صراع «الصفوة» و«الحرافيش» الثقافي ينتقل إلى مقاهي القاهرة

حجازي يستعيد زمن «ريش» على بعد خطوة من «قعدة» البستان الرحبة

كوكبة من الكتاب بينهم مكاوي سعيد(يسار) وعزت القمحاوي(إلى يمينه) في «قعدة الجمعة»
كوكبة من الكتاب بينهم مكاوي سعيد(يسار) وعزت القمحاوي(إلى يمينه) في «قعدة الجمعة»
TT

صراع «الصفوة» و«الحرافيش» الثقافي ينتقل إلى مقاهي القاهرة

كوكبة من الكتاب بينهم مكاوي سعيد(يسار) وعزت القمحاوي(إلى يمينه) في «قعدة الجمعة»
كوكبة من الكتاب بينهم مكاوي سعيد(يسار) وعزت القمحاوي(إلى يمينه) في «قعدة الجمعة»

يبدو أن صراع «الصفوة» و«الحرافيش» الذي فجره الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، منذ سنوات، في مقالته الشهيرة بمجلة إبداع، سيعود مجددا إلى الحياة الثقافية المصرية، لكن بغلاف جديد، حيث دشن ظهر يوم الجمعة الماضي، عدد من الشعراء والمثقفين، على رأسهم الشاعر أحمد عبد المعطى حجازي نفسه، والناقد الدكتور أحمد درويش، أستاذ البلاغة والأدب المقارن بجامعة القاهرة، والشاعر حسن طلب، صالونا ثقافيا في مقهى ريش، في محاولة لإعادة إحياء صالون نجيب محفوظ في المقهى الشهير، بوسط العاصمة القاهرة. وأكد الدكتور أحمد درويش أن هذا اللقاء، سوف يعقد في الجمعة الأولى من أول كل شهر وسيكون اجتماعا عاما، ولم يتم الاتفاق بعد على أي خطط لإدارته، ويتوقع أن تكون موضوعاته مفتوحة حسب ما يطرأ داخل الشهر نفسه.
وكان نجيب محفوظ يقيم ندوة أسبوعية في مقهى ريش بدأت منذ عام 1962، وظلت منتظمة حتى عام 1977، ثم انتقل بعد ذلك لمقهى «عرابي» القريب منه.
وعلى الرغم من أن الصالون الجديد الذي يغلب عليه طابع «الصفوة» سيعقد شهريا، فإنه سيصطدم، وبحكم جغرافية المكان، بـ«قعدة الجمعة»، وهي قعدة أسبوعية، يقودها الكاتب الروائي وحيد الطويلة، لا تفرق بين «الصفوة» و«الحرافيش»، ويمنحها إيقاع المقهى الشعبي روحا دافئة وحميمية، كما أنها قعدة مفتوحة بحيوية للصغار والكبار، من شتى مشارب الحياة الثقافية. وأصبح يواظب عليها عدد من الكتاب والفنانين والشعراء، من بينهم: عبد المنعم رمضان، سعيد الكفراوي، عزت القمحاوي، صابر رشدي، عبد العزيز جمال الدين، محمد عبلة، مجاهد العزب، جرجس شكري، زين العابدين فؤاد، محمود الورداني، وغيرهم من المبدعين.
يقع مقهى «زهرة البستان» في ممر مجاور لمقهى «ريش». وحاول المثقفون من خلاله، استنساخ مقهى بديل يناسب قدراتهم المادية المحدودة في الغالب الأعم. وفي السنوات الأخيرة، ومع ارتفاع الأسعار في مقهى «ريش»، استطاعت «البستان» أن تسحب السجاد من تحت قدميها، وتحولت إلى منتدى حقيقي للمثقفين والكتاب، يتبادلون على طاولاتها المفتوحة في براح الشارع، الآراء ويتناقشون ويعقدون الندوات، وحفلات التوقيع للكتب الجديدة. وأصبحت المقهى بمثابة استراحة للقاء والتعارف، وصندوق بريد عاما للمثقفين. وهو ما يعززه تاريخ المقهى نفسه، منذ كانت محلا صغيرا اشتراه صاحبه الحاج عبد اللطيف في ستينات القرن الماضي، وكان لا يملك وقتها سوى صندوق حديدي يضع فيه المشروبات الغازية، زرع بجواره شجرة واحدة في الممر الملاصق لمقهى «ريش»، وسرعان ما اجتذبت المقهى الجديدة عددا كبيرا من المثقفين والكتاب والشعراء، كان من بينهم: يوسف إدريس، وأمل دنقل، ومحمد عفيفي مطر، ويحيى الطاهر عبد الله، ودكتور لويس عوض، وشوقي فهيم، ومحمد مستجاب، وخيري شلبي، ومحمد البساطي، والملحن سيد مكاوي.
لكن شهوة المكان والتاريخ، لن تفرض نوعا من التماثل، أو الهم المشترك بين اللقاءين المتجاورين، كما يقول أحد الكتاب المخضرمين، مبررا ذلك، بأن الذاكرة الثقافية، تحفظ لحجازي الذي يتصدر صالون ريش الوليد، أنه شاعر مهم، لكن بدرجات أوسع، تحفظ له تاريخا من السلبيات، اضطربت فيه صورته كشاعر، وكمثقف صاحب نزعة متعالية، بل متشنجة أحيانا، في النظر لأمور الثقافة والفكر، كما أنه لا يزال يعادي قصيدة النثر، التي فرضت نفسها بقوة على الساحة الشعرية، وأصبحت تشكل متن الخطاب الشعري الجديد، ليس في مصر وحدها، بل في الوطن العربي.
