مخاوف من امتلاك «داعش ليبيا» أسلحة كيماوية

مسؤولون عسكريون رصدوا تجارب ميليشيات على استخدامها

بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
TT

مخاوف من امتلاك «داعش ليبيا» أسلحة كيماوية

بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)
بقايا ترسانة القذافي الكيميائية في العراء (تصوير: «الشرق الأوسط»)

انطلقت 3 سيارات دفع رباعي في الصباح الباكر، من مدينة مصراتة الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس. 9 شبان من قوات الميليشيا التي تديرها جماعة الإخوان، مدججين بالأسلحة والحماسة والاندفاع، يقطعون مئات الكيلومترات إلى جنوب شرقي المدينة.
المهمة تبدو بسيطة لكنها معقدة. استكشاف ما تبقى من موقع للأسلحة الكيماوية التي كان العقيد معمر القذافي يخفيها في مخازن بالصحراء. هذه عملية خطرة وسرية، لكن بدا أنه لا أحد يأبه للعواقب. يأكلون شطائر التونة.. يلقون النكات ويضحكون، بينما الشمس تشرق فوق التراب الأحمر، والمحركات تهدر والإطارات تثير وراءها الغبار والحصى.
في النهاية جرى إلقاء القبض على اثنين على الأقل من هؤلاء المغامرين الذين ينتمون لقوات غير نظامية تحارب الجيش الوطني الليبي والسلطات الشرعية في البلاد مترامية الأطراف وقليلة السكان. روى كل منهما قصصا مثيرة للقلق عن مساعي المتطرفين للاستيلاء على بقايا مخزون القذافي الغامض من الأسلحة الكيماوية، منذ مقتله في خريف 2011 حتى الآن. كما قدما شرحا للرحلة منذ قيامها من مصراتة.
ووفقا لمصدر عسكري ليبي، ترك القذافي قبل رحيله 3 مواقع على الأقل في أنحاء البلاد، كانت تضم أكثر من ألف طن مكعب من مواد تستخدم في صنع أسلحة كيماوية، ونحو 20 طنا مكعبا من الخردل الذي يتسبب بحروق شديدة للجلد، إضافة لعدة ألوف من القنابل المصممة للاستخدام مع خردل الكبريت. كان يفترض أن يدمر القذافي هذا المخزون بناء على اتفاقات دولية عام 2004، لكن عملية التخلص من هذه «المواد المعلومة» لم تصل إلا لنحو 60 في المائة بسبب الانتفاضة المسلحة ضد القذافي، وفقا للمصدر نفسه.
لدى المتطرفين معلومات تقول إن منطقة «رواغة» الواقعة في محافظة الجفرة، التي كانت واحدة من مقرات قيادة جيش القذافي الحساسة، ما زال بها براميل من البلاستيك المقوى وذات لون أزرق، وفيها أيضا حاويات من الصاج، تضم كلها سوائل وغازات كيماوية من مواد الخردل المهلكة، وإن الحراسة على هذه المخازن ما زالت ضعيفة. تقريبا 3 ينتمون إلى السلطات الشرعية الهشة في البلاد التي تعاني الفوضى، وتسليحهم لا يزيد على بنادق من نوع كيه 47 وسيارة، ويعاونهم بشكل غير منتظم نحو 10 من أبناء قبائل المنطقة.
وللوصول إلى هنا كان لا بد من المرور على مدينة سرت، مسقط رأس القذافي، التي أصبحت تحت سيطرة أنواع جديدة من المسلحين.. التفاهم كان قد جرى سلفا حول تقاسم «حصص الكيماوي» مع قادة ميليشيات سرت، لكن الآن حان وقت التنفيذ. ينتظر في هذه المدينة - التي ما زالت جدرانها، منذ أكثر من 3 سنوات، مثقوبة بقذائف المدفعية وقصف طيران حلف الناتو - اثنان من الزبائن المنتمين لجماعة أنصار الشريعة المتطرفة والموالية لتنظيم داعش، في سيارتهما.
