أسيمي غويتا... «رجل مالي القوي»

أطاح رئيسين خلال أقل من سنتين

أسيمي غويتا... «رجل مالي القوي»
TT

أسيمي غويتا... «رجل مالي القوي»

أسيمي غويتا... «رجل مالي القوي»

«لقد شكّلا حكومة جديدة من دون التشاور معي»...
هكذا برّر «رجل مالي القوي» الكولونيل (العقيد) أسيمي غويتا، أحدث انقلاب عسكري قاده في بلاده ضد الرئيس الانتقالي باه نداو ورئيس حكومته مختار وان، بعدما كان من المفترض أن يقودا البلاد حتى 2022 موعد إجراء انتخابات جديدة، وتسليمها إلى سلطة مدنية. غويتا أمر باعتقال الرجلين يوم 24 مايو (أيار) الماضي، متهماً إياهما بـ«انتهاك الميثاق الانتقالي... والسعي لتخريب العملية الانتقالية».
وإزاء النفوذ العسكري القوي لغويتا، استقال نداو ووان بعد يومين من اعتقالهما، إلى أن أفرج عنهما فيما بعد، تحت ضغط دولي.
وما يُذكر أن الانقلاب العسكري الأخير في مالي، هو الثاني من نوعه الذي يقوده غويتا خلال أقل من سنة، إذ كان قد نجح قبل 9 أشهر فقط في الإطاحة بالرئيس الأسبق إبراهيم أبو بكر كيتا في أغسطس (آب) العالم الماضي، ما جعله يوصف بـ«الرقم الصعب في معادلة الحكم» في مالي... التي يُعوَّل عليها في لعب دورٍ محوريٍ في الحرب ضد الإرهاب بمنطقة الساحل والصحراء في غرب القارة الأفريقية.

خلّف انقلاب مالي الجديد قلقاً لافتاً في دول الجوار الأفريقية، وكذلك عند القوى الدولية، وعلى رأسها فرنسا، التي تنشر أكثر من 5 آلاف جندي في منطقة الساحل الأفريقي الغربي، بداعي الحرب ضد الإرهاب. ولقد وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه «انقلاب داخل انقلاب»... واعتبره «أمراً مرفوضاً».
بشكل عام، يحظى العسكريون في مالي بدعم شعبي لا يُنكَر، إلا أن الانقلاب الأخير، وفقاً لمراقبين، أثّر بشكل كبير على الثقة بين الطرفين. وفي كل الأحوال، ورغم التهديد بفرض عقوبات دولية، لا يبدو غويتا، صاحب الشخصية الصارمة، مهتماً بالانتقادات الدولية. إذ عيّنته المحكمة الدستورية العليا في مالي بنهاية مايو المنصرم رئيساً مؤقتاً جديداً للبلاد، خلال مرحلة انتقالية يُفترض أن تنتهي بإعادة السلطة إلى المدنيين. ووفق قرار المحكمة، سيمارس غويتا «مهام وصلاحيات وسلطات رئيس المرحلة الانتقالية لقيادة العملية الانتقالية إلى خواتيمها»، مشيرة إلى أنه سيحمل تالياً «لقب رئيس المرحلة الانتقالية، رئيس الدولة».

