كانت إمارات الفزع تتشكل على وجوه المذعورين من الأزمة الاقتصادية خارج غرفة اجتماعات العهد القيصري ذات الثريا في مقر البنك المركزي الروسي. كان سكان موسكو يتحررون في يأس من عبء الروبل الذي يفقد قيمته على نحو متزايد، ويبتاعون، في هوس محموم، أجهزة التلفزيون، وغسالات الملابس، والمعاطف الشتوية، وغيرها من البضائع.
وفي الوقت الذي كانت فيه إلفيرا نابيولينا يتلقى الملاحظات من مساعديه حول انهيار العملة خلال اجتماع ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ظلت على نفس منوال خطابها، من حيث تمجيد فضائل انهيار تداول الروبل لمدة عقدين من الزمان وإفساح الطريق أمام قوى السوق.
ويتذكر أحد المصرفيين بعضا من حديثها خلال الاجتماع المغلق فيقول: «كانت رسالتها: إننا لا نستهدف المعدل، سوف يفعل الروبل ما يفعله دوما». ولقد ظل التزام إلفيرا نابيولينا قيد الاختبار بصفة يومية.
تعد السيدة نابيولينا، المنظرة الاقتصادية النحيفة والمولعة بالكتب، من المؤمنين الصارمين بمزايا التغير المرن في سعر الصرف وفي العملة الضعيفة كذلك، إذا ما فرضت قوى السوق ذلك بالطبع. وقد دافعت عن موقفها هذا بابتهاج شديد حتى مع كون الروبل هو ثاني أقل العملات العالمية من حيث الأداء خلال العام الماضي. ولم تفقد أي عملة المزيد من قيمتها إلا عملة روسيا البيضاء التي تحمل ذات الاسم.
قالت إلفيرا نابيولينا للبرلمان الروسي خلال الخريف الماضي: «من المستحيل تماما السيطرة على سعر الصرف مع محاولة الحفاظ على قدر من التوجيه. ليس من الممكن محاربة العوامل العالمية الأساسية. إنه إجراء توازني خادع بالفعل».
ومع اشتداد الاضطرابات، تحافظ أسعار الفائدة المنخفضة على تعويم البنوك، في مقابل التضحية بالروبل. أما رفع أسعار الفائدة سوف ينقذ الروبل، ولكنه يؤدي إلى تعميق الركود الاقتصادي.
عمل البنك المركزي على خفض أسعار الفائدة بصورة غير متوقعة أواخر يناير (كانون الثاني). وتشير تلك الخطوة إلى أن روسيا تتعامل مع المشكلات المصرفية وضعف الأداء الاقتصادي باعتبارها من الأولويات الأكثر إلحاحا من مشكلات الروبل ذاته.
كما سُلطت الأضواء مجددا على استعداد نابيولينا، فيما يبدو بموافقة من الرئيس فلاديمير بوتين، للتراجع عن الدفاع عن الروبل، والذي يعاني حاليا من أسوأ حالات الهبوط منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. والروبل، الذي يتداول حاليا عند 66 نقطة مقابل الدولار، قد فقد ما يقرب من نصف قيمته خلال العام الماضي.
وفي إشارة لجدول محافظة البنك المركزي المزدحم، رفضت الإدارة الصحافية في البنك السماح بمقابلة نابيولينا.
يأتي قرار السماح بسقوط الروبل لقاء تحقيق أهداف اقتصادية أخرى بوصفه واحدة من سياسات الكرملين القليلة الثابتة. في مواجهة أسعار النفط المنهارة والعقوبات الغربية المفروضة على السياسة الروسية تجاه أوكرانيا، فإن سقوط الروبل من الأمور المؤلمة، ولكنها لازمة، كخطوة لإبعاد روسيا عن حظيرة الواردات.
يبدو أن الارتباك قد صار غالبا في مواقع أخرى من الحكومة الروسية. خلال الشهر الماضي، أفرد أنطون جي سيلوانوف، وزير المالية الروسي، ميزانية «مكافحة الأزمة» التي وعد بها منذ فترة طويلة، مطالبا بتخفيضات تقدر بنسبة 10 في المائة. ولكن أليكسي في أوليوكاييف، وزير الاقتصاد، كان قد أعلن في وقت سابق أنه لا حاجة لتنفيذ أية تخفيضات في الميزانية. إن سياسة البنك المركزي تدفع بالبلاد إلى هوة الروبل الضعيف. كما يقول بليز سي إنتين، مدير الحافظة لدى مؤسسة تي سي دبليو: «إذا ما انخفضت قيمة الروبل سريعا، فسوف يكون الأمر عسيرا بحق على البنك المركزي الروسي لعكس الأداء ورفع شعر الفائدة الآن». إن احتضان إلفيرا نابيولينا للروبل الضعيف يدعو إلى تركيز أكثر وضوحا، حيث يُنظر إليه من خلال عدسة تاريخية اقتصادية روسية حديثة.
فهناك سنوات من النمو الاقتصادي أعقبت انخفاض قيمة الروبل منذ عام 1998، حيث أدى الروبل الضعيف إلى تخفيض التكاليف على المصانع والمزارع الروسية. ووفقا لبعض التقديرات، وفر قدرا من انتعاش الاقتصاد أكثر مما وفرته أسعار النفط المرتفعة خلال فترة الرئاسة الأولى للسيد بوتين بين عامي 1999 و2004. تحول الجانب المشرق لانهيار العملية الروسية إلى درس للاقتصاديين الروس من ذلك الجيل، كما أنه يعد تأثيرا كبيرا على البيئة الراهنة هناك. في حين أن البنك المركزي قد غازل الاحتياطي الروسي من العملات الأجنبية للدفاع عن الروبل، كان يمكنه إنفاق المزيد، غير أنه لم يفعل. حيث لا يزال البنك محتفظا بما يقرب من 385 مليار دولار من الذهب واحتياطي العملات الأجنبية.
كانت تلك النقطة التي أشارت إليها إلفيرا نابيولينا في يوم انهيار الروبل إثر حالة الذعر التي صاحبت مبيعات يوم 16 ديسمبر، حيث غادرت إلفيرا نابيولينا الاجتماع مع محللي البنوك التجارية لتعقد مقابلة مع التلفزيون الروسي مما جذب الاهتمام إلى الجانب المشرق من الكارثة، حيث صرحت لـ«تلفزيون 24» الروسي تقول: «علينا أن نتعلم كيفية الحياة في نطاق مختلف. وينبغي على الشعب الروسي توجيه أنفسهم ناحية مصادرنا من التمويل، ومشاريعنا، وإعطاء الفرصة لبدائل الاستيراد».
في روسيا، كانت إلفيرا نابيولينا من المطلعين على بواطن الأمور ومن غير المنتمين إليها في ذات الوقت.
فقد عملت لأكثر من عشر سنوات بالقرب من الدائرة الداخلية وثيقة الصلة بالكرملين، حيث أصبحت عقب خدمتها كوزيرة للاقتصاد، كبير المستشارين الاقتصاديين للسيد بوتين في عام 2012. كما سُميت محافظة للبنك المركزي الروسي في يونيو (حزيران) من عام 2013.
ومع ذلك، وبين زمرة كبار المسؤولين، فإن إلفيرا نابيولينا (51 عاما)، تبرز من كونها امرأة ومن عرق التتار، وليس أقل من دعمها المستمر للسياسات الموجهة نحو السوق في النظام الخاضع لسيطرة الدولة. وهي جزء من فصيل الاقتصاديين الليبراليين في الكرملين، أي من غير المفضلين على نحو متزايد.
يقول إيفان تشاكاروف، كبير الاقتصاديين الروس لدى مجموعة سيتي في موسكو: «بالنظر إلى كل الشكاوى التي طرحها الغربيون حول المؤسسات في روسيا، فإن البنك المركزي هو إحدى المؤسسات التي تعمل بصورة جيدة فعلا. حينما يرتفع الضغط طلبا للتلطيف، فإنهم يشددون قبضتهم بدلا من ذلك».
إحدى النتائج المعجزة لسياسة الروبل الضعيف كانت بقاء ميزانية روسيا، المعتمدة على النفط بشكل كبير، قيد الاتزان على الرغم من الانهيار الساحق لأسعار النفط. وذلك يعود إلى أن سعر النفط وسعر الروبل فقدا سويا 50 في المائة من قيمتهما في نفس الوقت. مما يعني أن برميل النفط الواحد يجلب للكرملين نفس عدد الروبلات التي كان يجلبها قبل عام مضى.
وتم بالفعل تعويم بعض الشركات، على نحو منافٍ للمنطق، نظرا للتوقعات الكئيبة للمستثمرين في روسيا مؤخرا. ومع بقاء التكاليف بالروبل وأرباح التصدير بالدولار، فإن مؤسسة صناعة الصلب سيفرستال تتمتع بسيول نقدية كبيرة، حيث أعادت شراء سندات بقيمة 600 مليون دولار مستحقة السداد خلال العامين المقبلين. كما أن شركة صناعة الصلب الروسية الثانية (إيفراز)، تحاول إعادة شراء سندات بقيمة 750 مليون دولار قبل ميعادها المحدد لهذا العام.
وبالنسبة لمنتقديها، فإن إلفيرا نابيولينا قد خذلت حارسها على أموال الأمة، فقد وصف أحد أعضاء البرلمان الروسي، من حزب روسيا المتحدة الحاكم، البنك المركزي بأنه «عدو الأمة». وأضاف أن الفريق القائم على تحديد سعر الفائدة يقوم بأفعال «شريرة».
ومن غير الواضح إلى أي مدى يمكن لإلفيرا نابيولينا الصمود، حيث يتزايد السخط حول سلبية البنك المركزي. خلال الشهر الماضي، قدمت السيدة كسينيا يوديفا، كبيرة مساعدي السيدة نابيولينا، وخبيرة الاقتصاد المتخرجة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، استقالتها من منصبها كمدير للسياسة النقدية، وقد أفاد بعضهم بأنها قد أجبرت على ذلك. وقد خططت السيدة يوديفا جنبا إلى جنب مع إلفيرا نابيولينا التحول إلى التعويم الحر. وقد شغل منصبها أحد الاقتصاديين، ديمتري تولين، الذي خدم في البنك المركزي للاتحاد السوفياتي.
مع مرور الوقت، قد تنتعش سمعتهم، على حد تصريح روبرت شليغل، أحد أعضاء البرلمان في مقابلة أجريت معه: «إن من لديهم أعباء المسؤوليات الكبرى غالبا ما يعانون مزيدا من الانتقادات».
* خدمة «نيويورك تايمز»
تهاوي الروبل اختبار حاسم لمحافظة البنك المركزي الروسي
إلفيرا نابيولينا في عين الإعصار
تهاوي الروبل اختبار حاسم لمحافظة البنك المركزي الروسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة