«سوء حظ»... تاريخ موجز لسيرة خاسر وموت دولة

سهيل سامي نادر كان يريد لحياته أن تمضي في مكان آخر

«سوء حظ»... تاريخ موجز لسيرة خاسر وموت دولة
TT

«سوء حظ»... تاريخ موجز لسيرة خاسر وموت دولة

«سوء حظ»... تاريخ موجز لسيرة خاسر وموت دولة

ليس سوى «سوء حظ»... هكذا ببساطة جارحة يكتب لنا سهيل سامي نادر ذكرياته عن عمله الصحافي في زمن الانقلابات. «سوء حظ»؛ كلمتان نكرتان يتصل بعضهما ببعض لتؤلفا عنواناً مشبعاً بالألم والسخرية والكوميديا السوداء. وهما معاً الصيغة الصادمة التي يجري عبرها اختصار نصف قرن من العذاب الشخصي للكاتب، وهو ذاته بعض تاريخ الصحافة في العراق، وتاريخ العراق في زمن الانقلابات، زمن المحن المتوالدة. فهل كان الأمر مجرد «سوء حظ» لازم واحداً من أبرع صحافيي العراق وأكثرهم مهارة وكفاءة وحظاً سيئاً؟ هل حقاً أن مصائر الناس والبلاد تصنعها الأقدار السيئة والحظوظ المتدنية في بلادنا سيئة الحظ؟
ثلاث قضايا كبرى تعلَّق بها كتاب «سوء حظ... ذكريات صحافي في زمن الانقلابات: المدى، بغداد، 2020»، ولقد تحكمت بالكتاب السيري، فكان تأكيداً لها وترديداً لبراهينها. هذه القضايا عبرت عنها مقدمة الكتاب بصراحة ووضوح كافيين؛ فهي المفاتيح الممهِّدة لعالم الكتاب. أولها مقصده من تركيبة «سوء حظ»، وهي لا تحيل، هنا، إلى مجرد تاريخ شخص مفرد عاش وعمل في إطار زمني محدد؛ إنها تربط «وللدقة علينا، ربما، أن نكتب تعجن!» مصائر أجيال عراقية كثيرة بصفة «سوء حظ» في سياق تاريخ عراقي محدد، إنه ما بعد انقلاب فبراير (شباط) عام 1963، ذلك الحدث الرهيب الذي جعل الكاتب وأقرانه ومن جاء بعدهم «مجرد شريك بسوء حظ ضم أجيالاً من العراقيين فقدوا الأمان وتحولت حياتهم إلى جحيم». نحن هنا إزاء «سوء حظ» وطني يشمل بلاداً كاملة في سياق تاريخي متصل ومعلن. يبدأ الحظ السيئ، شخصياً ووطنياً، بانقلاب فبراير عام 1963. ولا بأس، لكن لماذا يبدأ الكاتب بهذا الانقلاب؛ ألم يعنون الكتاب بقوله: «ذكريات صحافي في زمن الانقلابات»؛ أليس ما حدث قبل مذبحة فبراير هو انقلاب أيضاً، ألم يسمِ الكاتب نفسه ما حدث عام 1958 انقلاباً، ونص على هذه الكلمة في كتابه هذا وفي مقالات سابقة أثارت غضب جماعات سياسية محدَّدة؟ ليس لدي تفسير لما حدث سوى أمر واحد. يتعلَّق بحداثة عهد سهيل سامي نادر، شبابه المبكر بالنسبة لحدث يوليو (تموز) عام 1958، فسهيل المولود في البصرة عام 1943 لعائلة عراقية معروفة بانحيازها اليساري؛ أبوه سامي نادر، مثلاً، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي، لم يزد عمره، آنذاك، على خمسة عشر عاماً. ماذا يعني هذا؟ لا شيء؛ فسهيل نفسه قد كتب مراراً أن ما حدث عام 1958 هو تمرين أولي على الحياة، وهو مختلف كلياً عن انقلاب فبراير الرهيب الذي دشن الصياغات الكبرى لتأميم الحياة والأمل والخطاب بمستوياته المختلفة في العراق. لكن «سوء حظ» يلتقي هنا، عميقاً، مع السياق المقاوم للقبح وتدمير الحياة السوية في العراق. إنه بعض ما يسميه الكاتب نفسه «تحويل سوء الحظ إلى ضرب من المزاح والمرح»، وهو عندي السبيل المتاحة، الوحيدة ربما، لمقاومة اليأس والخذلان بالضحك والسخرية. في فصول الكتاب، بالضبط، في اللحظات التي نجد فيها سهيل يكتب عن سيرته تحضر السخرية والنكتة المفارقة في لجة الخوف والكراهية المضادة.
وهناك ما يسميه صاحب رواية التل «سيطرة الأزمان القصيرة» التي تبدو لنا صياغة مختلفة لموت الذاكرة عند العراقيين. نعم، لم يكن سهيل سامي نادر في وارد مناقشة قضية الذاكرة والتذكر في سياق كتابه، هذا شأن آخر لا يتصل ربما بجوهر سيرته المتأثرة بفعل السلطة الضاغط عليه وعلى غيره ولا شك، لكن سيرة الذاكرة وموتها في عقول ومخيال الناس حاضرة، بقوة، ونحن نقرأ ونشاهد فعل السلطة المخرب لكيان الدولة. وإن شئتم يمكننا أن نتحدث عن سيرة موجزة لموت الدولة في العراق برواية سهيل سامي نادر. هل نحن نقوِّل الكاتب ما لم يقله؟ لا أعتقد، فقصر الزمن شاهد ودليل على موت الذاكرة الجمعية في مجتمع ما. تحضر قسوة النسيان المفروض على الناس عبر ما يسميه الكاتب «تراكم المشاكل» بدلاً من تراكم الخبرة. وهو فعل السلطة التي تنتقي أدواتها المخربة، وفي الطليعة منها تدمير ذاكرة المؤسسات بزعم تشييد ذاكرة جديدة. يكتب نادر أن لا أحد يبقى في مكانه طويلاً «يُستبدل الأشخاص عن طريق الغضب أو الترقيات، ويختفي أشخاص عن طريق السجن أو القتل أو الهجرة، وتفسد المؤسسات بألوان من التدخلات السياسية والفكرية والمزاجية». وهذا أسوأ أنواع ألزهايمر الوطني المضاد لفعل الذاكرة. في زمن الانقلابات لا ذاكرة للدولة وشعبها سوى ما يريده القائمون على السلطة.
القضية الثالثة الرئيسية أننا في سياق كتاب ينهمك بكتابة سيرة مهنية دامت خمسين عاماً، وما زالت مستمرة، ولسنا، من ثمَّ، بصدد سيرة ذاتية «شخصية». هل هناك فارق بينهما؟ سهيل سامي نادر نفسه يقول لنا في مقدمته إن محنته في هذا الكتاب انحصرت في عدم التوسع بأمرين: حياته الشخصية والسياسة. لكن متن السياسة توسع كثيراً لأنه جزء أصيل، أو هكذا هو في عراق الانقلابات، فصارت السيرة المهنية بعضاً من مشكلة السلطة في العراق. يسمي الكاتب سيرته «ذكريات»، وهذه الكلمة تضعنا أمام مقدار لا بأس به من الذاتية المتصلة بسيرة الكاتب الشخصية. نتأمل العنوان مجدداً؛ إنه يتحدث عن ذكريات صحافي في زمن الانقلابات، ثمة هنا هامش شخصي يتحرك بموازاة السيرة المهنية، وكلاهما يتشكَّل في إطار زمن سياسي مضطرب. هامش السيرة الشخصية للكاتب يحضر في تفاصيل وفصول متن السيرة، مع حرص كبير على ألا تتحول حياة الكاتب الشخصية إلى مأثرة كبرى، أو كما كتب في رسالة شخصية: «أنا حذر من أن أمنح حياتي قيمة كبيرة». وبتصوري أن هذه القيمة حاصلة لا محالة؛ في الأقل إنها إحدى صياغات الخطاب المضمرة، نجدها في منطق الخاسر سيئ الحظ، صاحب القصة. كذلك في منطق المقاومة الساخرة، في تذكير القارئ المستمر أن ثمة حظاً سيئاً يطارد الكاتب؛ في الخشية من ورطة الكتابة، وفي التشديد على منطق البريء، مصحح الأخطاء.
