تحقيق جديد لأعمال السياب يفتح باب تزييف التاريخ الأدبي في العراق

صاحب «أنشودة المطر» في ذكرى رحيله السادسة والخمسين التي تصادف اليوم

غلاف الأعمال الكاملة  «دار الرافدين»
غلاف الأعمال الكاملة «دار الرافدين»
TT

تحقيق جديد لأعمال السياب يفتح باب تزييف التاريخ الأدبي في العراق

غلاف الأعمال الكاملة  «دار الرافدين»
غلاف الأعمال الكاملة «دار الرافدين»

ما جوهر الاضطراب الذي استدعى تحقيقاً جديداً للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب؟
كان إبراهيم الوائلي أول من فتح باباً أُغلق بالرتاج على ما سماه بعنوان تراثي هو «اضطراب الكلم» في شعر أحد كبار الشعراء العراقيين، وهو الزهاوي. فكانت الحصيلة كتابه الرائد ولا شك، اضطراب الكلم لدى الزهاوي «مطبعة الإيمان، بغداد: 1970». والكتاب ثمرة التدقيق ومقابلة النصوص بعضها ببعض بين ديواني الزهاوي الأول «الكلم المنظوم» وديوانه الثاني «لم يذكر اسمه، وقد يقصد الديوان المعروف بديوان الزهاوي – المطبعة العصرية بمصر لصاحبها خير الدين الزركلي. وذكر فقط سنة طبعه عام 1924 بالقاهرة»، فوجد أن هناك ظاهرة وصفها بـ«ليست بغريبة في موضوعها بقدر ما هي غريبة في سعتها وتنوعها»، وهي عنده «تبديل الكثير من المفردات والعبارات وبعض الأشطر بتمامها». ولقد أغرت هذه الظاهرة الباحث الرصين الوائلي فمضى بفحص شعر الزهاوي المعروف والمتداول آنذاك كله، فوجد أن اضطراب الكلم يكاد يقتصر على الديوانين المذكورين وديوانه الثالث «اللباب». لم يزد الوائلي عما وصفه باضطراب الكلم، وكان هدفه الرئيس استعادة أصل النص الشعري قبل أن يلحقه الاضطراب. ثمَّ إنه لم يجد له مثيلاً في الشعر العربي، لا سيما العراقي منه، رغم أنه قد وصف الظاهرة بعدم الغرابة؛ ربما لأنها على صلة غير خافية بظاهرة معروفة في تاريخنا الأدبي سمّاها البصير جداً طه حسين «في الشعر الجاهلي – 1926»، جرياً على رأي أستاذه مارجليوث «أصول الشعر العربي - 1925: الانتحال». فهل انتهى الأمر عند حدود الظاهرة المفردة؟

روايات مختلفة لقصيدة واحدة
في ذكرى رحيله السادسة والخمسين، تُصدر دار «الرافدين» التحقيق الموسع للأعمال الكاملة لرائد الشعر الحر في العالم العربي بدر شاكر السياب، في مجلدين أنيقين. والتحقيق الجديد بصنعة شاعر شاب سبق له أن أصدر أربع مجاميع شعرية هو علي محمود خضير، وبتقديم خاص كتبه أدونيس تحدث فيه عن السياب بوصفه شاعراً مؤسِّساً للشكل الجديد في الشعر العربي. وتحدث كذلك عن الإشكاليات الكبرى التي تعرض لها السياب في قصائده الرئيسة فيما يخص موقع الشعر في المجتمعات الإسلامية العربية. فما الجديد الذي استدعى إصدار هذا التحقيق للأعمال الشعرية الكاملة للسياب؟
في مقدمة تحقيقه يكتب خضير أن شعر السياب لم يكن موضع عناية خاصة تتولى وتأخذ على عاتقها توثيق شعر السياب على أساس مهني محايد ينقِّيها مما وصفه بـ«الأخطاء الإجرائية والتأثيرات (بأنواعها)»... وهو يتهم الطبعات السابقة لشعر السياب، بما فيها الطبعة المعروفة والمتداولة لأعمال السياب الكاملة بمجلديها «دار العودة، بيروت – 1971» بأنها «تعاني من ثغرات مؤثرة وعلَّات متوارثة لا تتناسب مع قيمة الشاعر»، وهي عنده تتصل بـ«نقص، سهو، عدم دقة، وأخطاء». والاتهام يطال حتى ما أصدره السياب في حياته، وما صدر بعد رحيله الفاجع، من دواوين شعرية. ثمة، إذن، اضطراب جديد لا بد من معالجته للوصول إلى ما افترضه المحقق «النسخة الأصلية» لشعر السياب التي أرادها الشاعر وليس ما فرضته «الظروف التاريخية الدقيقة». وهو اضطراب معاصر نسبياً، ومختلف إلى حد ما عما درسه الوائلي في الدواوين الثلاثة للزهاوي. فما جوهر الاضطراب الذي استدعى تحقيقاً جديداً للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب؟