وقد فاجأ حجازي الجميع بمقاله الشهير في افتتاحية مجلة «إبداع» الذي قال فيه صراحة، إن مجلته «للصفوة وليست للحرافيش».
كان حجازي وقتها قد آلت إليه رئاسة تحرير المجلة، بعد سنوات من الازدهار شهدتها على يد رئيس تحريرها السابق الدكتور عبد القادر القط. وهي مجلة رسمية تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. لكن مقال حجازي الصارم، أكسبها عداء قطاع كبير من الشعراء والكتاب، الذين أعلنوا مقاطعتهم للمجلة، تحت رئاسة حجازي، مؤكدين وقتها، تهافت مفهوم «الصفوة» الذي طرحه، وأنه «ينبني على فكرة سياسية نرفضها، وجذورنا الأدبية الحقيقية تعود مصريًّا إلى المصري الفصيح وشكاواه، وعربيًّا إلى الصعاليك، وعالميًّا إلى المشردين والمنبوذين من جراء عدم تكيفهم مع واقع رفضوا الاندماج والتشيؤ فيه».
بعدها شهدت المجلة، وعلى مدار سنوات كثيرة من رئاسته لها، ومعه الشاعر حسن طلب، تدهورا في التوزيع والمحتوى، حتى تحولت من مجلة شهرية إلى فصلية، إلى أن تم إقصاؤه منها أخيرا، بقرار من وزير الثقافة الدكتور جابر عصفور، وتعيين مجلس تحرير آخر لها برئاسة الروائي محمد منسي قنديل.
وبينما لم يسمع أحد صوتا لصالون «مقهى ريش» الذي دشن لقاءه الأول يوم الجمعة الماضي، كانت «قعدة الجمعة» المجاورة له بمقهي البستان، تضج بنقاشات فكرية وثقافية حية، تتماس مع هموم الواقع الثقافي الراهنة، وتصادف أن تكون «جمعة» رءوف مسعد، الكاتب المصري المقيم في هولندا، الذي حل ضيفا عليها بمناسبة زيارته للقاهرة، حيث وجدها رواد القعدة فرصة للاحتفاء بصاحب رواية «بيضة النعامة»، والتحاور معه، في أعماله الروائية وجديده في عالم الكتابة، ترافقهم أكواب الشاي والمشروبات الشعبية الدافئة، وقرقعات دخان الأراجيل.
فضاء «قعدة الجمعة» الذي تتسع فيه مساحة الألفة والعفوية، ويعتد باختلاف وجهات النظر، يعلق عليه مؤسسها صاحب رواية «باب الليل» الكاتب وحيد الطويلة، قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «هي قعدة جميلة وونسة محبة، أصبحت طقسا ثقافيا، أحرص عليه، وعدد كبير من الكتاب والشعراء والفنانين، إلى الدرجة التي أحس بأن وقتي، بل جسدي يضطرب حين أتخلف عنه لظروف طارئة».
ويتابع بضحكته الرنانة: «نحن قعدة فضفضة ثقافية وإنسانية، نفك فيها عقد الزمن والبشر والحياة، بل عقد الجسد والروح». وحين أسأله عن الصالون الجديد المجاور لهم بمقهي ريش، يجيب بتلقائيته المعهودة: «فكرة جميلة، أتمنى أن تنجح وتتسع، ولا بأس أن يعرجوا علينا في هذا المربع الصغير، مؤكد أننا سنسعد بهم.. جسد الثقافة المصرية أصبح مهلهلا، لا يحتاج إلى الحقد والضغائن والحروب الصغيرة، لا وقت للتصنيفات المقيتة، من قبيل (صفوة) و(حرافيش)، أو أدباء السلطة، ومن هم خارجها وضدها.. الثقافة المصرية تحتاج أولا، أن تتصالح مع نفسها، بصدق وواقعية حتى تكون طرفا مجادلا وقويا، ويعتد بدورها في خدمة المجتمع، وتستطيع مواجهة عجز المؤسسة الثقافية الرسمية ونكوصها عن بلورة العمل الثقافي ودعمه بشكل بناء ومستنير.
كلام الطويلة بأريحيته الثقافية المفتوحة، لن يغيّب سؤالا سيظل كامنا، وهو: هل ينجح هذا الحاجز المكاني الصغير في فك أربطة العنق التي تطوق ذاكرة ثقافة اعتادت على التربيط، وتكوين جماعات المصالح والولاء، ليصبح معيار الولاء فقط للنص المكون والمؤسس المثير لدهشة الخيال والمعرفة، سواء كان رواية أو شعرا أو قصة قصيرة، أو مسرحية، أو لوحة تشكيلية؟



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.