أربعة أسابيع فصلت بين تدشين الرئيس الأميركي جو بايدن سياسته تجاه روسيا، بإطلاق اتهامات وعبارات غير مسبوقة ضد نظيره الروسي فلاديمير بوتين، ووصول العلاقات بين البلدين إلى «القاع»، وفقاً لوصف ساسة روس، رأوا أن «الفرص تضاءلت في إيجاد آليات لتضييق مساحة الخلاف، أو التوصل إلى نقاط مشتركة لإطلاق حوار يكبح جماح التوتر المتصاعد بقوة».
وحقاً، خلال الأسابيع الأربعة الماضية، واجهت روسيا إعلانات متزامنة من جانب الولايات المتحدة وأوروبا بفرض رُزم عقوبات واسعة النطاق طاولت للمرة الأولى قطاعات حيوية وحساسة، فضلاً عن تبادل طرد الدبلوماسيين، وإغلاق آخر قنوات الحوار المتبقية مع عدد من البلدان الغربية. وتزامن ذلك، مع تصاعد التوتر في أوكرانيا، وتراكم سحب مواجهة واسعة النطاق، على وقع زيادة الحشود العسكرية على الجانب الروسي من الحدود، مع تحركات لا تقل أهمية لقوات حلف الأطلسي (ناتو) على مقربة من الحدود الروسية. وهكذا، بدا أن المشهد الذي تكرّس بقوة خلال الأيام الأخيرة، يعكس أن موسكو باتت تواجه حملة عقوبات وتضييق واسعة النطاق ومنسقة بشكل جيد بين واشنطن والعواصم الأوروبية، هو ما دفع بوتين إلى التلويح بـ«خطوط حمراء» حذر من تجاوزها متوعّداً بـ«رد قاس وسريع».
تجنّب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حديثه، أمام البرلمان في موسكو قبل أيام، التطرق بشكل مباشر إلى رُزم العقوبات الأميركية والأوروبية والتحركات العسكرية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) على طول الحدود مع روسيا. إلا أنه قال إن بلاده «تتوخى أقصى درجات ضبط النفس أمام محاولات المساس بها، لكنها لن تتردد في الرد بشكل حاسم على أي خطوات عدائية تهدد مصالحها». وزاد أن «الحملات العدائية ضدنا لا تتوقف، ويُلقى اللوم علينا في كل شيء، ومن دون تقديم أي أدلة».
وزاد الرئيس الروسي، أن بلاده «تسعى إلى بناء علاقات طيبة مع جميع الدول، بما في ذلك تلك التي برزت خلافات بينها وموسكو في الآونة الأخيرة». وأردف «لا نريد في الواقع إحراق الجسور، لكن إذا كان أحد يرى في حسن نياتنا مؤشراً على التقاعس أو الضعف، وينوي إحراق أو حتى تفجير هذه الجسور بنفسه، فيجب عليه أن يعرف أن رد روسيا سيكون مناسباً وسريعاً وقاسياً». وفي لهجة تهديد غير مسبوقة من جانب بوتين، تابع، أن بلاده «لن تسمح لأحد بتجاوز الخطوط الحمراء... نحن من يحدد أين تقع هذه الحدود... ومدبرو أي استفزازات تهدد المصالح الجذرية لأمننا سيندمون على تصرفاتهم كما لم يندموا في أي وقت».
الرد الأكثر حدة
الرد الروسي على المستوى الرئاسي كان الأكثر حدة منذ فترة طويلة على وقع التطورات الساخنة في علاقات روسيا مع الغرب. وبدا معه أن المواجهة الروسية - الغربية اتخذت بُعداً أشمل خلال الأسبوع الأخير؛ ما أقلق الكرملين.
وبعد مرور يومين على إعلان رزمة واسعة من العقوبات الأميركية ضد روسيا، شملت للمرة الأولى القطاع الاقتصادي، من خلال فرض قيود على التعامل مع سندات الدين العام الروسي، شكّل انضمام عدد من البلدان الأوروبية إلى الحملة القوية والمنسقة ضد موسكو نقطة تحول مهمة. وهذا وما دفع خبراء روس إلى الكلام عن «مجرى تصاعدي للمواجهة سيكون له تأثيرات سلبية» على كل محاولات تخفيف التوتر أو إيجاد آليات للتوصل إلى «تفاهمات الحد الأدنى»، التي كانت موسكو تعوّل عليها في حال تم ترتيب لقاء مباشر بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين.
أيضاً، رأى خبراء أن التطور الجديد الذي تمثل في طرد 18 دبلوماسياً روسياً من جمهورية تشيكيا يشكل نقطة تحول جدية في الحملة المنسقة التي تديرها واشنطن. ومع أن موسكو سارعت بعد ذلك مباشرة إلى طرد 20 دبلوماسياً تشيكياً في إطار «الرد المتكافئ» الذي تعهدت به، فإن حقيقة دخول تشيكيا على خط المواجهة الروسية - الأميركية أثار مخاوف جدية في موسكو. وهذا؛ لأن التدهور في العلاقات مع براغ استمر عبر تصعيد الاتهامات المتبادلة والتلويح بخطوات أخرى قد يكون بينها قطع العلاقات.
