راشد المبارك: صالونه جمع أمراء وأدباء وطلاب جامعات

أرّقته طوال حياته حال «الكراهية» فكتب مؤلفًا خاصًا بعنوان: «فلسفة الكراهية»

راشد المبارك
راشد المبارك
TT

راشد المبارك: صالونه جمع أمراء وأدباء وطلاب جامعات

راشد المبارك
راشد المبارك

بين واحات النخيل وعلى ظلّها على أرض الأحساء الدافئة ولد الراحل الدكتور راشد بن عبد العزيز المبارك عام 1935 كان يعلم أن هذه الواحة الجميلة بجمعِها بين برد الظلّ والأعذاق، ولهب الرمال وعاتيات الرياح هي الرافعة التي ستجعله غيمة تهتزّ على أديمها الأرض فتهتز وتربو علمًا وعملا. عشق العلم والقلم والكتاب، احتفظ بأسئلته الصغيرة التي كبرت مع توجهه لدراسة الكيمياء والفيزياء، مصاحبًا في كل رحلات حياته العلمية مجال «الفلسفة» المحبب إليه، أخذ شهادته الجامعية من كليّة العلوم بجامعة القاهرة في عام 1964. ثم حاز على دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء الجزيئية من جامعة مانشستر في خريف عام 1969. وأخذ الدكتوراه في كيمياء الكم من جامعة جنوب ويلز بمدينة كاردف عام 1974، ستكون كل رحلته هذه من المدرسة إلى الدكتوراه ومن ثمّ التدريس في كلية العلوم بجامعة الملك سعود مجرّد قشرة في أرض تجربة المبارك العلميّة والعملية.
من الصعب أن يتخذ قناعة حول موضوعٍ علمي، فالأسئلة الزاحفة مثل الرمال لا تجعله يقف على إجابة مدافعًا عنها، لكن حين تتشكّل له الرؤية يكون مدافعًا لا يلين، يصحّ هذا على معاركه حول شاعريّة المتنبي، وبحوثه حول نزار قباني، وكتاباته في المعرّي، ولديه معاييره في النقد الأدبي وهي معايير مخاتلة وذكية، فهو يقرأ الأدب بأدواتٍ لا تقتصر على التقليدي المطروح، بل يعاند ويستخدم حتى مجالاته العلمية والفلسفية في النظر بالمعنى الشعري، والمغزى الوظيفي للكلمة والعبارة والمقولة.
في صالونه الثقافي «الأحدية» الذي بدأ عام 1981 وحتى رحيله كان محاورًا بارعًا، وقد رأيته وهو يناقش الدكتور حمزة المزيني، وإبراهيم البليهي، وتركي الحمد، وعبد الملك مرتاض، وعبد القدوس أبو صالح، وعبد الله الغذامي، لديه رصيده العلمي وحججه وأساليبه في الإقناع والمحاججة، ولا تذكّرك هذه الأحدية إلا بما تقرأ عن صالون العقاد في مصر، أو مجلس غوته في ألمانيا، أو مجالس الملوك في أوروبا حيث الحوار حول العلم والمعرفة والنظرية والأدب والتاريخ.
وفي أواخر شهر مايو (أيار) 2007 دخل بهدوء ولي العهد الراحل الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى صالون راشد المبارك، سلّم على الحاضرين بسرعة وجلس، ومن ثم شارك المثقفين والحاضرين النقاش والحوار، وبثقل تلك الشخصية السياسية الكبيرة تحدّث عن أي مقترحٍ يدور في ذهنٍ أي من الجالسين لدفع مسيرة البلاد نحو أفضل الصيغ التي تؤدي إلى راحة الناس وقضاء مصالحهم وبناء مؤسساتهم. كان صالونه مزارًا لهرم الدولة ولطلبة الجامعات وللأكاديميين والأدباء والمؤرخين، كان مجلس الراحل يشبهه، قليل التكلف سهل الحضور، لا تشعر بحرجٍ أو ملل، كما أن كل ضيفٍ في صالونه هو مهم للمضيف بغض النظر عن فارق السن أو المكانة أو الشهادة الأكاديمية.
ومع تبني الراحل راشد المبارك للمناهج الحديثة، وتأييده للأنظمة المؤسساتية، ومساندته للأنماط الليبرالية، وتوجهه نحو تفسير «العلمانية» بوصفها لا تتعارض مع الدين، غير أنه انفتح على كل التيارات، جمع بين صداقات متضادة في الاتجاه والتعبير. وفي مجلسه يجتمع عبد القدوس أبو صالح وحمزة المزيني، ويستضيف الكل بنفس المستوى من البشاشة والترحيب، ذلك أنه آمن أن الحوار والتواصل هو الأساس لبناء أرضية ثقافية في المجتمع السعودي.
يصف الراحل ندوته بأن هدفها: «إقامة جسور بين حقلين من المعرفة، هما العلوم الكونية، التطبيقية والعلوم الإنسانية، وتزويد المختص في أحد جوانب الحقلين بشيء من المعرفة عن حقل الطرف الآخر تقترح الأحدية برنامجها من خلال المشاركين فيها فتحدد الموضوعات التي يرى المشاركون تناولها ويوكل الحديث في كل موضوع إلى متخصص يعطى فترة كافية ليتمكن من خلالها من إعداده في الندوة لمدة ساعة واحدة ثم يبدأ النقاش، الندوة ليست مقتصرة على فئة بل هي مفتوحة لكل قاصد ووافد».
أرّقته طوال حياته حال «الكراهية» فكتب مؤلفًا خاصًا بعنوان: «فلسفة الكراهية» طبع عام 2001 كان العالم حينها يقف على قدمٍ واحدة جراء الضربات القاسية التي تلقّتها الدول والمجتمعات من ممارسات تنظيم القاعدة. خلاصة رؤيته حول الكراهية يوجزها بقوله: «العنف هو أحد مظاهر الكراهية، وإحدى وسائل التعبير عنها، وهو إحدى نتائج الكراهية وثمرة من ثمارها، فموقعه موقع النتائج من المقدمات، على أن العلاقة بين الاثنين - العنف والكراهية - علاقة يحكمها قانون الجدل فالكراهية تنتج العنف والعنف يورث كراهية أو يزيدها أو يوسع من دائرتها إنه شيء يمثل بمتوازنة الفعل العكسي (كراهية تنتج العنف، وعنف يورث الكراهية)».
حين زار المبارك مصر كان العلمان البارزان آنذاك هما سيد قطب وعبد الله القصيمي، ويشير في حوارٍ مطوّل معه نشر في «عكاظ» في 17 - 7 - 2004: «ذكرُ عبد الله القصيمي وشهرته سبقت وصولي إلى مصر، وكان يأتي أحيانًا إلى دار البعثات، وكان يأتي إلى السفارة السعودية، وقد التقيت به أول مرة في السفارة السعودية، فعرفته وكان بيننا تواصل خلال إقامتي في القاهرة، وكنا نتبادل الزيارات ولم ينقطع الاتصال بيننا إلى أن تركت مصر... كانت له ندوة، وكان أغلب الذين يأتون إلى مصر يغرمون برجلين اثنين متبايني الاتجاهات هما: عبد الله القصيمي وسيد قطب، كانت مجموعة تلتف حول عبد الله القصيمي وتأخذ منه، وتقابلها مجموعة أخرى تلتف حول سيد قطب وتأخذ عنه».
المفارقة أن الراحل زار قطب والقصيمي، ويشير هو إلى عجب رجال الأمن المصري حينها واشتباهه إذ كيف يزور المبارك هذين الرجلين معًا على ما بينهما من فرق جذري بل جوهري، لكنه الفضول حيث أراد تجاوز الحدّية الشعبية في الاطلاع على ما يطرح في المجتمع المصري حينها.
أرّقته هموم مجتمعه المتصلة بالمجال الديني والخطاب الفقهي، وفي كتابه «أوراق ودفاتر لم تقرأ» (ص: 96) يتحدّث بمرارة، معترفًا بأنه يصاب بالدهشة والأسى وهو يرى جهودًا مضنية تصرف عن العمل للمقاصد الكبرى التي تقوم بها الأمم، وتبنى بها المجتمعات، إلى جزئيات من الأمر تتخذ موضوعًا للشقاق والمنازعة، ويكون مما يثير الخصومة مثلا موضع اليدين من الصدر في الصلاة، والثوب أيطول أم يقصر، والمرأة تبدي وجهها أم تخفيه، وسماع نغمٍ هل يحل أم يحرم.
ويستمر في هذا النقد الواضح في كتاباته الأخيرة ومنها مؤلفه: «من قضايا المجتمع السعودي» وفي الصفحات الأولى يتحدّث عن القمع الذي يمارسه من يحتكر الاختصاص بالشريعة تجاه بقية المسلمين الذين يريدون التحدث بشؤونهم، معتبرًا أن من يحمل أعلى الشهادات من كلية الشريعة لا يجوز أن يقال عنه أنه متخصص في الشريعة إلا من باب المجاز ذلك أن موضع دراسته وما أعطي من أجلها شهادته هو بحث في إحدى جزئيات الشريعة الصغيرة جدًا مثل تصرف الفضولي، أو الولاية على القاصر أو المسؤولية الطبية أو ما إلى ذلك.
من أكثر الكتب تعبيرًا عن الراحل المبارك كتابه: «هذا الكون ماذا نعرف عنه» أراد منه نشر المعرفة بالطبيعة، وحاول جهده أن يجعل النظريات المعقّدة بمتناول القارئ العادي، والكتاب أقرب الكتب شبهًا بمؤلفه ذلك أنه توّاق دائمًا حتى رحيله بالاستزادة من الفهم للكون والتفاصيل العلمية التي تطرح حوله، لئلا يكون العربي والمسلم غائبًا عن العلم، وقاصرا عن الفهم. في مداخلاته التي تعقب محاضرة الضيف بأحديته كان كثيرًا ما يتحدث عن علاقة العرب بالعلوم بمرارة، وكانت نبرة صوته تزداد حدة حين يتحدّث عن اهتمام العرب بصناعة الكلام بدلا من صناعة المعرفة والعلم.
خلاصة مرارة الراحل تجاه هذا الخلل يلخّصه بصرامة العالم الذي يريد لمجتمعه أن يستيقظ يكتب في (ص: 22) من الكتاب: «وعلى الرغم مما جاء في القرآن من الدعوة إلى التفكير في جوانب هذا الكون وتأمل أسراره وسننه، فقد وقف الفرد العربي عند (قفا نبك) وقوفًا طال به حتى أصابه بما يشبه الشلل المعجز عن الحركة إلى الآفاق الأخرى من المعرفة، واحتلت (قفا نبك) ومثيلاتها من عقل الفرد العربي ووجدانه مكانة تقرب من القداسة، وصار على كل فردٍ من قبل أن توضع جمهرة أشعار العرب وحتى الوقت الحاضر، أن يروض مداركه وتذوقه لكي يحس ويتبين السمو الوجداني والبياني في مثل: (ترى بعر الآرام في عرصاتها) و(تظلّ العذارى يرتمين بلحمها وشحم) و(تقول وقد مال الغبيط بنا معًا: عقرت بعيري) إنه شيء طبيعي ومنتظر أن يكون محصلة هذه القوى المتجهة إلى نقطة واحدة هو الاهتمام والانصراف إلى صناعة الكلام».
كان الراحل المبارك على غرار الفلاسفة الكبار «حياتهم هي فلسفتهم»، ومع قيمة كل الذي كتبه طوال الثمانين عامًا، غير أن النبل والمروءة والخلق الرفيع والتواصل وقيم الحوار هي أبرز ما تركه للجيل الذي عايش صالونه الأدبي وتابع أفكاره ومقالاته، كان مستقيمًا كالسهم، لا يسبق كرم بيته إلا كرم خلقه، وخلال آلامه وتعبه في السنوات العشر الأخيرة بقي كما هو يتواصل ويحاور ويناقش، تعلّمت منه أجيال كاملة، فهو رجل تقريب لا تفريق، ونمط سلم وحوار، ولم يكن شتّامًا ولا هجوميًا، بل كان يقول كلمته ويمضي.
بين الأحساء والرياض، طوى الأدب والخلق، ولا عجب فهو من أسرة اشتهرت بالعلم والمعرفة.
كان طوال حياته توّاقًا إلى الارتواء من الحب، متعطشًا للسلام، وأبلغ من يصفه شعره:
خَفَقَاتٌ مِنْ جَنَاحٍ عَاشِقٍ
أَيْكَة تَخْضَلُ فِي بَوْحٍ كَنَارْ
قَطَعَ العُمْرَ حَنِينًا ظَامِئًا
لِنَدًى، وَرْدٌ إِلَى ذَوْبِ نَضَارْ
بَاحِثًا فِي عَطَشٍ، فِي لَهْفَة
عَنْ يَنَابِيعَ، وَعَنْ ضَوْءِ نَهَارْ
يَا حَنِينَ الضَّوْءِ أَظْمَأْتَ الظَّمَا
فِي حَشَاشَاتِي، وَأَبْعَدْتَ المَدَارْ.



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».