قال النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي، في الليلة التي حصل فيها على جائزة الكرة الذهبية لأفضل لاعب في العالم للمرة السادسة، إن «النهاية تقترب». وكان من الصعب على جماهير برشلونة أن تتخيل تلك اللحظة في ذلك الوقت، لكن الأمر أصبح أكثر صعوبة الآن، ولا يعود السبب في ذلك فقط إلى أنه بعد مرور 8 أشهر على تلك التصريحات، أصبحت النهاية أكثر قرباً وحتمية من أي وقت مضى، لأن هذه الجماهير كانت تعرف من داخلها أنه سيأتي اليوم الذي يعلق فيه الساحر الأرجنتيني حذاءه، ويعتزل كرة القدم.
ورغم أن ميسي قال في تلك التصريحات إن «عمري 32 عامًا»، فإن هذه الجماهير لم تكن بحاجة لتذكيرها بأن مسيرة البرغوث الأرجنتيني مع برشلونة تقترب من نهايتها بعد سنوات من التألق اللافت والعطاء الاستثنائي. لكن ما لم يتخيله أحد هو أن يرحل ميسي بهذه السرعة، وبهذه الطريقة، وأن تكون النهاية بهذه المرارة، وبهذا الشكل المحبط للغاية. وإذا كان مشجعو برشلونة يشعرون بالألم لمجرد تخيل الوقت الذي سيتوقف فيه ميسي عن اللعب، فإن الأمر يكون أشد إيلاماً عندما يفكروا في أنه سيتوقف عن اللعب لبرشلونة، ويذهب لاستكمال مسيرته مع ناد آخر.
ولا يتعلق الأمر برحيل ميسي فقط، لكنه يتعلق بتوقيت رحيله، وسبب رحيله، وكيفية رحيله، وإن كان لا يهم كثيراً النادي الجديد الذي سينضم إليه: مانشستر سيتي أم باريس سان جيرمان أم يوفنتوس. ما يهم حقاً هو أن ميسي سيرحل عن برشلونة، وسينضم لناد آخر، بغض النظر عن اسم هذا النادي. وعندما قال ميسي إن النهاية تقترب، فإن جمهور برشلونة كان يتخيل أن نهاية مسيرة ميسي مع برشلونة تعني نهاية مسيرته مع كرة القدم ككل، وأن مباراته الأخيرة ستكون مثل مباراته الأولى بقميص برشلونة، وأن الأسطورة الأرجنتينية سيحظى بوداع استثنائي، وإن كان مؤثراً مليئاً بالدموع، بشكل لم يحدث من قبل، ولن يحدث من بعد.
وعندما استخدم ميسي كلمة «اعتزال» في تلك الليلة، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أصيب جمهور النادي الكاتالوني بـ«ذعر جماعي»، وطالبو نجمهم المفضل ومعشوقهم الأول بألا يقول ذلك، وكأن هذا الجمهور يتجنب مجرد التفكير في حقيقة ستحدث لا محالة يوماً ما! وفور إطلاق ميسي لهذه التصريحات، سارع مجلس إدارة النادي بالتعليق على الأمر، وقال رئيس النادي، جوسيب ماريا بارتوميو: «ليو ما زال أمامه وقت طويل هنا».
وقد تحدث بارتوميو باسم ميسي عدة مرات. وفي كل مرة كان يفعل ذلك، يتزايد انزعاج النجم الأرجنتيني. فقد أكد رئيس برشلونة أن «ميسي ما زال أمامه الكثير»، وهي العبارة التي نُشرت في كل الصحف الرياضية الكاتالونية اليومية. ويقال إن الرياضيين يموتون مرتين: المرة الأولى عندما يعتزلون اللعبة، والثانية عندما يموتون بشكل طبيعي كبقية البشر. وقد تشبث برشلونة بالسنوات الأخيرة لميسي وكأنه يحاول أن يؤخر قدراً لا مفر منه.