حذف حسب الموقف السياسي للناشر
يجزم المحقِّق بأن القارئ العربي لم يطّلع ويقرأ النص الحقيقي الكامل لقصيدة السياب؛ فهناك تبايُن «اختلاف - اضطراب» بين القصائد في طبعة الأعمال الكاملة ونشرها في الصحف والمجلات أو في الدواوين المفردة. فنحن، كما يشدِّد المحقِّق، أمام روايات مختلفة للقصيدة الواحدة. لنأخذ قصيدة «الأسلحة والأطفال»، مثلاً. سنجد لها ثلاث روايات – صياغات: رواية مطبعة «الرابطة - بغداد: 1954»، ورواية ديوان «أنشودة المطر – منشورات مجلة شعر: 1960»، ورواية طبعة «دار العودة – بيروت: 1971». وهذا الاضطراب ذو أشكال مختلفة: تعديلات أجراها الشاعر بنفسه، وحذْف «مقاطع اعتمدها الشاعر»، وإضافة أخرى سبق أن حذفها بـ«نفسه» أيضاً. وسبب هذا التباين «الاختلاف»، كما يرى المحقِّق، عائد إلى الموقف السياسي للناشر «دار نشر أو صحيفة أو مجلة» أو الدولة وقتذاك، وهناك ما جرى حذفه «بتخويل من الشاعر وتنسيق معه»، وفي كل الأحوال فقد وثَّق المحقِّق هذه الحالات بهوامش خاصة في موضعها. نذكِّر، هنا، بما كُتب على غلاف أحد دواوين الزهاوي نفسه، قبل السياب بعقود، مما يؤكد أثر السياسة في اضطراب شعر الزهاوي: «أسقط ناظمه بعض أبيات قصائده، ونشر أكثرها إبانها بإمضاء مستعار في أشهر جرائد مصر يوم كان الاستبداد شديداً». وسنرى أن اضطراب الشعر جزء أصيل من اضطراب بلاد كاملة.
التباين، إذن، حاصل ولا شك، ولكي يعثر المحقِّق على «النسخة الأصلية» فقد كان عليه أن يتوسل، في إنجازه مهمته الشاقة، بما توفَّر من «مخطوطات الشاعر»، والطبعات السابقة للأعمال الكاملة، وهناك الدراسات التي كُتبت عن حياة السياب وشعره. فوضع ما يمكن تسميته بخريطة طريق في عمله. وهذه الخريطة تمثِّلها ست خطوات التزم بها المحقق، وهي: التحري الدقيق في القصائد، والتحقيق حسب المتاح من «مخطوط أصلي أو وثيقة منشورة»، والضبط الشكلي للكلمات والأبيات الشعرية وتصحيح ما يرد من أخطاء فيها، وكتابة هوامش تتولى مهمة شرح ما طرأ على القصيدة «تعديلاً أو حذفاً»، وإيراد بعض التفاصيل «الخاصة» المتعلِّقة بالقصيدة، ثم شرح الغامض من «المفردات والأعلام» الواردة في القصيدة.
من حُسن حظ المحقِّق، وربما الأجدر أن نكتب من حسن حظ السياب نفسه، أن المحقق هو شاعر عارف بالشعر العربي، على الرغم من حداثة سنه وتجربته الشعرية، ولقد مكّنته هذه المعرفة من أن يكتشف هنّات الطبعات السابقة ويشخِّص مواضع اختلافها وتباينها عن بعض. من هذا القبيل ما يتحدث عنه المحقِّق مما يتصل بعدم «التزام الطبعات (الكاملة) السابقة بالصياغات النهائية لدواوين الشاعر»؛ فهي تتجاهل التغييرات التي تطرأ على القصائد، فلا تهتم بها، وكان الأجدر بها أن تفرد لها هوامش خاصة توضح الأمر لدى القارئ. ومما له صلة بما وفَّرته معرفة المحقِّق الشعرية لنص السياب تصحيح أخطاء مضى عليها خمسون عاماً، وكان الأجدر بجامعي شعره، فضلاً عن دارسيه الكثرة، أن ينبهوا عليها. وهو يسوق، مثلاً، ما ورد في قصيدة «ليلة في العراق – مجموعة شناشيل ابنة الجلبي» من خلل الوزن واضطراب المعنى، لا سيما في قوله «تمصُّ الماء، يقرع في مداها النُّسغُ»، والذي سيجده بصياغة جديدة تتضمن إضافة تُصلح اضطراب الوزن الشعري والمعنى في مخطوطة القصيدة، وفي عدد مجلة «حوار»: «تمصُّ الماء، يقرع في مداها النُّسغُ آلاف الدرابك حين ترتعش».
غير أن ما يسمّيه المحقق بـ«تبدلات المتن الشعري» يظل ملاحظة أساسية؛ فهو يعتقد أن هذه «التبدلات» حصلت لعوامل متعدِّدة، يتعلق بعضها باختلاف وتحولات الشاعر وقناعاته الفنية. وبعضها على صلة بتحقيق طلب دور النشر، في حياة الشاعر وبموافقته، أو بعد رحيله. وفي هذا السياق نجد المحقِّق متعاطفاً مع السياب ونصه الشعري، فنراه يندد بالتعسف الذي لحق بشعر السياب حتى جاوز «الحدود الأدبية والأخلاقية في بعض الموارد إلى محاولات تنقسم – مثالاً لا حصراً: إما للنيل منه والغض من مكانته، وإما توجيه شعره بسياق ما».

حفلة تزييف كبرى
هل نحن إزاء ما سماه الوائلي «اضطراب الكلم»، على صعيد مختلف وبعيد زمنياً عن شعر الزهاوي، أم نحن أمام مجرد تباين واختلاف بين نصوص قصيدة السياب؟ وهل هذا الاضطراب يشمل الشعر العربي بطبعاته الوطنية كلها أم أنه يقتصر على الأدب العراقي، شعراً وقصةً قصيرةً وروايةً، وربما حتى مسرحاً؟ لقد سمعنا وقرأنا عن قصائد أسقطها محمود درويش وأدونيس، وربما حتى سعدي يوسف، لكننا لم نسمع أمراً مماثلاً ومشابهاً لما حدث ويحدث في الشعر العراقي والأدب عامةً، فلا نعرف أن ديوان شاعر النيل حافظ إبراهيم، قد اضطربت قصائده واختلفت في النشر. وهو ذاته ما لم يحصل مع محمود سامي البارودي، وأمير الشعراء أحمد شوقي، بل لم يحصل مع معاصر السياب صلاح عبد الصبور وغيره ممن لحقه. مرة أخرى هل ما حصل ويحصل، وما سيحصل ولا شك، يخص الشعر العراقي وحده؟ وعن ماذا يعبّر اضطراب الشعر العراقي وتباينه؟ وهل حقاً نحن في سياق ظاهرة أدبية صِرفة ينحصر الاشتغال والتفكير بها في سياق الأدب فقط؟ ألا يعبّر اضطراب الشعر عن اضطراب البلد والشخصية العراقية؟ إن ما فُهم على أساس من أنه اضطراب الكلم قد تحول بتعمد وتعنُّد إلى رغبة جامحة تتعلق وتختص بظاهرة جديدة ومختلفة كلياً في سياق الشعر والأدب العراقي، إنها ظاهرة تزييف التاريخ الأدبي القائم على أساس تزييف النص وتدمير ثباته المتحقق عبر التداول. لنأخذ، مثلاً، الشعر الحربي الذي كُتب من منطق تمجيد الحرب في عراق الثمانينات وصولاً إلى لحظة سقوط الديكتاتور، وتتصل به قصائد المدح لصدام حسين... ماذا حدث لهذا الشعر، ذلك الكم الكبير الذي كانت عيني تذهب إلى ركنه في مكتبة كلية الآداب؟ ليس عندي سوى جواب واحد ووحيد: لقد جرى رفع هذا الشعر من المجاميع الكاملة المطبوعة لاحقاً، أو جرى تغيير النص بما ينسجم مع مشهد السقوط المدوّي. نحن في حفلة تزييف كبرى يشترك فيها شعراء وكتاب قصة ورواية ومسرح. ومن المؤسف حقاً أن الحياة والظروف الملتبسة قد ورَّطت السياب بهذا الاضطراب «التزييف». وبعض مأثرة التحقيق الجديد أنه يدعم فرضية كتاب أعمل عليه منذ سنوات، يناقش مشكلة أو مشكلات تزييف النص الأدبي، ومن ثمَّ تزييف التاريخ الأدبي في العراق.
أياً كان الأمر، فإن التحقيق الجديد للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب يعيد الجدل فيما يخص شعر السياب. وهو تحقيق مهني محايد، حاول محقِّقه أن ينأى بنفسه وعمله عما يثير اللبس، ويفتح شهية الاختلاف على ما أنجزه. وهي مأثرة تستحق الإشادة، مثلما تستحق صنعة علي محمود خضير نقاشاً علمياً أكثر تخصصاً وفائدة. أقصى ما تحدث عنه المحقِّق، في سياق مهنيته، أن كتب عن «تباين» القصيدة واختلاف طبعاتها، وركَّز على تفاصيل عمله المهني المحايد، فكان هذا التحقيق ثمرة الحياد والعمل المهني. وهو، بالنسبة لي، دليل آخر على صحة فرضيتي عن تزييف التاريخ الأدبي والتلاعب بثبات النص الأدبي وتداوله التاريخي في العراق.

* ناقد وأكاديمي عراقي


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم