر لو أن الصين أبلغت على الفور بوجود الفيروس أو باحتمالات وجحوده وسريانه بين البشر؟
تقول الباحثة في علوم الأجناس البشرية جنيفر كول «حتى لو أن منظمة الصحة العالمية كانت أعلنت أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2019 أن ثمّة حالات مشتبه بها في الصين، وأنه من المستحسن الانتباه والتأهب لما قد يحصل، لا أعتقد أن الولايات المتحدة كانت ستعلن الإقفال العام». وتتابع متسائلة «ماذا كانت تفعل البلدان خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الماضي عندما كانت بحوزتها كل المعلومات حول ما كان يحصل في الصين؟ ولماذا انتظرت هذه الدول حتى نهاية مارس لتعلن الإقفال التام؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه وليس ما الذي فعلته الصين ومنظمة الصحة العالمية».
ختاماً، كان المدير العام للمنظمة قد تساءل أخيراً في إحدى إطلالاته الدورية أمام وسائل الإعلام «لماذا تجاوبت بعض الدول مع تحذيراتنا وأسرعت في اتخاذ التدابير، بينما تباطأت دول أخرى عدة أسابيع قبل اتخاذها؟». لكنه عاد ليقول قبل أسبوعين إنه لا بد من إجراء المزيد من البحوث قبل استبعاد فرضيّة تسرّب الفيروس من أحد المختبرات، منتقداً بكين لعدم تعاونها في تسهيل التحقيقات الدولية حول منشأ الفيروس.