فتحت أبواب المتاحف و«الغاليريهات» في لندن بعد طول غياب ورحبت بزوارها باشتياق وأيضاً بزخم من المعارض التي افتتحت في الأيام الأولى كأنما تقدم التعويض للزوار عن شهور طويلة من الجفاف الفني.
محطتي الأولى بعد الغياب كانت في المتحف البريطاني الذي يقدم أكثر من معرض جديد في نفس الوقت. أحدها هو معرض «انعكاسات... فن معاصر من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». المعرض قُدم أونلاين الشهر الماضي وتحدثت منسقته فينيشيا بورتر، رئيسة قسم الفن الإسلامي وفن الشرق الأوسط المعاصر بالمتحف، مع «الشرق الأوسط» حوله وحول الكتاب الخاص به، ولكن يبقى للزيارة الفعلية والرؤية المباشرة للأعمال رونقها وحميميتها التي لا يستطيع العالم الافتراضي مجاراتها. يضم المعرض 100 عمل من مقتنيات المتحف من الفن المعاصر من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويمتد من قاعة العرض رقم 19 بالمتحف حتى قاعة البخاري للفن الإسلامي المجاورة.
- الواقع يفرض وجوده
الجولة في العرض تبعث على الإحساس بمواءمة العرض بشكل كبير جداً لما يحدث في غزة هذه الأيام، ففنانو المعرض عبّروا في أعمالهم عن مآسٍ شخصية وعامة مرّت على المنطقة، عن حروب أهلية وأخرى خارجية، عبّروا عن التهجير واللجوء وعن السلام والوطن. كلها قضايا ومشاعر تكاد تتفجر من أطر اللوحات والصور الفوتوغرافية المعروضة.
بالنسبة إلى فينيشيا بورتر فالقصص خلف الأعمال تمثل «سحراً خاصاً»، تعرِّف عن كل عمل بحب وفخر، فهي عملت على مدى سنوات طويلة لتكون مجموعة أعمال فناني الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المتحف، وهذا المعرض يقدم للجمهور بعضها.
أراها في مدخل المعرض، تسألني: «ما رأيك؟ هل رأيتِ كل الأقسام؟»، وتصاحبني في جولة سريعة بين الأعمال بينما تجيب عن أسئلة بعض الزوار.
المعرض مقسَّم إلى ثلاثة أقسام ويبدأ بلوحة ضخمة بعنوان «الحادثة» لنيكي نجومي، يتحدى المفاهيم المسبقة حول فن هذه المنطقة من العالم، ويسلط الضوء على تعقيدات الوجود أمام كل فنان في الشتات.
من هناك، تقدمنا هذه الغرفة للطرق المختلفة التي تناول بها فنانو المنطقة الجسد الإنساني، وتطور أساليبهم الفنية وتأثرها بالدراسة في معاهد ومدارس فن عالمية.
عن هذا القسم تقول بورتر: «أردت تحدي المفهوم الذي يحمله الكثيرون في الغرب أن الفن الإسلامي لا يتناول الشكل الإنساني». نرى اسكتشات ورسومات للفنان اللبناني شفيق عبود، «فنان مذهل» تعبّر بورتر وتعلق على الدفتر الورقي الذي خط فيه عبود رسوماته وكتب قصة بعنوان «أبونا». تشير إلى أن المعرض يفرد مساحة خاصة لبعض «دفاتر الفنانين» ومنهم الفنان ضياء عزاوي ونرى دفتر رسوماته المصاحبة للترجمة الإنجليزية لرواية «مدن الملح» للروائي السعودي عبد الرحمن منيف.
في جانب من القاعة الأولى نرى رسماً يغلب عليه ثنائية الأبيض والأسود للفنانة الإيرانية هيف كهرمان بعنوان «جرائم الشرف» تتوسطه شجرة ضخمة سوداء تتدلى من أغصانها نساء مرتديات السواد. جذع الشجرة وأشكال النساء كأنها ضربات فرشاة خطاط، والعمل كله يبدو كأنه خارج من إحدى المخطوطات القديمة رغم قتامة موضوعه.
عمل الفنانة المصرية هدى لطفي «الست» (وهو أيضاً ملصق المعرض) يصوّر سيدة الغناء العربي أم كلثوم في صور مكررة وكلمات من أغنيتها الشهيرة «الأطلال»: «أعطني حريتي أطلق يديَّ... إنني أعطيت ما استبقيت شيئا».
«تواريخ متشابكة»...
- صراعات الماضي والحاضر
من هذا القسم ندلف لقسم آخر بعنوان «تواريخ متشابكة» حيث تتوحد أصوات الفنانين المعروضة أعمالهم في تناول موضوعات الصراع السياسي والثورة والحرب كلها من خلال التجارب الشخصية للفنانين. حرب العراق، وقضية فلسطين، والحرب الأهلية في لبنان، والأزمة السورية. هنا الأعمال من الواقع الحالي، لا مهرب هنا من مواجهة أوضاع العالم العربي وأحزانه.
الفنانون من أجيال مختلفة وبقصص مختلفة يجتمعون هنا في سرد جماعي ومنفصل.
تبرز هنا لوحة الفنان العراقي رافع الناصري يعبّر فيها عن واقعة حرق مكتبة بغداد الوطنية في عام 2003 ويمزج خطوطه وألوانه مع أبيات من قصيدة المتنبي:
بِمَ التعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبلغني
ما لَيسَ يَبلغهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
الفنان العراقي جواد سليم يقدم له المعرض اسكتشاً ورسومات أعدها لتنفيذ نصب الحرية في بغداد واستوحاها من بوابات بابل، وقدم من خلال رسوماته سرداً بصرياً يعبّر عن مواضيع مثل الظلم والمقاومة والتضامن.
الفنانة إميلي جاسر تقدم رسماً ضخماً يختصر مأساة الشعب الفلسطيني، يحمل عنوان «رحلة العودة»، وفيه نرى آثار أقدام على الأرض تشكّل دائرة فكأنما رحلة العودة لا تنتهي أبداً.
الفنان الفلسطيني سليمان منصور نرى من أعماله «الوطن»، ويجسد فيه معاناة المرور من بوابات نقطة تفتيش قلنديا التي تفصل بين القدس ورام الله. تفصل بين الأشخاص هنا حوائط عالية وبينهم أيضاً أجزاء البوابات المعدنية كأنها تخترق الأجسام، الملامح غائمة والعيون محدقة للأمام.
عمل الفنان عصام كرباج «مياه داكنة وعالم يحترق» من أهم الأعمال المعاصرة التي تعبّر عن المنفى والهجرة، يصوّر قوارب المهاجرين أو قوارب الموت، وبدل الأشخاص هنا أعواد ثقاب خامدة مصفوفة في قوارب صغيرة مصنوعة من قطع المطاط؛ العمل موحٍ بكل المقاييس، ويحمل في كل تفاصيله مشهداً من التاريخ المعاصر، وهو ما دفع المتحف لإضافة القوارب لقائمته الشهيرة «تاريخ العالم في 100 قطعة»، لتصبح قوارب المهاجرين القطعة رقم 101 في القائمة.
أما عمل الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي (من دون عنوان) الذي يصوّر شخصاً يقف أمام حقيبة سفر ضخمة جداً، فتراه بورتر على أنه «وثيقة تاريخية... الفنان يتحدث ليس فقط عن تجربته بصفته فلسطينياً يعيش في غزة، بل أيضاً يتحدث عن كل شخص يضطر لمغادرة وطنه ولا يستطيع العودة».
- التجريد وفن الخط
بالعودة لقسم التجريد نرى التعبير بالخطوط والأحرف في أبدع صوره، فالقاعة هنا تفرد مساحاتها لجانب أثير في الفن الإسلامي يمتد تأثيره للفن المعاصر، وهو التجريد. نرى هنا فنون الخط والزخرفة والإضاءات وغيرها تصبح أدوات للفنان المعاصر للتعبير عن قضاياه وأفكاره.
في القاعة يجذبنا عمل للفنان الإيراني واي زد كمي بعنوان «صلاة بلا نهاية» والذي يبدو من بعيد كأنه دوائر منتظمة متتالية. بالاقتراب نرى أن الدوائر مصنوعة من قطع القماش التي تحمل كتابات باللون الأسود تفصل بينها مربعات باللون الأزرق. العمل جذاب بصرياً ويوحي شكله النهائي بأشكال قِباب المساجد في العمارة الفارسية. بالنسبة إلى الفنان يرمز شكل القبة إلى السماوات والرغبة في التأمل، ولعل ذلك هو السبب في اختيار الكلمات المتتالية في دوائر القماش من كتاب للشاعر الصوفي جلال الدين الرومي.
من السعودية تبرز مجموعة من الأعمال للفنانة لولوة الحمود بعنوان «أسماء الله الحسني» والتي تعبّر فيها الفنانة بطريقتها وبلغة بصرية جميلة جداً خاصة بها عن مفهوم الإيمان.
المعرض وقتي وأيضاً مناسب لكل الأزمان، يعزف على أحاسيس النفس البشرية وآلامها ويصوّر إبداعات الفنانين العرب والشرق أوسطيين بتسلسل رائع. يُختتم المعرض بنبرة أمل من خلال لوحة للفنان السوداني إبراهيم الصلحي ترى فيها بورتر تعبيراً عن «السكينة والأمل».