- نشأة عسكرية صارمة
منذ أغسطس 2020، وهو تاريخ انقلابه الأول ضد الرئيس كيتا، تحوّل أسيمي (أو هاشمي) غويتا إلى محط اهتمام واسع في الساحة السياسية والعسكرية المالية والدولية. وبعدما ظل كولونيلاً مجهولاً في الجيش المالي لسنوات، فإن متتبعي تاريخ نشأته يلحظون بوضوح مسار شاب عسكري طموح يتوق إلى السلطة.
ولد غويتا عام 1983 (أي أن عمره 38 سنة)، ويلقِّبه المقرّبون منه بـ«أسو»، وهو متزوّج وأب لـ3 أطفال. ووفق معلومات وزّعها الجيش المالي عنه، ونشرتها قناة «فرانس 24»، فإنه يوصف بأنه «رجل صارم، ومثابر، يحب التحديات ويجيد القيادة».
أما «إذاعة فرنسا الدولية» فنقلت عن جندي فرنسي عرفه عن قرب أن قائد الانقلابين في مالي، الذي لا يتخلى عن زيّه وقبعته العسكريين، «محترف لا يترك شيئاً يمر».
سار غويتا الذي يفضل الظهور «ملثماً» في العمليات العسكرية الميدانية، على خطى والده الضابط في الجيش المالي. وتخرّج في مدرسة كوليكورو العسكرية المالية المتخصصة في سلاحي المدرعات وسلاح الفرسان. وشارك أيضاً في كثير من دورات التدريب بعدد من الدول، بينها ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وعيّن في شمال مالي ابتداء من عام 2002 في أكثر من منطقة «ساخنة»، بينها غاو وكيدال وميناكا وتساليت وتمبكتو... بخاصة محاربة جماعات الإرهابيين.
وخلال عام 2014 ضُم غويتا إلى «القوات الخاصة» في الجيش المالي، وفي العام التالي أشرف على تنسيق العمليات الخاصة لوزارة الدفاع بعد قصف فندق راديسون بلو في العاصمة المالية باماكو. ثم عيّن عام 2018 قائداً سسلـ«القوات الخاصة»، ومن ثم، قاد عدة عمليات في شمال مالي ووسطها، وكذلك خارج البلاد ضمن وحدات دولية في إقليم دارفور السوداني.
واليوم، طبيعي أن تتخوّف عدة دول غربية أن يُحدث الانقلاب العسكري في مالي انتكاسة في المعركة الإقليمية ضد الإرهاب والتطرف. غير أن مجلة «فورين بوليسي» الأميركية تشير إلى أن العسكريين الذين نظموا الانقلاب تقلوا تدريبات على أيدي الجيش الأميركي - من بينهم العقيد غويتا – وأن الأخير شارك في التدريبات العسكرية التي تهدف لمكافحة الإرهاب ضد الجماعات المتطرفة في منطقة الساحل. كذلك تفيد مصادر أميركية أخرى إلى أن القوات الأميركية والأوروبية درّبت غويتا، بما في ذلك قوات مكافحة الإرهاب.

- ترقٍّ سياسي متوقع
لقد قدّم غويتا نفسه غداة انقلاب أغسطس 2020 كرئيس للمجلس العسكري الذي أطاح بالرئيس كيتا. واعتبر في حينه أن مالي «لم تعد تتحمل ارتكاب الأخطاء» من جانب السياسيين. ومن ثم قال للصحافة: «أقدم نفسي. أنا الكولونيل غويتا، رئيس اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب». كذلك، تعهد غويتا حينذاك، تحت ضغط دولي، بإعادة السلطة إلى مدنيين منتخبين بعد 18 شهراً بدلاً من 3 سنوات... كما كان يخطط.
في ذلك الوقت، مُنح غويتا منصب نائب للرئيس بصلاحيات أساسية في مجالي الدفاع والأمن. وكما يشير المراقبون، احتفظ بحضور قويّ لرجالاته في الحكومة الانتقالية عبر مجموعة من الوزارات، ما سمح له بوضع اليد على مقاليد السلطة، والإطاحة بها في وقت لاحق.
وحقاً، على مدار الأشهر الماضية، قبيل انقلابه الأخير، تجنب غويتا الأضواء، والتزم بلبس لفاع عسكري يخفي رقبته، لكنه بات محاوراً رئيسياً لكل الشركاء الأجانب.
وقبيل تعيينه رئيساً للدولة، بعد انقلاب مايو الأخير، قال غويتا: «كان علينا الاختيار بين الاستقرار والفوضى في مالي. ولقد اخترنا الاستقرار... لأنه في مصلحة الأمة. ليست لدينا أجندة أخرى خفية». وتابع: «من لا يعمل لا يخطئ».