لكن اتضح أن لم يبقَ سوى عام واحد فقط في مسيرة ميسي مع برشلونة. فبعدما قضى النجم الأرجنتيني 20 موسماً مع النادي الكاتالوني، من بينها 17 موسماً في الفريق الأول، وبعد قيادة الفريق للحصول على 34 لقباً، وإحراز 634 هدفاً، يبدو أن الانفصال بات شيئاً مؤكداً بين الطرفين. ومن المؤكد أن هذه الخطوة -في حال حدوثها- ستنزل كالصاعقة على نادي برشلونة، وعلى الدوري الإسباني الممتاز ككل، اللذين يواجهان بالفعل تحديات هائلة في الفترة الحالية.
لكن ربما لا تكون هذه هي المشكلة الحقيقة، فاللاعبون يتجنبون الحديث عن الاعتزال، ويخافون منه كما يخاف بقية البشر من الموت، على حد قول الأرجنتيني خورخي فالدانو، المدير التنفيذي السابق لنادي ريال مدريد، لكن هذا مصير محتوم، ولا بد من حدوثه في يوم من الأيام. وقد رأينا كثيرين من اللاعبين الأفذاذ وهم يتوقفون عن ممارسة كرة القدم في السابق، لكن رحيل ميسي لن يكون سيئاً لبقية مشجعي كرة القدم، لأنه سيكون من المثير للغاية أن نراه يلعب في مكان آخر، لكن المشكلة الأكبر سيعاني منها جمهور برشلونة بكل تأكيد.
لقد كان من الواضح للجميع أن برشلونة يعاني منذ فترة طويلة، وقد بلغ الأمر ذروته إلى أن وصل إلى الانهيار. وإن انتقال أي لاعب مهما كان حجمه عن أي ناد لا يحدث قدراً كبيراً من الصدمة، لكن الأمر يختلف تماماً عندما نتحدث عن لاعب بقيمة وأهمية وحجم ميسي. لقد وقع ميسي لبرشلونة على منديل ورقي، ووقع مستشار رئيس النادي في ذلك الوقت تشارلي ريكساش ووالد ميسي على هذا الاتفاق على المنديل وهما في الطريق إلى نادي برشلونة.
لكن ما الذي دفع هذا النجم الأرجنتيني لكي يرسل خطاباً رسمياً إلى برشلونة في الساعة 7:20 مساء يوم الثلاثاء، يطلب فيه الرحيل عن «كامب نو». لقد تجاوز الأمر الآن مرحلة التفاوض أو المصالحة بين الطرفين، بعدما أرسل ميسي إشعاراً قانونياً بنيته الرحيل، على أن يرحل في صفقة انتقال حر، نظراً لأن عقده مع برشلونة يضم بنداً يسمح له بالرحيل.
ويوم الأربعاء الماضي، قال المدير الرياضي لبرشلونة، رامون بلانز، إنه يريد بناء فريق قوي حول أفضل لاعب في العالم، وهي فكرة رائعة حقاً، لكن ربما يبدو أن النادي قد فكر فيها متأخراً كثيراً، لأنه في الليلة السابقة لتلك التصريحات كان النادي قد أرسل فاكساً يؤكد فيه أن بند الرحيل لم يعد قابلاً للتطبيق، بعدما مر عليه بعض الوقت وانتهت صلاحيته.
ويقول النادي إنه إذا كان ميسي يريد الرحيل، فإنه كان يتعين عليه إبلاغ النادي قبل 10 يونيو (حزيران) الماضي، وفقاً لهذا البند، وإن ميسي قد أرسل الخطاب الذي عبر فيه عن رغبته في الرحيل في 25 أغسطس (آب)، وهو ما يعني أن فرصته في الرحيل قد مضى عليها وقت طويل. وأراد النادي تذكير ميسي بأن قيمة الشرط الجزائي في عقده تبلغ 700 مليون يورو، مؤكداً رغبته في استمرار اللاعب الأرجنتيني بين صفوفه.