مع الضحى انضموا للقافلة التي شقت طريقها من جديد على درب إسفلتي يبلغ طوله نحو 220 كيلومترا ومكتوب على أوله «ودّان»، وهو اسم البلدة الواقعة بالقرب من منطقة «رواغة». بلدة تقع بين أشواط من النخيل، كان قد ولد فيها رئيس وزراء ليبيا المقال الدكتور علي زيدان. وسبق لمجموعة مصراتة أن جاءت إلى هنا. والآن تجري عملية إرشاد لـ«أنصار الشريعة» للحصول على نصيب من «غاز الخردل». ووفقا لأحد المقبوض عليهما فإن الصفقة كانت تبلغ ما يساوي 60 ألف دولار.
وتعاني «أنصار الشريعة» من مصاعب في حربها مع الجيش. ويبدو المدد المباشر الذي كانت تقدمه لها جماعة الإخوان يتراجع بسبب الضغوط الدولية والإقليمية على المتشددين، لكن التعاون من تحت الأرض ما زال موجودا.
ولصرف أنظار الجيش والقبائل المعادية للمتطرفين، بعيدا عن «عملية الكيماوي» استغلت المجموعة حربا تخوضها الميليشيات في صحراء النوفلية المجاورة، التي تقع شرق سرت بنحو 130 كيلومترا. وفي الجانب الآخر، أي قرب «رواغة»، أبدى حراس الموقع ومن معهم من متطوعين شجاعة كبيرة. كان الوقت يقترب من العصر حين رصدوا بمنظار روسي قديم، ومن فوق تلة، قدوم السيارات الأربع. كمنوا داخل مخزن أسلحة مهجور يقع على بعد نحو 70 مترا من حاويات الكيماوي، واستعدوا للمواجهة غير المتكافئة.
ما زالت توجد هنا آثار المعركة.. بقايا شطائر متعفنة من التونة وطلقات رصاص فارغة وقميصان واقيان من الرصاص كانا مع الشابين المقبوض عليهما. الأول يدعى «نور الدين» والثاني «اصميدة». لكنها آثار تبدو تافهة مقارنة بأطلال الدشم العسكرية التي حطمها قصف طيران الناتو أثناء مساندته للانتفاضة المسلحة التي استمرت 8 أشهر للتخلص من القذافي. وبعد مفاوضات بعيدا عن السلطات الشرعية، أجرى اثنان من شيوخ قبائل الجفرة مبادلة.. سلموا «نور الدين» و«اصميدة» لوسيط عن جماعة الإخوان، وتسلموا مقابلهما 25 شابا ينتمون لقبائل مختلفة، وكانوا يواجهون التعذيب والموت في سجن «طمينة» بمصراتة، ومن بينهم أبناء لقبائل «المعدان» و«المغاربة».
من المعروف أن قبائل الجفرة، التي كانت يوجد على أراضيها أحد أهم مقرات وزارة الدفاع في عهد القذافي، وكان يتردد عليها وزيره الذي قتل معه في سرت، اللواء أبو بكر يونس، ظلت ترفض تدخل الناتو والانتفاضة المسلحة وحكم المتطرفين في طرابلس. ويقول أحد شيوخ الجفرة إن أبناء المحافظة رصدوا منذ وقت مبكر محاولات الميليشيات نهب مخازن الأسلحة الضخمة منذ الانتفاضة المسلحة.
ويوضح مسؤول سابق في «لواء الجفرة»، وهي كتيبة شبه عسكرية كانت تتكون من نحو 300 من شباب المنطقة، وأسسها مسؤول سابق كان عضوا في المجلس الانتقالي في 2011، إن «اللواء» كان يشرف على حراسة المنطقة رغم ضعف ما لديه من إمكانات، لكن الذي زاد من القلق بشأن مصنع السلاح الكيماوي أن مركز الحراسة نفسه كان يقع على بعد نحو 17 كيلومترا، ولهذا فإنه لا يمكن التأكد مما إذا كان قد جرى العبث بتلك المواد أو سرقتها من عدمه.. «لا يوجد ما نقيس به كميات السوائل والغازات الموجودة فيها».