لا يحيد سهيل سامي نادر عن هذه القضايا الثلاث الرئيسية في فصول وفقرات الكتاب كلها. وعندي أنها المبادئ التي انتظمت وصاغت الكتاب. ولها الفضل كله في تمكين الكاتب من الظفر باللحظات الكبرى في سيرته المهنية، وهي ذاتها، ربما بتصرف، هوامش السيرة الذاتية، مثلما هي المفاصل الكبرى للتاريخ السياسي للعراق. كان منطق الخاسر، سيئ الحظ، مثلاً، وراء اكتشاف مأثرة الستينيين المنسية، إنها في مكان آخر، بعيداً عن الصخب والجدالات الشعرية الكبرى حول البيان الشعري وجماعة كركوك. يعود بنا الكاتب إلى قلب بغداد، بالضبط إلى ساحة التحرير، حيث نصب الحرية الذي دشن الستينات العراقية؛ هنا القصة كلها، فيما جرى نسيانه، إنها مأثرة الفنانين التشكيليين العراقيين التي جرى إهمالها لحساب المنجز الستيني في الشعر والرواية والقصة القصيرة. وأحسب أن الخاسر هو وحده القادر على اكتشاف المهمل الثمين؛ لأنه بعض خسارته. فقد تحول شعر الستينات العراقية إلى محض ظواهر شعرية مهمة ولا شك، فيما ظل الفن حاضراً في الذاكرة والوجدان. ولا رهان على خيارات الناس؛ عندما جعلوا من نصب الحرية مكاناً للتنديد والتظاهر ضد السلطة الفاسدة المخربة. لا رهان أبداً، إنما هو بعض مأثرة الفنان الستيني المنسي والمهمل، وهو صنيعه في ذاكرة الأجيال اللاحقة.
ومثلها، بالضبط، قصة موت الذاكرة في زمن تأميم الحياة والخطاب، وهو ما يسميه سهيل سامي «سلطة الأزمان القصيرة»، كما أشرنا سابقاً، فإنها تظهر بصفة الحاكم والمتحكم في متن السيرة المهنية، شأن السيرة الذاتية، فلا طموحات كبيرة، ولكن لا خيبات مدمرة أيضاً. يعرف الخاسر أن لا أمل يُرجى من الكتابة؛ فهي التي ستراكم الحظ العاثر، تستجلبه من كل حدب وصوب حتى لو كان في جزر الواق واق. لكن نادر العارف بطبيعة السلطة في بلاده سمح لنفسه بأن يكتب بدراية ومعرفة وتبصر يُحسد عليها. هل كان الحسد نوعاً من سوء الحظ؟ ربما...
في «سوء حظ» يجهد مصحِّح الأخطاء، كما وصف نفسه في الكتاب بلا قصد وفي سياق محدَّد، أن يتوخى أقصى درجات الموضوعية في كتابة سيرته المهنية؛ فهو يعرف أن كتابة سيرة الذات ورطة لا أصعب منها، وهو يعرف كذلك أنه فخ لا بد منه. فكيف ستكون الحال عندما نكتب عن ذات فاعلة ومبدعة في سياق عراقي ملتبس وعصيب؟ «سوء حظ» إضافة مهمة في النقاش حول الخطاب الثقافي العراقي في عهود ما بعد فبراير 1963 ويتصل بزمن الديكتاتور والاحتلال. وعندي أن الكتاب يضيء مناطق معتمة كان الكاتب قد عاش تفاصيلها وكتب عنها بمنطق العارف الأمين المصحِّح للأخطاء، لا سيّما في حالة العراق الذي أُحرقت مكتباته وسجلاته ووثائقه، فصار تاريخه الثقافي مشاعاً للمدَّعين. «سوء حظ» تاريخ موجز لسيرة الخاسر، سيئ الحظ، لكنه كذلك تاريخ موجز للبلاد سيئة الحظ.
* ناقد عراقي



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.