وفي الحقيقة، لم تكن هذه طريقة جيدة من النادي للبحث عن المصالحة. وعندما يصل الطرفان إلى النقطة التي يتحدثان فيها عن طريق المحامين والرسائل الرسمية، فهذا يعني أنه لم يعد هناك أي قدر من الحب بين الطرفين، وأن كل ما تبقى هو التفاوض أو القتال للحد من الأضرار أو المخاطرة بمضاعفة تلك الأضرار. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما صيغة هذا البند، وهل يضع تاريخاً محدداً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف القانوني واضح تماماً. لكن إذا لم يكن الأمر كذلك، وإذا كان البند به قدر كبير من الغموض، كأن يشير بدلاً من ذلك إلى بعض الاختلافات في «نهاية الموسم»، فيمكن مناقشة ذلك في المحكمة. نعم، قد ينتهي الأمر بوقوف النادي وقائده التاريخي في ساحة القضاء!
إنه ليس قائد برشلونة فحسب، لكنه أفضل لاعب في تاريخ النادي، بل وربما أفضل لاعب في تاريخ الساحرة المستديرة ككل. وبالتالي، لا يوجد حل مرض للطرفين الآن. وإذا انتهت المعركة عندما اضطر ميسي لإبلاغ برشلونة بقراره، فإن هذا يعني أن برشلونة قد خسر الحرب بالفعل. فكيف سيتصرف النادي في هذا الموقف؟ وكيف وصل إلى هذه النقطة من الأساس؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون الأمر سيئاً لو صمم ميسي على الرحيل -ويبدو أنه مصمم للغاية في واقع الأمر لدرجة أنه قرر إبلاغ النادي بهذه الطريقة؟ عندما نعود بضع سنوات إلى الوراء، سندرك أن ميسي عندما جدد تعاقده مع النادي في عام 2017، كان مصمماً على وضع شرط يسمح له بالرحيل وقتما يريد.
لكنه على مدار العامين الماضيين لم يرحل، رغم أنه كان بإمكانه القيام بذلك. لكن الفريق واصل الانهيار، وتدهور النادي بشكل واضح للجميع، وتعرض لخسارات ثقيلة في كثير من المناسبات: أمام روما وليفربول، وفي لشبونة. واتسعت الفجوة بين مجلس إدارة النادي وميسي، بعدما فشل المسؤولون في أن يجعلوه يشعر بالسعادة. وقال ميسي بحسرة: «إننا لا نعطي المشجعين شيئاً». ورغم أنه لا يمكن إعفاء ميسي من المسؤولية تماماً، فإنه شاهد أفضل سنوات مسيرته الكروية تمر أمامه من دون أن يحصل على لقب دوري أبطال أوروبا، ورأى زملاءه وهو يرحلون واحداً تلو الآخر، ورأى لاعبين جدداً وهم يأتون ويفشلون. وبالتالي، رأى النجم الأرجنتيني أن الوقت قد حان للانسحاب، والبحث عن تجربة جديدة.
ولا تتمثل الصدمة في أن ميسي الذي ظهر غضبه وإحباطه بشكل متزايد في الفترة الأخيرة قد اتخذ هذا القرار، ولا تتمثل في أن العلاقة بينه وبين المسؤولين سيئة، لكنها تتمثل في أن العلاقة قد وصلت إلى هذه الدرجة من السوء! لقد كانت هناك مواجهة بين الطرفين، وكانت هذه المواجهة على الملأ في كثير من الأوقات، وكان من الواضح أن غضب ميسي يزداد بمرور الوقت، لكن لم يكن أي شخص يشعر بأن هناك تهديداً حقيقياً لبقاء النجم الأرجنتيني في برشلونة، وبالتأكيد لم يكن النادي يرى هذا التهديد من الأساس، وكان يتعامل مع ما يقوم به ميسي على أنه شكل من أشكال الردع، وليس تهديداً حقيقياً. لم تكن المفاجأة في وجود مشكلات بين الطرفين، لكنها كانت في عمق وشدة هذه المشكلات التي اتضح أنه لا يمكن إيجاد حلول لها. وعندما بدأ النادي يتحرك الآن، عمق هذه المشكلات، بدلاً من أن يحلها.