عدم اليقين من مصير الأسلحة الكيماوية لا يقف عند الصعيد المحلي هنا فقط، بل موجود لدى كبار المعنيين الدوليين بهذه القضية؛ فالبعض من مفتشي الأسلحة الدوليين، كما يقول أحد نواب البرلمان الليبي عن منطقة الجنوب، يأتي ويصرح بأن مخزون الخردل مثلا لم يمسسه أحد بعد سقوط نظام القذافي.. «لكن أطرافا أخرى من منظمة حظر هذا النوع من السلاح يرسلون لنا رسائل بأنه ما زالت توجد مخزونات من الأسلحة الكيماوية.. ليست ليبيا فقط في فوضى. بل الجميع».
ويقول أحد الناشطين في مدينة ودان، في الجفرة، ويدعى محمود الشيباني، إن الألوف من قطع الأسلحة وصناديق الذخيرة استولت عليها الميليشيات في شهري سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عام 2011، حين جرى رصد تحركات للقذافي بين مدينتي بني وليد وسرت، المجاورتين للجفرة، لكن اهتمام الميليشيات بمصنع غاز الخردل لم يبدأ إلا بعد ذلك، واستمر طوال السنوات الثلاث الماضية، و«كنا نتصدى لمحاولات السرقة.. لكن لا يمكن لغير المتخصصين مثلنا هنا أن يحددوا ماذا جرى. من الممكن أن يكون البعض استولى على الغاز من المستودعات.. أعني أن المستودعات موجودة، لكن هل يوجد فيها الغاز كما تركه القذافي كاملا أم جرى نقل كميات منه إلى أماكن أخرى. لا أعرف».
في زيارة للجفرة عقب مقتل القذافي بعدة أيام، كان يوجد مصنع عسكري صغير لتحضير الأسلحة الكيماوية، دون حراسة، وجرى التحذير من أبناء المنطقة من تعرضه للسرقة أو وصول ما فيه للأيدي الخطأ. وجرى نقل المناشدة من أبناء الجفرة للأمم المتحدة من أجل التدخل. وبعد مضي أكثر من 3 سنوات، يبدو أن الخطر ما زال قائما، ليس في منطقة «رواغة» قرب ودان والجفرة فقط، ولكن في الكثير من المناطق الأخرى التي كشفت عنها أخيرا مصادر عسكرية ليبية لـ«الشرق الأوسط».
ممنوع دخول أي عناصر إلى مواقع الجيش التي تحتوي على هذا النوع من معامل تصنيع الأسلحة الكيماوية وتخزينها. كان هذا النظام متبعا أيام القذافي. من يقترب من مثل هذه الأماكن عليه أن يكون قد حصل على تصريح مسبق من السلطات، أيا كانت رتبته، وأن يقيد ما يدخل أو يخرج في السجلات. ومنذ سقوط النظام لم يعد أحد يلتفت لمثل هذه القيود. يمكن لأي ميليشيا أن تدخل وتأخذ ما تريد دون أن تعلم أي جهة ماذا أخذت، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية.
المصنع الموجود في وادي «رواغة» كانت تحرسه، أثناء الانتفاضة المسلحة، كتيبة من مصراتة اسمها «كتيبة السد». وتقول المصادر في الجفرة إن عناصر من هذه الكتيبة نقلت معها كميات غير معروفة من غاز الخردل، أثناء عودتها إلى بلدتها المطلة على البحر المتوسط، وذلك قبل أن يأتي 3 خبراء من الأمم المتحدة في ذلك الوقت، لمعاينة المصنع وخزانات غاز الخردل، وإقامة ساتر ترابي لمنع السيارات من النزول إلى الوادي. لكن الشيخ سعيد، أحد أبناء مدينة ودان، يقول إنه توجد مدقات أخرى من السهل الدخول من خلالها إلى المصنع.
