«الثورة الذهنية»... من الفانتازيا إلى «إنترنت الأشياء»

منصور الجنادي يتناول آفاقها في كتاب جديد

«الثورة الذهنية»... من الفانتازيا إلى «إنترنت الأشياء»
TT

«الثورة الذهنية»... من الفانتازيا إلى «إنترنت الأشياء»

«الثورة الذهنية»... من الفانتازيا إلى «إنترنت الأشياء»

يعالج الكاتب الدكتور منصور الجنادي جوانب مختلفة لآفاق «مستقبل الذكاء» عبر فصول كتابه «الثورة الذهنية» الصادر أخيراً عن دار «العين» للنشر بالقاهرة، تلك الثورة التي تشمل علوم العقل مُجتمعة، من علوم نفسية وعصبية ولغوية وفلسفية، وتمثل جميعاً ما يُطلق عليها علوم «الذهنيات» التي تفجرت إمكانياتها باندماجها مع الذكاء الصناعي، مشكلة طفرة ذهنية عالمية.
يقول المؤلف الحاصل على درجة الفلسفة في علم النفس من جامعة فيينا بالنمسا إنه «لم يطأ أرض ثورة العلوم الذهنية إلا بعد خوضه رحلة في أعماق تاريخ الحضارات، متتبعاً ما يُطلق عليها القفزات التاريخية في تطور ذكاء الإنسان وقدراته الذهنية، بداية من قدرته على توظيف العصي للحصول على ما ليس في متناول يديه»، وأنها «كانت خطوة مهمة في تاريخ ذكاء البشر، حين أصبحت تلك الأدوات التي يستعملها -في حد ذاتها- هدفاً لإبداعاته، فسن الحجر أو المعدن كي يصبح حاداً بما يكفي لقطع لحم فريسته مثلاً، واخترع القوس والسهام للصيد، وهكذا».
- قفزات العقل
تتوالى «القفزات» البشرية، ابتداء من اكتشاف الزراعة التي قادت الإنسان للاستقرار، بديلاً للتنقل من مكان لآخر بحثاً عن الطعام، الأمر الذي كان أحد أبرز عوامل شعوره بالأمان، وقدرته على التأمل والإبداع، فنشأت الحضارات على ضفاف الأنهار الكبرى، كما على ضفاف دجلة والفرات بالعراق، والنيل في مصر، ويانغتسي الصيني، ومن ثم كانت بدايات الحضارات التي قادت للكتابة والأرقام والحساب والفلك، والفلسفة التي يتتبع الكتاب مسارات تطورها عربياً وأوروبياً، وصولاً لقيام ما يصفها بالثورة الذهنية في منتصف القرن العشرين في أوروبا، ثم الولايات المتحدة، بعد اختراع الكومبيوتر، حين بدأ العلماء إدراك وجود تشابه بين الكومبيوتر والمخ البشري، وأن ثمة مقاربة بين «وحدات» الكومبيوتر المتصلة بعضها ببعض و«الخلايا العصبية» في المخ البشري.
ويطرح الكاتب افتراضاته على أن الثورة الذهنية بعلومها المتشعبة لن تستقيم سوى بمعرفة ذاتية مُتجذرة، ربما لا تختلف عن مقصد سقراط الفلسفي في عصوره الوسطى، إنما بآليات عصرية تسعى للتفاعل الواعي مع ديناميكيات المستقبل: «أعرف نفسك باستخدام مجموعة العلوم الذهنية تختلف عن أعرف نفسك بعقلية القرون الوسطى في أوروبا مثلاً، كان كثير مما يسمى وقتها بالعلم مجرد تخمينات، إن وازناها مع ما لدينا اليوم من علوم تجريبية وتكنولوجيات تمكننا من تحليل الشفرات الوراثية، وتصوير النشاط الذهني، ومحاكاة عمل مراكز المخ المختلفة».
- إنترنت الأشياء
ويعد المؤلف أن الثورات الثقافية والذهنية تستهدف الفهم والنهوض بالوعي، وأن علم الذهنيات لم يُمهد الطريق فقط لفهم كثير من ألغاز الذهن البشري، وإنما أصبحت سماته التعددية التكاملية أسلوباً للحياة في كثير من دول العالم، ومُلهماً لإبداعات غيّرت وجه الحياة في الكرة الأرضية، ربما أهمها الذكاء الصناعي، بمميزاته وأخطاره، أو كما يطلق عليه «إنترنت الأشياء» الذي لم يدع حاجزاً بين الواقع والفانتازيا. تصور، كما يكتب المؤلف «أنه في يوم من الأيام، في أثناء ذهابك للعمل، شعُرت بإرهاق شديد، وارتفاع في درجة حرارتك، فقامت ملابسك المُزودة بشريحة اتصال بالإنترنت بإخبار أقرب مستشفى لك، وعندما تصل إلى هناك، تقوم أجهزة المستشفى بإرسال رسالة إلى المدير الإلكتروني لشؤون الموظفين في الشركة التي تعمل بها، فتتصل بشكل أوتوماتيكي بالموظف الذي يمكن أن ينوب عنك». هذا المشهد الذي يسرده الكتاب ليس مقتبساً من أحد الأفلام الأميركية المهووسة بجنون التكنولوجيا، إنما هو أحد مشاهد الاتصال والتنسيق الواقعية التي أصبحت تتيحها ظاهرة «إنترنت الأشياء» داخل المحيط البشري.
- الذهن والكومبيوتر
يطرح الكتاب الذي يقع في 3 أبواب أبرز أسئلة الثورة الذهنية التي فجرها اندماج الذكاء الصناعي بعلوم العقل المختلفة (نفسية - عصبية - لغوية فلسفية) في علم واحد، الأمر الذي يعده المؤلف طفرة تاريخية في فهم الإنسان لعقله، وبالتالي نظرته للعالم، وإمكانات صناعة المستقبل، قائلاً عن ذلك: «لم تتوافر لنا، ولا للبشرية كلها، أدوات لمعرفة النفس مثلما توافرت بعد الحرب العالمية الثانية. فعلوم الثورة الذهنية تُمكننا الآن من فهم أذهاننا وعقولنا من وجهات نظر متعددة، لكنها تتكامل بشكل ممتع».
ويرى الكاتب أن هذا التكامل يشمل الذهن واللغة، والذهن والنفس، والذهن والأعصاب، والذهن والتاريخ البشري، والذهن والفلسفة، وأخيراً وليس آخراً الذهن والكومبيوتر، وجميع علوم الذهن هذه وضعها علم واحد يُدرّس الآن في جامعة «هارفارد» والعشرات من الجامعات الأخرى حول العالم، يُمكن تعريبه بـ«علم الذهنيات» الذي تتداخل روافده، بداية من دراسة العقل ووسائله في إدراك الطبيعة والحياة، ودراسة الذكاء والسلوك الإنساني، ومعرفة كيفية عمل الجهاز العصبي، وكيفية تحول المعلومة إلى تراكم معرفي، علاوة على علوم اللغويات والذاكرة والانطباعات والمنطق والعواطف، وعلوم الأنثروبولوجيا.


مقالات ذات صلة

«تعفن الدماغ»... ما علاقته باستخدام الإنترنت ومواقع التواصل؟

صحتك قضاء ساعات طويلة في تصفح الإنترنت قد يصيبك بـ«تعفن الدماغ» (رويترز)

«تعفن الدماغ»... ما علاقته باستخدام الإنترنت ومواقع التواصل؟

تُعرف «أكسفورد» تعفن الدماغ بأنه «التدهور المفترض للحالة العقلية أو الفكرية للشخص»

ماري وجدي (القاهرة)
يوميات الشرق التدهور المفترض للحالة العقلية أو الفكرية للشخص في العصر الحديث يحدث نتيجة الإفراط في استهلاك الإنترنت وفقاً لـ«أكسفورد» (أ.ب)

«تعفن الدماغ»... كلمة عام 2024 من جامعة أكسفورد

اختيرت كلمة «تعفن الدماغ» لتكون كلمة عام 2024 في «أكسفورد».

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا كابل الاتصالات البحري «سي ليون 1» أثناء وضعه في قاع بحر البلطيق عام 2015 (أ.ف.ب)

بدء إصلاح كابل بيانات متضرر في بحر البلطيق

 بدأ إصلاح كابل اتصالات بحري متضرر بين هلسنكي وميناء روستوك الألماني في بحر البلطيق، الاثنين.  

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
المشرق العربي أطفال انفصلوا عن شقيقهم بعد فراره من شمال غزة ينظرون إلى صورته على هاتف جوال (رويترز)

انقطاع كامل للإنترنت في شمال غزة

أعلنت شركة الاتصالات الفلسطينية (بالتل)، اليوم (السبت)، عن انقطاع كامل لخدمات الإنترنت في محافظة شمال قطاع غزة، بسبب «عدوان الاحتلال المتواصل».

«الشرق الأوسط» (غزة)
يوميات الشرق حبُّ براد بيت سهَّل الوقوع في الفخ (رويترز)

«براد بيت زائف» يحتال بـ325 ألف يورو على امرأتين «مكتئبتين»

أوقفت الشرطة الإسبانية 5 أشخاص لاستحصالهم على 325 ألف يورو من امرأتين «ضعيفتين ومكتئبتين»... إليكم التفاصيل.

«الشرق الأوسط» (مدريد)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.