بغداد تعيد تنظيم أولوياتها في ضوء العلاقة بين واشنطن وطهران

مع إقرارها بفشل «وصفة عام 2003»

رغد صدام حسين
رغد صدام حسين
TT

بغداد تعيد تنظيم أولوياتها في ضوء العلاقة بين واشنطن وطهران

رغد صدام حسين
رغد صدام حسين

ثلاث وقائع مهمة طغت على شواغل العراقيين خلال الأيام الماضية، هي: أولاً الصواريخ التي سقطت في الخامس عشر من شهر فبراير (شباط) الحالي على مطار أربيل، ثم في العشرين منه على «المنطقة الخضراء» حيث مقر السفارة الأميركية في بغداد. وثانياً المقابلة الصحافية التي أجرتها قناة «العربية» مع رغد صدام حسين التي خلطت الأوراق من جديد بعد 18 سنة من الحكم الذي تولته المعارضة العراقية على أيدي الأميركيين، بعد إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق. وثالثاً الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.

الوقائع الثلاث، صواريخ أربيل و«المنطقة الخضراء»، ومقابلة رغد صدام حسين، واتصال جو بايدن بمصطفى الكاظمي أعادت أشياء كثيرة إلى الواجهة من جديد في العراق، وأكدت من جانب آخر أن منظومة الحكم الموصوف بـ«الديمقراطي»، بعد إسقاط صدام حسين ونظامه، تعاني من خلل كانت أجبرت أكبر زعامات البلاد إلى الإقرار به، وسماه الرئيس العراقي برهم صالح «وصفة ما بعد عام 2003».
نعم، ثمة مشكلة في هذه «الوصفة» التي يمكن أن تهتز لمجرّد حوار صحافي مع امرأة - حتى لو كانت ابنة صدام حسين - أو تعيد رسم سياساتها صواريخ «مجهولة المصدر» تسقط هنا وهناك، أو تعيد تنظيم أولويات سياساتها في ضوء مكالمة هاتفية من زعيم أجنبي. وقبل أقل من أسبوعين، في ذكرى «يوم الشهيد»، أجمع قادة الخط الأول في العراق، بدءاً من شاغلي الرئاسات الثلاث على الإقرار بأن وصفة الحكم التي اعتمدت بعد الاحتلال الأميركي للبلاد في أبريل (نيسان) عام 2003 فشلت في بناء دولة متماسكة تتسع لكل العراقيين.
الرئيس برهم صالح قال إن «العراق أمام مفترق طرق، فإما العودة إلى الوراء بنزاعات واصطفافات مذهبية وقومية، وإما التقدم نحو بناء الدولة وحفظ سيادتها وفرض القانون على الجميع». وأردف: «ما يجري في المنطقة والعالم من تحوّلات جذرية وما يطمح إليه شعبنا يتطلب التكاتف منا والعطف على جراحاتنا لإيصال الوطن إلى بر الأمان».
وكرر صالح، من ثم، دعوته إلى «عدم السماح بجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية». كذلك أن الحاجة باتت ماسة لمراجعة «مجمل العملية السياسية والتأسيس لعقد سياسي جديد يتضمن تصحيح المسارات ويلبي طموحات الشعب».
رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قال، من جهته، إن «الحكومة تحاول استعادة منهج الدولة وثقة المواطنين». وأضاف: «عملنا على إعادة بناء الدولة منذ اليوم الأول لتولي رئاسة الحكومة، وليس إضعاف القوى السياسية». وتابع الكاظمي موضحاً أن «الشعب العراقي كان قد وصل إلى اليأس من إمكانية أن تنجز الدولة التزاماتها أمام شعبها، ولذلك رفعت هذه الحكومة شعار الدولة، وعملنا على بناء الدولة واستعادة منهج الدولة».
أما رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، فأكد في كلمته أنه «من الضروري الوقوف على الانتهاكات بحق المواطنين بسبب السلاح المنفلت»، مبيناً أن «الإرهاب والفساد أخّرا مشروع بناء الدولة». واستطرد قائلاً إن «التراجع الاقتصادي سيقوض جهود بناء الدولة».
في حين شدد رئيس تحالف «عراقيون» عمار الحكيم على ضرورة «بلورة عقد سياسي واجتماعي جديد بإزالة التراكمات والمخاوف الاجتماعية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية». وتابع أن «الدولة ليست حكراً على أحد»، داعياً «جميع قوى الاعتدال والدولة إلى تحالفات عابرة للمكونات وتصنع معادلة النجاح».

- نأي بالنفس عن الفشل
بشأن فشل هذه الوصفة، يرى الدكتور إحسان الشمّري، رئيس مركز التفكير السياسي في العراق، خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن «هناك مَن يريد النأي بنفسه عن طبيعة فشل العقد السياسي السابق والنظام برمته وما نتج عنه من أخطاء. كما أن هناك من يحاول إيصال رسالة بأن لديه القدرة على أن يكون جزءاً من عملية الإصلاح في قادم الأيام... ويمكن أن يستثمر ذلك انتخابياً». وأوضح الشمري أن «ما يرتبط بالعديد من هذه الأطراف السياسية أن هذا النظام السياسي لم يعد قادراً على الاستمرار، وهو ما يمثل حلاً لأزمة العراق المستدامة». وأكد أنه «بقدر ما تبدو فيه مثل هذه النيات صادقة لبعض هذه الأطراف، فإن هناك أطرافاً أخرى تريد الاستمرار بالمشهد السياسي القادم، خصوصاً أن هناك تغيراً ملحوظاً في المزاج العام... وأن هذه القوى فشلت في إدارة الدولة، لكنها (مع ذلك) تريد الاستمرار في المشهد ذاته».
وأوضح الشمري أن «هذا الحديث عن التغيير، وفشل الوصفة السابقة، بات يتناغم في الواقع مع الرؤية الدولية التي باتت تنظر إلى العملية السياسية في العراق على أنها أصبحت عبئاً على المجتمع الدولي. وبالتالي، فإن هذا الفشل إنما هو نتاج هذه الصراعات والانقسامات، ولذا تحاول هذه الأطراف مجتمعة أن توصل رسالة إلى المجتمع الدولي بأن لديها القدرة على تغيير النظام السياسي الحالي».

- صواريخ رغد العابرة
البعض يرى أن التجلي الأكبر لفشل «وصفة ما بعد عام 2003» في العراق هو تناولها بالتفصيل قادة الخط الأول من الزعامات العراقية، وبصراحة لفتت نظر المراقبين والمتابعين في الوقت نفسه. ومع أن هناك الكثير من ملامح الفشل على المستويات المختلفة، في مقدمها الجوانب الاقتصادية والخدمية فضلاً عن تفشي الفساد - الذي جعل العراق في ذيل قائمة الشفافية الدولية سنوياً - فإن الوصفة التي تحدث عنها القادة لم تنتظر كثيراً حتى وجدت مَن يجسدها على أرض الواقع. إذ خلال المقابلة التي أجرتها قناة «العربية» وعلى مدى 6 حلقات مع ابنة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ظهر جلياً مدى الهشاشة التي تعانيها الطبقة السياسية العراقية. وبينما كان متوقعا انشغال وسائل التواصل الاجتماعي التي كان يمكن أن تقتصر على شكليات اللقاء، جاء انشغال الطبقة السياسية العراقية، من منطلق «نظرية المؤامرة»، بشأن توقيتها والأهداف المرتبطة بها، ومن ثم خرجت من مجرد تعليقات على مواقع التواصل إلى ما هو أبعد من ذلك سياسياً. وفي حين لم تكن رغد تقصد الكثير مما تناولته، فإن هذا الانشغال بما صدر عنها، وما حمله من تأويلات وتفسيرات مختلفة، جعلها - ربما - تعيد النظر فعلاً بما صدر عنها. وبالتالي، يتحول من مجرد كلام جاء عفوياً، طبقاً لنوعية الأسئلة التي وُجهت لها، إلى تفكير بما يمكن أن يحمله المستقبل من مفاجآت. ولعل من بين أبرز النتائج التي ظهرت سريعاً باتجاه التحشيد المضاد لما صدر عن المقابلة هي الدعوة التي تبنّاها «التيار الصدري» لإعادة النظر بمسألة اجتثاث البعث وإعادة تفعيلها مجدداً.
والمعروف أن «هيئة اجتثاث البعث»، أُنشئت بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، كجزء من «قوانين العدالة الانتقالية»، وحملت فيما بعد - كجزء من عملية التوافق السياسي - تسمية جديدة هي «المساءلة والعدالة» طبقاً لتشريع من البرلمان العراقي عام 2009. لكن الآن ظهرت الدعوات باتجاه عودة «هيئة اجتثاث البعث» بحجة أن هناك البعثيين الذين لا يزالون في أهم مؤسسات الدولة، ومن ثم، قد يشكلون مادة لأي حراك مستقبلي، ما دام جزء مما تناولته رغد صدام حسين هو إمكانية تشكيل «حكومة ظل» أو الدخول في العمل السياسي الذي اختزلته بعبارة حمّالة أوجه، هي «كل شيء وارد».

- صواريخ «الخضراء» توقظ بايدن
وبالنسبة للواقعة الثالثة، نذكر أنه عندما فاز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأميركية أمطرته الطبقة السياسية العراقية، ولا سيما قادة الخط الأول، بوابل من برقيات التهنئة.
برقيات التهنئة تخطَّت البعد البروتوكولي، حيث كان ينبغي أن تقتصر على برقية من الرئيس العراقي ورئيس الوزراء، إلى كمّ كبير من برقيات التهنئة من رؤساء وزراء سابقين إلى قادة أحزاب وكتل ومكوّنات. والسبب في ذلك أن بايدن، سواء عندما كان سيناتوراً أو نائباً للرئيس، يُعد «صديقاً تقليدياً» للعراق، وكان قد زار العراق مرات عديدة، وطرح رؤيته في وقت مبكر للمشكلة السياسية في العراق، التي تتمثل بتقسيم البلاد إلى ثلاث دويلات على أسس طائفية - عرقية (شيعية وسنية وكردية).
ولكن، لاحقاً، بدا أن بايدن، الرئيس المتقدم في السن اليوم، ما عاد بايدن عضو مجلس الشيوخ أو نائب الرئيس. وهو في حين أحجم عن الرد على الكم الهائل من برقيات التهنئة، فإنه كان قد تجاهل العراق تماماً، سواءً في أول خطاب له عند تنصيبه رئيساً، أو في خطبه وتصريحاته التالية. وبما أنه بدا أن للرئيس الأميركي الجديد أولويات أخرى، على رأسها الصين وروسيا والملف النووي الإيراني وإنهاض حلف شمال الأطلسي «ناتو»، فإن العراقيين شبه غسلوا أيديهم منه، بعكس ما كان عليه الوضع الرئيس السابق دونالد ترمب.
غير أن المفاجأة الكبرى من بايدن كانت المكالمة الهاتفية التي أجراها مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. وهي كانت من أولى االمكالمات مع قادة المنطقة، ما يعني أن بايدن لم يشطب العراق من سلم أولوياته وقد اختار لحظة فارقة لكي يعيد العراق إلى وضعه الطبيعي في خريطة اهتمامات واشنطن. إذ جاء الاتصال بعد قصف مطار أربيل بـ14 صاروخاً، وبعدها بأيام قلائل قصف «المنطقة الخضراء» في بغداد، حيث مقر السفارة الأميركية.
المكالمة الهاتفية التي أجراها بايدن مع رئيس الوزراء العراقي قالت عنها السفارة الأميركية في بغداد إن الرئيس الأميركي أكد فيها «على دعم الولايات المتحدة لسيادة العراق واستقلاله، وأشادَ بقيادة رئيس الوزراء». كذلك أشار البيان إلى أن الرئيسين «ناقشا الهجمات الصاروخية الأخيرة ضد أفراد القوات العراقية وقوات التحالف. واتفقا على ضرورة مُحاسبة المسؤولين عن هذهِ الهجمات بالكامل، كما ناقشا معاً أهمية دفع عجلة الحوار الاستراتيجي بين بلدينا وتوسيع التعاون الثُنائي في القضايا الرئيسية الأخرى». وتابعت السفارة أن «الرئيس (بايدن) وافق على دوامِ الاتصال الوثيق مع رئيس الوزراء (الكاظمي) خلال الأيام والأسابيع المُقبلة».
الكاظمي، من جهته، في تغريدة له على موقع «تويتر» كتب قائلاً: «بحثت في اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي جوزيف بايدن تطوير العلاقات الثنائية، وتعزيز الشراكة بما يخدم مصلحة البلدين، والعمل على دعم الأمن والسلم في المنطقة، واستمرار التعاون في محاربة (داعش)». وأضاف: «كما أكدنا العمل لمواصلة الحوار الاستراتيجي بين بلدينا على أساس السيادة الوطنية العراقية». وفي تفسيره للمكالمة الهاتفية التي أجراها بايدن مع الكاظمي، يقول الدكتور حسين علاوي، أستاذ الأمن الوطني في كلية النهرين ورئيس «مركز أكد للشؤون الاستراتيجية والدراسات المستقبلية» لـ«الشرق الأوسط» أن اتصال بايدن بالكاظمي {دلالة على اهتمام الحكومة الأميركية بالعراق. وهو رسالة إلى دول منطقة الشرق الأوسط في ظل الـ100 يوم الأولى من عمر الحكومة الأميركية».

- شراكة أمنية واقتصادية
وأضاف علاوي أن «الحوارات تدل على تبادل وجهات النظر باتجاه الشراكة الأمنية والاقتصادية، لمواجهة المجموعات الخاصة التي تستهدف البعثات الدبلوماسية، وتحرج التزامات الحكومة العراقية، باتجاه توفير الأمن للبعثات الدبلوماسية وضرورة محاسبة الجناة وفقاً للقانون العراقي». وأوضح أن «الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة بدعم سيادة العراق وأمنه القومي في ظل الصراع المحتدم ما بين الجانبين الأميركي والإيراني»، لافتاً إلى أن «العراق بات يمثل نقطة محورية في فريق الأمن القومي الأميركي نتيجة الخبرة والقدرة على تفهم المشكلة العراقية، ولكون الجميع عمل أو لامس أو شارك في الملف العراقي». ومضى علاوي شارحاً أن «بايدن أراد بهذا الاتصال أن يعطي للعراق إشارة كبيرة إلى أن أمن العراق مهم للولايات المتحدة الأميركية، وهو أولوية أساسية بعد إسرائيل».
وفي السياق نفسه، يقول الدكتور غالب الدعمي، أستاذ الإعلام في كلية أهل البيت بالكوفة، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إن «اتصال بايدن بالكاظمي يعني من حيث المبدأ أنه وضع العراق في محل الاهتمام الأول، مقارنة بالاهتمامات السابقة في زمن الرئيس السابق دونالد ترمب». وأضاف أن «هناك مسألة أخرى مهمة، وهي أن الاتصال رسالة قوية للخلايا النائمة، التي تستهدف بين آونة وأخرى البعثات الدبلوماسية في بغداد، أو تستهدف كردستان بالصواريخ، حيث إن هذا يوضح أن أميركا جادة في التعامل مع هذه التهديدات وأخذها على محمل الجد ووضع حد لما يحصل». وتابع أن «جزءاً من المفاوضات التي ستجريها أميركا مع إيران ليست فقط البرنامج النووي، إنما أمور أخرى مهمة، مثل سحب وجود إيران من البلدان حيث لديها نفوذ كبير فيها الآن، ومن بينها العراق، وهو ما يعني أن بايدن سوف يكمل ما بدأه ترمب... لكن بطريقة مختلفة عما كانت عليه في زمن الإدارة السابقة».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.