كانت الكمية الموجودة في براميل من الصاج هنا تبلغ نحو 9 أطنان من هذا الغاز الفتاك، إلى جانب عشرات البراميل المصنوعة من البلاستيك المقوى بمواد عازلة، التي أصبحت الآن ملوثة بالمواد الكيماوية. وتوجد أيضا خزانات تشبه الأقماع كانت تستخدم في عملية النقل. الآن من السهل أن ترى آثار هذه المواد وتشم رائحتها الكريهة والنفاذة، وهي ذات لون بني يميل إلى السواد، وتشبه الصدأ الذي ينتج عن اختلاط الماء بالحديد لفترة طويلة. وتعد محافظة الجفرة منطقة بعيدة عن تقاطعات الطرق مع المدن الليبية الأخرى، وهي بعيدة أيضا عن الأنظار فيما عدا بعض القواعد العسكرية والمطارات التي كانت دائبة الحركة في عهد القذافي. أبناؤها مسالمون بشكل عام، ويشتهرون بقرض الشعر وتأليف المطولات الغنائية الشعبية. وتضم 4 مدن هي «سوكنة» و«هون» و«الفقها» بالإضافة إلى «ودان».
وفي مقابلة مع مسؤول عسكري ليبي بشأن كمية الأسلحة الكيماوية الموجودة في ليبيا، قال إنها «للأسف، في أماكن أصبحت معلومة للميليشيات.. لقد استولت على كميات منها لاستخدامها في حربها مع الجيش، سواء بشكل مباشر.. أي باستخدامها ضد القوات العسكرية، أو بشكل غير مباشر، من خلال التهديد باستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية».
ويضيف الرجل الذي يعمل بالقرب من قائد الجيش الليبي، اللواء خليفة حفتر، في حديث موثق، رغم طلبه عدم الإشارة لاسمه صراحة: «توجد أسلحة كيماوية ليس فقط في منطقة ودان، بل هناك أيضا أسلحة كيماوية موجودة في منطقة سوكنة وفي منطقة هون».
ويضيف: «هذه مواقع كانت مقرا للقيادة العسكرية الليبية لمدة 20 سنة، من ضمن عهد القذافي الذي استمر 42 سنة.. توجد في هذه المنطقة أيضا مخازن كثيرة غير معروف عددها.. المعلومات التي لدينا أن الميليشيات المسلحة سرقت كميات كبيرة من هذا المخزون. المشكلة أن المواد الكيماوية التي وصلت لأيدي المتطرفين لا تحتاج إلى أجهزة من أجل استخدمها كأسلحة، لأنها معدة للاستخدام سلاحا منذ سنين».
وقدم المصدر العسكري تسجيلا مصورا جرى رصده لواحدة من الميليشيات المسلحة في جنوب طرابلس وهي تقوم بتجريب أسلحة كيماوية استولت عليها من أحد مخازن جيش القذافي.. يقع هذا المخزن في منطقة تعرف باسم «مشروع اللوز» وهي موجودة في تجاويف جبلية تقع على الطريق بين منطقتي «بوجهيم» و«هون».
وجرت هذه التجربة وعدة تجارب أخرى في مواقع خالية قريبة من منطقة مزدة على بعد 160 كيلومترا جنوب طرابلس. يبدو أحد عناصر الميليشيات، في التسجيل المصور، وهو يطلق قذيفة من سلاح في منطقة صحراوية. حين سقطت القذيفة أحدثت لهبا، ثم أعقب ذلك انبعاث دخان أبيض كثيف، إلى أعلى، على شكل «عيش الغراب»، ثم يزيد من الانتشار قبل أن يتحرك مع اتجاه الريح في سحابة كبيرة تزداد اتساعا لتغطي ألوفا من الأمتار المربعة بمرور الوقت.