وعليه، فإن التطور الجديد يشير إلى أن جمهوريات حوض البلطيق وبولندا ما عادت وحدها تشكل «رأس حربة المواجهة» بين روسيا والغرب - كما كان الوضع في الماضي -، بل دخلت المواجهة أيضاً جمهورية التشيك، وهي الدولة التي كانت تربطها بموسكو علاقات متساوية وإيجابية حتى وقت قريب. ولقد شكّل دخول سلوفاكيا وبلغاريا على الخط عبر توالي طرد دبلوماسيين من روسيا «تضامناً» مع براغ إضافة جديدة عززت نهج «الحملة المنسقة» ضد روسيا التي سعى إليها بايدن.
ومعلومٌ أنه مباشرة بعد إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن أخيراً الإجراءات المناهضة للكرملين، التي تشمل بالإضافة إلى العقوبات طرد الدبلوماسيين، رد الاتحاد الأوروبي ببوادر دعم. وكان هذا متوقعاً تماماً، بعد تكرار الحديث عن الحاجة إلى العمل ضد روسيا كجبهة موحدة. لذا؛ كانت متوقعة تصريحات «ناتو» والاتحاد الأوروبي الداعمة للعقوبات الأميركية. ومن المقرر أن تجري دراسة تفصيلية للمسألة الروسية في قمة الاتحاد الأوروبي خلال يونيو (حزيران) المقبل. وهذا يعني توقع تصعيد أقوى للحملة المنسقة. ومع أن بوتين شارك بعد تردد طويل في قمة المناخ التي دعا إليها بايدن، فإن هذا التطور لم يسفر عن تحول في منحى التدهور المتواصل.
موقف فرنسا وأبعاده
من ناحية أخرى، ثمة تطور آخر مزعج للكرملين أضيف إلى الخطوات التي اتخذها عدد من البلدان الأوروبية. إذ جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة بأنه لا يستبعد فرض رزمة عقوبات جديدة على روسيا في حال تدهور الوضع في أوكرانيا، لتشكل عنصراً ضاغطاً ومؤشراً جدياً إلى مدى اتساع الحملة المناهضة لموسكو ودرجة تنسيقها في الغرب.
والصحيح، وفقاً لخبراء، أن ماكرون تحدث عن عقوبات تتعلق بأوكرانيا فقط، بخلاف المواقف الأميركية والأوروبية الأخرى. ولكن، بينما تنطلق واشنطن، ومعها بعض الحلفاء الأوروبيين، في تصعيد الضغوط على موسكو انطلاقاً من ملف التدخل الروسي في استحقاقات محلية أو القيام بأنشطة تجسّسية وتخريبية (الولايات المتحدة، وبولندا، وتشيكيا، ولاتفيا، وبلغاريا، وإيطاليا، وبريطانيا وعدد آخر من بلدان أوروبا)، يحمل التلويح الفرنسي بُعداً إضافياً يمكن أن يوحّد الصف الأوروبي أكثر ضد موسكو. ويأتي هذا على خلفية تزايد التوتر في الشرق الأوكراني، وبروز صوت موحّد للأوروبيين الذين طالبوا موسكو بسرعة سحب قواتها المنتشرة على الحدود مع أوكرانيا.
وفي سياق الإشارة إلى أن العقوبات الغربية تتّخذ منحى تصاعدياً ومساراً يستهدف إيقاع أوسع ضرر ممكن بروسيا، رجّح رئيس مجلس الدوما (النواب) الروسي فياتشيسلاف فولودين فرض عقوبات جديدة على روسيا في مجال الصناعة وقطاع الوقود والطاقة. ويعتقد فولودين أن الضربات ستوجه إلى «الصناعة وقطاع الوقود والطاقة من أجل وقف التنمية الاقتصادية لروسيا الاتحادية». إذ قال «لذلك؛ إذا اهتممنا بمصير بلدنا يجب أن نفهم أخيراً قيمة كل هذه الاتهامات الموجهة ضدنا، وعلينا جميعاً أن نبذل جهوداً لمنع التدخل الخارجي».
عقوبات واشنطن تهيئ
لمرحلة جديدة
في هذه الأجواء، جاء التلويح الأميركي - الأوروبي المشترك بفرض تدابير جديدة ضد روسيا على خلفية ملف المعارض اليكسي نافالني ليضيف عنصراً جديداً إلى مسار التصعيد. ففي 18 أبريل (نيسان) قال مساعد الرئيس الأميركي للأمن القومي جيك سوليفان، إنه «إذا مات نافالني في السجن فستكون هناك عواقب على روسيا». ورأى أن عقد اجتماع للرئيسين بايدن وبوتين مرهون بتوافر الشروط المناسبة.
جاء هذا التلويح على خلفية الترويج لتقارير تؤكد تدهور الوضع الصحي لنافالني في سجنه. وقال محاموه، إنه يواجه وضعاً حرجاً، وهناك مخاوف جدية على حياته. إلا أن موسكو أكدت، أن تلك التقارير لا تستند إلى أدلة، وشددت على أن الحالة الصحية لنافالني مرضية على وجه العموم. مع هذا، بدا أن إصرار واشنطن على التعامل مع روسيا بلغة الحصار والعزل وسياسة العقوبات سيهدد فرص عقد لقاء قريباً بين الرئيسين، وفقاً لمعلقين في روسيا. وكان بايدن اقترح قبل فترة قصيرة عقد لقاء في غضون أسابيع مع الرئيس بوتين لتسوية الخلافات ومنع تفاقم التوتر أكثر، ولكن اتبعت الإدارة الأميركية ذلك بفرض رزمة جديدة من العقوبات، في خطوة رأى فيها الروس «انعكاساً لتناقضات داخلية في إدارة بايدن»، وفقاً للمعلق السياسي في صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا»، الذي قال إن مراجعة القائمة الكاملة للعقوبات الأميركية الجديدة ضد الكرملين تظهر أنها على عكس الإجراءات المماثلة السابقة لا تتعلق فقط بالأفراد والمنظمات، بل أيضاً بمسعى مباشر للأضرار بالاقتصاد. وهو ما يعني أن المرحلة الجديدة قد تحمل - وفقاً للصحيفة - بداية «صفحة جديدة ومحزنة للغاية في العلاقات بين البلدين، عندما تكتسب المواجهة بين الاتحاد الروسي والولايات المتحدة طابعاً شديد القسوة بشكل تدريجي».
الوعود الانتخابية
في أي حال، بإصدار مرسوم العقوبات الجديد، يمكن القول إن بايدن أوفى بأحد وعوده الانتخابية. فخلال حملته الانتخابية تحدث عن الحاجة إلى التشدد تجاه روسيا، بعد وضع مراجعة كاملة لاتهامات واشنطن ضد موسكو. وأصدر أمراً مماثلاً في اليوم الثاني لتوليه منصبه. وتشمل العقوبات التي فرضها هذا المرسوم على جميع عناصر الاتهامات الأميركية ضد روسيا، باستثناء عنصر واحد يشير إلى أن المخابرات الروسية دفعت حسب ما يُزعم لمقاتلي حركة «طالبان» المحظورة في روسيا لقتل جنود أميركيين في أفغانستان، وهو أمر ستتعامل معه واشنطن بشكل منفصل. هذا يعني أن رزمة العقوبات الحالية ستتبعها عقوبات جديدة. وعادة، ترد واشنطن على الإجراءات ضد الجيش الأميركي من خلال البنتاغون. وفي هذه الحالة قد يكون الرد – مثلاً - الانسحاب من أي اتفاق مشترك في مجال الدفاع.
في غضون ذلك، تحدث مرسوم العقوبات الأخيرة عن مجموعة كبيرة من الإجراءات ضد المنظمات والمواطنين الروس. إذ فُرضت عقوبات على ست شركات روسية عالية التقنية، حُمّلت مسؤولية التورط في هجوم إلكتروني على وكالات حكومية أميركية. وتضم القائمة السوداء 32 فرداً وكياناً يُزعم تورطهم في «أعمال عدائية» ضد الولايات المتحدة. ويشير هذا إلى محاولة للتدخل في مسار الانتخابات الرئاسية لعام 2020. وكان هذا الأمر، بالذات، قد نوقش في تقرير مارس (آذار) لمكتب مدير المخابرات الوطنية الأميركية. وفي تلك الوثيقة، قيل إن روسيا «أرادت تقويض الثقة الأميركية بالمؤسسات الديمقراطية ولعبت في الواقع ضد بايدن، في محاولة لمنع فوزه». أيضاً، نص المرسوم الجديد على عقوبات في مجال انتهاكات حقوق الإنسان، وعقوبات أخرى مرتبطة بشبه جزيرة القرم، حيث جرى إدراج خمسة أشخاص وثلاث منظمات مرتبطة بشبه الجزيرة.
وتجدر الإشارة إلى بند المرسوم المتعلق بالسفارة الروسية. وبناءً عليه، فإن الولايات المتحدة تطرد 10 أشخاص من البعثة الدبلوماسية الروسية في واشنطن العاصمة بعد توجيه اتهام لـ«طاقم العمل الدبلوماسي يضم ممثلين عن الخدمات الخاصة الروسية». في المقابل، ردت موسكو بطرد عشرة دبلوماسيين أميركيين، و«نصحت» السفير الأميركي لديها بالعودة إلى بلاده للتشاور. كانت هذه الصيغة المخففة البديلة عن إجراء بطرد السفير، وهو أمر تلقفته واشنطن بهدوء وأعلنت أن سفيرها سيعود إلى موسكو في غضون أسابيع.