- بداية الانقلاب
بداية انقلاب غويتا جاءت مع إعلان رئيس الوزراء المعزول مختار وان يوم 24 مايو الماضي حكومة جديدة، أبعد عنها كلاً من الجنرال ساجو كمارا وزير الدفاع والجنرال موديبو كوني وزير الأمن الداخلي. وأثارت هذه الخطوة حفيظة العسكر، الذين شعروا بالخيانة من باه نداو ورئيس وزرائه بعدما كانوا قد أتوا بهم من بيوتهم لقيادة المرحلة الانتقالية. ويعتقد الباحث السياسي المالي عثمان سيسي أن «مثال أمادو سانوغو قائد الانقلاب على الرئيس الراحل أمادو توماني توري 2012 كان حاضراً في أذهان العسكر؛ إذ جرت تنحيته وقدّم للمحاكمة وطورد من قبل المدنيين، الذين لم ينجزوا شيئاً بعد ذلك سوى المحاكمات السياسية، رغم سوء وخطورة ما قام به سانغو آنذاك».
ويرى سيسي أن الرئيس المعزول نداو أظهر «فشلاً وقصوراً كبيراً وقلة مسؤولية واضحة. إذ كيف له أن يقيل أهم شخصين في الحكومة، وهما اللذان قادا الانقلاب الذي جاء به؟! فضلاً عن أن الانقلاب على كيتا اكتسب شرعية لا بأس بها من الشارع المالي ومن كثير من القوى السياسية في البلاد». ويضيف متسائلاً: «هل بقاء هذين الشخصين إلى أن يأتي رئيس منتخب بعد المرحلة الانتقالية أفضل لمالي واستقرارها السياسي والأمني أم محاولة إقصائهم بهذه الطريقة؟».
عالم الاجتماع بريما إيلي ديكو، اعتبر أن ما حصل في مالي أخيراً يُعدّ امتداداً متوقعاً لانقلاب 2020. وفسّر في حديث لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن «ما نعيشه اليوم في مالي هو نتيجة منطقية لعيوب بداية المرحلة الانتقالية»، وذلك نتيجة استبعاد العسكريين للأحزاب وجمعيات المجتمع المدني التي قادت على مدى أشهر الحركة الاحتجاجية ضد السلطة السابقة.
ومن ناحية ثانية، المخاض الذي تعيشه مالي اليوم يوحي لبعض المراقبين بأن عين الكولونيل غويتا قد تكون على الانفراد بالحكم، وإن كان قد سبق له التعهد بأنه سيلتزم بأجندة المرحلة الانتقالية وفق «مسارها الطبيعي»، و«أن الانتخابات المزمع إجراؤها، ستنظم خلال العام 2022».
في كل الأحوال، المجتمع الدولي لا يرحّب بتحركات غويتا العسكرية. والجيش عامةً يعي أنه ليس في مصلحته عزله دولياً أمام خطر الإرهاب الذي يتربص بالبلاد، ويحتاج بكل تأكيد للدعم الفرنسي، خاصة في المنطقة. إلا أن الرئيس إيمانويل ماكرون كان واضحاً في رسالته للكولونيل وكل الانقلابيين، حين أكد في مؤتمر صحافي بباريس: «إننا مستعدون خلال الساعات المقبلة، في حال لم تتوضح حقيقة الوضع، لفرض عقوبات محددة الهدف» بحق الأطراف المعنية.

- عقوبات دولية متأرجحة
واقع الأمر، أن جيران مالي والقوى الدولية يخشون من أن يؤدي التمرّد الأخير إلى تعريض الالتزام بإجراء انتخابات رئاسية في فبراير (شباط) للخطر، ومن ثم، تقويض قتال المتشددين، الذين يتمركز بعضهم في الصحراء بشمال مالي. ولذا، كان من الطبيعي والمتوقع أن يقابَل انقلاب غويتا بعقوبات دولية، وإن كانت قد وُصفت بـ«المتأرجحة» حتى الآن، إذ علَّق الاتحاد الأفريقي عضوية مالي، وهدد من جهة أخرى بفرض عقوبات في حال لم يُعد قادة المجلس العسكري السلطة إلى المدنيين. وقال الاتحاد، في بيان أقره مجلس السلم والأمن للتكتل، إنه «قرر (...) التعليق الفوري لمشاركة مالي في جميع أنشطته ومؤسساته حتى استعادة النظام الدستوري الطبيعي في البلاد»... قبل أن يهدد صراحة بفرض عقوبات على مالي إذا لم تعد الحكومة التي يقودها مدنيون إلى السلطة.
وفي الشأن ذاته، قال مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي إن التكتل دعا إلى «عودة سريعة وشفافة ومن دون عراقيل إلى الانتقال الذي يقوده مدنيون... وفي حالة عدم حدوث ذلك، فلن يتردد المجلس في فرض عقوبات مستهدفة».
وبدورها، علّقت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس» عضوية مالي، لكنها، بعدما سبق لها أن فرضت حظراً تجارياً ومالياً على مالي في أغسطس 2020، امتنعت هذه المرة عن فرض مثل هذه العقوبات... سواء بصورة عامة أو ضد العسكريين.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن أسيمي غويتا شارك في أول مهامه الخارجية، بالقمة الاستثنائية للمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا التي عقدت في العاصمة الغانية أكرا لبحث الوضع في مالي. وجاءت مشاركته بعد نشر حكم المحكمة الدستورية الذي أقر المهام الجديدة للرئيس الكولونيل.
وبالفعل، التقى غويتا قادة دول غرب أفريقيا، الذين قرروا - كما يشير المبعوث الأميركي الخاص السابق لمنطقة الساحل بيتر بام - «تقبّل الأمر الواقع وإلغاء العقوبات التي فرضتها العام الماضي بالكامل». وتابع بام على «تويتر» أن «عدم ذكرها (أي المجموعة) تولي الكولونيل غويتا الرئاسة والدعوة إلى تعيين رئيس وزراء مدني جديد (من قبل الرئيس)، يعني أنها اعترفت ضمناً به رئيساً للدولة». وما يستحق الذكر هنا، أن العقوبات التي فرضت في أغسطس 2020، شعر بها بشدة السكان الذين يعانون أساساً في بلد منهك اقتصادياً.
وعلى الصعيد القوى الكبرى، هددت فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الفور بفرض عقوبات اقتصادية على باماكو. لكن، حتى الآن، لم يتخذ أي طرف إجراءات ملموسة بهذا الصدد سوى واشنطن التي علقت المساعدات العسكرية. أما مجلس الأمن الدولي، الذي اجتمع على وجه السرعة في 26 مايو الماضي، فقد دعا إلى «استئناف فوري» لعملية الانتقال السلمي للسلطة، ولم يتفق أعضاؤه مع ذلك على تنفيذ تدابير قسرية.
في المقابل، في مواجهة تهديدات العقوبات الدولية، سعى غويتا إلى حشد دعم داخلي، معلناً عزمه تسمية رئيس الحكومة المقبل من صفوف الائتلاف الذي قاد سنة 2020 شهوراً من الاحتجاجات ضد كيتا. وهمّش العسكريون هذا التجمع المعارض إثر إزاحتهم الرئيس. لكن تسمية رئيس حكومة من ائتلاف 5 يونيو (حزيران)، قد لا يعفي غويتا من رد فعل جيران مالي وشركائها الذين ينظرون إليه بكثير من الريبة.
وفي هذا السياق، نذكر أن الرئيس ماكرون هدد في مقابلة مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش»، بسحب القوات الفرنسية من مالي حال سارت سلطات باماكو باتجاه «الإسلاموية الراديكالية». وأكد ماكرون أنه سبق له أن «مرّر رسالة» إلى قادة دول غرب أفريقيا مفادها أنه «لن يبقى إلى جانب بلد لم تعد فيه شرعية ديمقراطية ولا عملية انتقال سياسي». وللعلم، عبر «قوة برخان» التي تضم نحو 5100 عنصر، تدعم فرنسا مالي التي تواجه منذ 2012 هجمات إرهابية تشنها الجماعات المتطرفة انطلقت في الشمال وأغرقت مالي في أزمة أمنية قبل أن تمتد إلى وسط البلاد.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».