مصدر عسكري آخر يقول إن قيادات في الجيش الوطني الليبي تعلم بوصول أسلحة كيماوية لأيدي جماعات من المتطرفين، لكنها لا تريد أن تعلن عن ذلك حتى لا تثير الفزع في البلاد، أو تعطي لتلك الجماعات إحساسا بالقوة. ورغم أنه يقول إن الجماعات لن تجرؤ على استخدام تلك الأسلحة الفتاكة لأنها ستتضرر من مفعولها أيضا، فإنه لا يستبعد أن يقدم تنظيم داعش الدموي على أعمال انتقامية بواسطة ما يمكن أن يكون قد وصل لعناصره سواء من غاز الخردل أو غاز السارين السام.
وعما إذا كان لديه تأكيدات بمخاطر استخدام تلك المواد في عمليات قتالية، يعود المسؤول العسكري الليبي ويقول إنه «للأسف هي عبارة عن غازات جاهزة للضرب»، مشيرا إلى أنه جرى نقل كميات كبيرة من مخازن «مشروع اللوز»، ومن أماكن أخرى في جنوب البلاد إلى يد المتشددين المنتمين لمدينة مصراتة، و«بالتالي تستطيع ببساطة أن تقول إن هذه الأسلحة وصلت لجماعة الإخوان وحلفائها من الميليشيات المتطرفة».
وعلى عكس نخيل محافظة «الجفرة»، تكثر في «واو الناموس» على بعد نحو 180 كيلومترا جنوب مدينة سبها في الجنوب الليبي، الطيور والحيوانات البرية، وهي تعد من الأماكن الوعرة والمهجورة. كانت تتردد عليها في الماضي عناصر تابعة للجيش في أيام القذافي. ووفقا للمصادر العسكرية فقد فطن الكثير من المتطرفين، خاصة أولئك الذين انخرط في صفوفهم ضباط وجنود ممن انشقوا عن النظام السابق، لمواقع الأسلحة والمواد الكيماوية السرية، و«استولوا عليها.. طبعا كانت لدينا معلومات عن أن البعض باع أو بادل كميات منها بأسلحة أخرى، مع جماعات متطرفة بمن فيها جماعات عابرة للحدود في دارفور وشمال مالي».
هناك ما يسمى «القوة الثالثة» المتمركزة في سبها وهي تابعة لـ«الإخوان» والمتطرفين وينضوي تحت لوائها خليط من المقاتلين الفارين من شمال مالي، والهاربين من جنوب الجزائر، وعدة مئات من جنسيات أخرى من بينهم تونسيون ومصريون وأفارقة. ويضيف المصدر الأمني أن فرنسا تشعر بالقلق من تحركات هذه القوات عبر الحدود بين ليبيا وكل من تشاد والنيجر والجزائر وصولا إلى مالي، ولهذا تراقب الموقف هناك عن طريق طائرات من دون طيار.
ولم تتمكن «الشرق الأوسط» من الحصول على رد فرنسي رسمي حول عملياتها في الجنوب الليبي في حينه، إلا أن المصدر يقول أيضا إن فرنسا «تمكنت من مطاردة مجاميع لمتطرفين في جنوب غربي ليبيا في الشهرين الماضيين»، مشيرا إلى أن لديها قاعدة تبعد عن الجنوب الليبي بنحو 100 كيلومتر فقط، وبها نحو 200 من قوات النخبة، إضافة إلى قاعدة أخرى في نجامينا بتشاد فيها قدرة على إقلاع طائرات «رافال» لتنفيذ عمليات والعودة.
ومن المعروف أن فرنسا لها اهتمام تاريخي بالجنوب الليبي، حيث زارت أول بعثة استكشافية فرنسية المنطقة عام 1918، كما دخلت في شد وجذب مع ليبيا حول تقاسم الأدوار في الدول الأفريقية المجاورة لليبيا، على رأسها تشاد التي تحارب فيها الجانبان لسنوات. ويوضح المصدر نفسه أن التدخل الفرنسي لمساعدة ليبيا على التخلص من الإرهاب «ما زال ضعيفا»، معربا عن اعتقاده أن هذا «بسبب الضغوط الأميركية والبريطانية المنحازة لمواقف جماعة الإخوان»، وهو يشير إلى أن الكثير من دول العالم مثل أميركا وبريطانيا «لا شك أن لديها أجهزة استخبارات تعمل في الداخل الليبي ولديها علم بمواقع الأسلحة الكيماوية ومن حصل عليها، وأين يخبئها، ومع ذلك لم نر تحركا ذا شأن لمواجهة مخاطر استخدام الإرهابيين مستقبلا للأسلحة الكيماوية، ليس في ليبيا أو دول الجوار فحسب، ولكن في دول حوض البحر المتوسط أيضا».
وبحسب المعلومات من المصادر الأمنية والعسكرية الليبية فقد تمكنت «القوة الثالثة» من الوصول أيضا إلى مخازن كبيرة للمواد الكيماوية في منطقة تسمى «تمنهنت» التي توجد فيها قاعدة كبيرة للتصنيع الحربي وقاعدة جوية على بعد 30 كيلومترا من مدينة سبها. ويقول أحد هؤلاء العسكريين في مقابلة مسجلة مع «الشرق الأوسط»: «تمنهنت مدينة يلفها النخيل وأهلها طيبون، لكنها من المناطق التي خزن القذافي في محيطها أسلحة كيماوية، وهي الآن تحت سيطرة القوة الثالثة، بما في ذلك المطار العسكري للمدينة ومطارات صغيرة ومهجورة كانت تابعة لشركات بترول».
ووفقا لمصدر أمني ليبي يعمل حاليا في الجيش، فقد أخفى القذافي أسلحة كيماوية في مخازن تقع داخل تجاويف جبلية ذات لون أسود بمنطقة «واو الناموس»، مشيرا إلى أن الميليشيات المسلحة المنضوية تحت ما يسمى «القوة الثالثة» خاضت حربا ضروسا مع ممثلي قوات الجيش ضعيف التسليح والعتاد هناك، إلى أن أمكنها السيطرة على مطار المدينة وبسط نفوذها على «واو الناموس»، في الشهور الماضية، و«من ثم جرى نقل كميات من غاز الخردل والسارين إلى مقار الميليشيات في الشمال، في مصراتة وطرابلس، عبر طائرات من نوع (يوشن).. نقلوا كميات غير معروفة وأصبحت تحت أيديهم، وهذا أمر خطير».
وعلى عكس حالة «داعش في العراق وسوريا» تتعاون مع «داعش ليبيا» الكثير من المجموعات والميليشيات المتطرفة، حيث تتفق جميعها على هدف واحد هو محاربة الجيش الوطني الليبي. ويحاول «داعش ليبيا» أن يبرز سريعا، كما فعل حين ذبح 21 مصريا، بشكل جماعي، قبل أيام، في مشاهد وحشية. ولهذا توجد مخاوف من أن تنفذ عملية خطرة. وكان يوجد في صفوف «داعش العراق وسوريا» خبير في الأسلحة الكيماوية يدعى «أبو مالك» لكنه قتل في غارة جوية شنتها قوات التحالف الشهر الماضي قرب مدينة الموصل بالعراق. ويقول مصدر عسكري في ليبيا: «يظل احتمال وصول أسلحة كيماوية لـ(داعش ليبيا) واستخدامها احتمالا ورادا، حتى لو كان ضعيفا».
وحالت الحرب بين الفرقاء الليبيين دون وضع خارطة واضحة لأسلحة البلاد الكيماوية، لكن آخر حكومة موحدة برئاسة الدكتور زيدان، التي كان يهيمن عليها «الإخوان» والميليشيات المتطرفة، قالت قبل استقالتها العام الماضي إنها دمرت آخر ما لديها من أسلحة كيماوية في منطقة الجنوب بمساعدة خبراء من ألمانيا وأميركا وكندا، وإنه «لا توجد أي كميات أخرى معروفة من الأسلحة الكيماوية»، إلا أن مسؤولا عسكريا في جيش حفتر قال إنه، رغم ذلك، ما زالت هناك مواد وأسلحة كيماوية خطيرة مخزنة في الصحراء، وبعضها يجري العثور عليه بمحض الصدفة.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.