ويجب أن نعرف أن هذه الأزمة مستمرة منذ 5 سنوات أو أكثر، ووصلت إلى الدرجة التي جعلت ميسي يقرر التضحية بكل شيء: ناديه، ومنزله، وخططه المستقبلية. وعندما اتخذ ميسي هذا القرار، أعلن كارليس بويول دعمه له، ورد لويس سواريز بالتصفيق، وقال أرتورو فيدال إنه عندما يُحَاصر النمر، فلا بد أن يخرج للقتال. لقد تحول الأمر إلى حرب، وبات العداء واضحاً للجميع على الملأ. وفي خضم هذا الصراع، ما الخيارات المتاحة للنادي الكاتالوني، بعدما قرر أهم وأفضل رمز في تاريخ النادي الرحيل؟ ولا توجد هناك طريقة الآن للتراجع. وحتى لو تم إقناع ميسي بالبقاء، فإن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه مرة أخرى.
لقد رأى بعضهم تحرك ميسي وسيلة للضغط، ومحاولة أخيرة لفرض التغيير في أعلى المناصب التنفيذية بالنادي، لكن الأمور تجاوزت حتى رئيس النادي بارتوميو الذي قرر ألا يستقيل مهما حدث. ومن المؤكد أن القرار الذي اتخذه ميسي سوف يغير كل شيء بالنسبة للجميع، ويتسبب في أضرار بالغة، ليس لأن ميسي قرر الرحيل عن النادي، ولكن بسبب الطريقة التي رحل بها. وسيعاني برشلونة كثيراً، حتى لو حصل على ما يكفي من المال لحل الأزمة المالية التي يعاني منها -من الممكن أن يحصل على 300 مليون يورو من بيع ميسي، بالإضافة إلى توفير راتبه الضخم- وحتى لو تمكن من بناء فريق قوي يفوز من دون ميسي، وحتى لو خرج كثير من اللاعبين من ظل ميسي، وحتى لو لم يقدم النجم الأرجنتيني المستوى المتوقع منه مع النادي الجديد الذي سينضم إليه، وحتى لو أعرب بعد ذلك عن ندمه على الرحيل. حتى لو حدث كل ذلك، فإن برشلونة كان يتمنى ألا تحدث هذه الخطوة، وكان يمني النفس بأن يلعب النجم الأرجنتيني آخر مباراة في مسيرته الكروية بقميص برشلونة.
هداف خرافي، محطم لأرقام قياسية لا تحصى، متوج بجائزة الكرة الذهبية في 6 مناسبات، يجمع 34 لقباً في رصيده، أمضى ميسي مسيرة كاملة امتدت لأكثر من 20 عاماً مع ناد واحد هو برشلونة، حتى بات كبيراً جداً عليه، وراغباً اليوم بالرحيل عنه. أصبح ميسي في الوقت عينه أيقونة عالمية في كرة القدم، وهو يشكل مدعاة فخر محلياً بقدر ما هو رمز عالمي. وكان إعلان الثلاثاء عن رغبته في الرحيل عن النادي الذي نشأ فيه بمثابة زلزال هز المدينة التي تخيلت أن ينهي مسيرته في ملعب «كامب نو». وقال المدير الرياضي الجديد بلانز، بعد إعلان النجم الأرجنتيني رغبته في الرحيل: «زواج ميسي مع برشلونة حقق الكثير للاثنين؛ يجب أن يكون هناك احترام هائل لما يمثله ميسي ولتاريخه».
ولن يؤثر رحيل ميسي على الفريق خلال العام المقبل فقط، لكنه سيؤثر عليه كل عام، وستظل لحظة رحيل النجم الأرجنتيني موجودة دائماً جزءاً من الإرث الضائع الذي خسره النادي، والذي كان يتمنى ألا يفقده. لقد تحول رحيل ميسي إلى رمز للانهيار، والفشل الذريع الذي عانى منه النادي، والأزمة التي دمرت كل شيء في وجهها. وسيتذكر المشجعون دائماً الوقت الذي ساءت فيه الأمور لدرجة أن أفضل لاعب في تاريخ النادي قرر أن يرحل عن طريق إرسال خطاب لمجلس إدارة النادي بهذه الطريقة!
بعد ميسي... برشلونة لن يعود أبداً كما كان
قد يندم النجم الموهوب يوماً ما إذا رحل... ولكن ندم الفريق الكاتالوني سيكون أشد مرارة
بعد ميسي... برشلونة لن يعود أبداً كما كان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة