فلسطين.. حلم الدولة

تؤسس له الاعترافات الدولية لكنها لا تكفي لتحقيقه على أرض الواقع

فلسطين.. حلم الدولة
TT

فلسطين.. حلم الدولة

فلسطين.. حلم الدولة

لم تبق دولة وازنة إلا وتحركت هذا الأسبوع على طريق إقامة الدولة الفلسطينية التي ينشدها الفلسطينيون منذ عقود طويلة.
صحيح أن الطريق لا زال طويلا وصعبا، ولكن لأول مرة يقول داعمو الفلسطينيين والإسرائيليين، إن الهدف النهائي من كل التحركات «محل النقاش»، هو إقامة الدولة الفلسطينية. وشهدت عواصم العالم هذا الأسبوع نقاشات أميركية أوروبية عربية فلسطينية مكثفة من أجل الوصول إلى مشروع معقول يقدم لمجلس الأمن بعدما هدد الفلسطينيون بتقديم مشروع منفصل لإنهاء الاحتلال للمجلس، وبادر الفرنسيون إلى طرح مشروع بديل لعملية السلام.
حتى الأمس كان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، يقوم بجهود اللحظة الأخيرة لمنع تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يفرض جدولا زمنيا لدفع إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والتقى وزراء خارجية أوروبيين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات ووزراء خارجية عربا.
وتحاول الأطراف جميعا في هذا الوقت الوصول إلى مشروع متفق عليه. وأكد السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، رياض منصور، لـ«الشرق الأوسط»: «نحن نرى أنه أوان الحسم ولم يعد يمكن الانتظار أكثر». وأضاف: «قررنا تقديمه فورا لأنه لم يعد ممكنا انتظار المتلكئين ولأنه يجب أن يعرفوا أن ساعة الحسم اقتربت». وأوضح منصور أن المشاورات مع الأوروبيين بشأن المشروع الفرنسي الذي يوازي مشروع إنهاء الاحتلال متقدمة والمواقف قريبة، لكنه قال إن الخلاف الآن مع واشنطن. وأوضح منصور أن المطلوب من الولايات المتحدة الآن دعم المشروع الأوروبي في هذا الوقت من أجل التفاوض حول الصياغة. فهل تقرب كل هذه التحركات إقامة الدولة الحلم؟ على أي حال لا ينوي الفلسطينيون التوقف عن جلب اعترافات إضافية بهذه الدولة، بغض النظر عما ستؤول إليه عملية السلام.. فما هو مصير مشاريع القرارات التي ينوون تقديمها إلى مجلس الأمن والمنظمات الدولية الأخرى، أو تلك التي تقدم لهم؟
ولا يخلط الفلسطينيون بين هذه القضية (الاعترافات) والقضايا الأخرى، إذ يعدون الاعتراف بدولتهم حقا خالصا في تقرير المصير وليس مرتبطا بأي شيء آخر، لكنه أيضا، وفوق ذلك يكتسب أهمية خاصة على المدى الحالي والمتوسط والبعيد.
بات يعترف بالدولة الفلسطينية حتى الآن 135 دولة ليس بينهم الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي، باستثناء السويد التي اعترفت بفلسطين في أكتوبر (تشرين الأول)، وأصبحت أبرز دولة غربية أوروبية تعترف بالدولة الفلسطينية. وكان الاعتراف السويدي مهما ومفصليا على هذا الطريق الطويل والذي يكسب فيه الفلسطينيون نقاطا كل يوم إذا لم يكن على صعيد الاعترافات الرسمية، فعلى صعيد تأييد البرلمانات لمثل هذه الاعترافات وحث حكوماتهم على ذلك.
وقالت مصادر فلسطينية حكومية لـ«الشرق الأوسط» إن التركيز الفلسطيني منصب الآن على دول يتوقع أن تنضم إلى السويد، وهي البرتغال وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا وآيرلندا والتي أيد بعض برلماناتها مثل هذا الاعتراف.
وكانت البرلمانات في إسبانيا وبريطانيا وآيرلندا وفرنسا أجرت تصويتا دعمت فيها قرارات غير ملزمة لصالح الاعتراف بدولة فلسطينية.
ويرى الفلسطينيون أن ما يحدث في برلمانات دول أوروبية عريقة وبهذا الحجم إنما يمثل صحوة ضمير يمكن التعويل عليها.
ويقول القيادي في حركة فتح عبد الله عبد الله، وهو نائب مفوض العلاقات الدولية في الحركة، إن «الاعترافات بالنسبة لنا تساعد وتوسع قاعدة تجسيد دولتنا على أرض الواقع». وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «نحن الآن نؤسس لمرحلة فلسطين ومراحل أخرى من بينها عزل إسرائيل ومن ثم إمكانية محاكمتها». وتابع: «الاعترافات تعني أن العالم يؤمن بالحق في إقامة الدولة والحقوق الأخرى التي تترتب على ذلك».
وقال الرئيس محمود عباس، السبت الماضي، إن توالي الاعترافات الدولية بدولة فلسطين تؤكد وجود صحوة ضمير دولي تجاه الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة، مؤكدا أن الجهود متواصلة لجلب اعترافات أخرى.
وحرص عباس على التأكيد أن ذلك ليس له علاقة بالتحركات الأخرى حتى لو اعترف العالم كله. ويواصل دبلوماسيون فلسطينيون في هذا الوقت زيارة دول غربية لم تعترف بفلسطين لحثها على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن فشلوا، فعلى الأقل الحصول على تأييد برلماني لذلك بهدف المزيد من الضغط على الحكومات الرافضة.
وتقول منظمة التحرير الفلسطينية إن الحصول على العضوية في الأمم المتحدة لن تزيل الاحتلال العسكري الإسرائيلي عن الأرض الفلسطينية بشكل فعلي، ولكن هذه خطوة حيوية وستسهم بشكل مباشر في إنهاء الاحتلال وتحقيق الحقوق الفلسطينية.
ويمكن تلخيص الرؤيا الفلسطينية في مسألة الاعترافات بما كتبه كبير المفاوضين الفلسطينيين ورئيس دائرة شؤون المفاوضات الدكتور صائب عريقات، في دراسة مستفيضة حول الأمر، «إن اعتراف الأسرة الدولية، ممثلة بالأمم المتحدة، بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره هو موقف دولي رسخ في قرارات عدة من ضمنها قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (3236) و(2649) و(65 / 455) والتي أكدت أن حق الفلسطينيين في تقرير المصير هو حقٌ غير قابل للتصرف، وأن من حق الشعب الفلسطيني إقامة دولة مستقلة وذات سيادة». كما أكد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (2672) على أن احترام حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف يشكل جزءا حيويا من التوصل إلى سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط. وفضلا عن ذلك، أقرت محكمة العدل الدولية في فتواها الاستشارية الصادرة في عام 2004 بشأن تشييد جدار الفصل في الأرض الفلسطينية المحتلة، بعدم قانونية تقويض حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وأضاف عريقات أن «الاعتراف بدولة فلسطين على حدود عام 1967 هو استثمار في السلام وهو قرار سيادي لكل دولة بعينها. كما أنه يرسخ عدم أحقية إسرائيل بأي جزء من الأرض التي احتلتها في عام 1967 وهذا يتفق مع قرار مجلس الأمن 242 والذي أكد على عدم أحقية الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. مضيفا: «تأييد فلسطين في طلبها يمثل خطوة سلمية تسهم في تطبيق القانون الدولي وتعيد التأكيد على التزام المجتمع الدولي بحل الدولتين».
وأكثر ما يتطلع إليه الفلسطينيون اليوم هو مزيد من الاعترافات الأوروبية تحديدا. وينظر الفلسطينيون إلى اعترافات الدول الأوروبية على أنها تكتسب أهمية استثنائية وفائدة مضاعفة.
وقال الناطق باسم الحكومة الفلسطينية إيهاب بسيسو لـ«الشرق الأوسط»: «دول الاتحاد الأوروبي لها وزنها السياسي والاقتصادي». وأضاف: «علاقتنا بهم متكاملة، اقتصادية وسياسية واستراتيجية ولا يمكن التهاون في أهميتها أبدا». ويرى بسيسو أن مكانة وأهمية دول الاتحاد الأوروبي تأتي من عدة جوانب، «أولا، العامل الجغرافي، نحن نشترك مع دول الاتحاد الأوروبي في حوض المتوسط، وعلاقة الجوار لها تفسيرات كثيرة اقتصادية وسياسية وأمنية، وثانيا العامل الاقتصادي وهو عامل مادي وسياسي، هناك دائما نظرة وخطط لدى الحكومة لتطوير العلاقات الاقتصادية مع دول الاتحاد من خلال التجارة والصناعة، وهناك العامل السياسي، وللاتحاد دور مهم على هذا المستوى ومواقف مؤثرة متعلقة بمواضيع الحدود والمستوطنات والقدس وقضايا أخرى». وتابع: «نحن ندرك أهمية الاتحاد وبعض الدول فيه التي لها تأثيرها في السياسات الدولية». وشدد بسيسو على أن الحكومة الفلسطينية تتطلع إلى علاقة أوسع مع دول الاتحاد ومزيد من الدعم السياسي للحقوق الفلسطينية المتمثلة بإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 مع عاصمتها القدس.
وفي الفترة القليلة الماضية بدت دول الاتحاد الأوروبي أكثر استعدادا لدعم هذا الحق الفلسطيني، كما أن دعمهم للفلسطينيين قد يكون مؤثرا في معركة مجلس الأمن الفاصلة والتي من شأنها أن ترسم شكل العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية في المرحلة المقبلة.
ويخطط الفلسطينيون لتقديم مشروع قرار لمجلس الأمن هذا الشهر يطالب بتحديد موعد نهائي لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأرض الفلسطينية وإقامة الدولة.
وأكد ممثل فلسطين لدى الأمم المتحدة رياض منصور لـ«الشرق الأوسط»، أن النقاش مع المجموعة الأوروبية التي تملك 4 أصوات من أصل 15 لدعم القرار الفلسطيني، ما زال مستمرا، موضحا أنهم يعولون على المجموعة، لأن من شأن الدعم الذي تقدمه في هذا المجال أن يؤثر كذلك في موقف الولايات المتحدة. لكن منصور أوضح أن ثمة نقاشا آخر مع المجموعة متعلق بمشروع فرنسي من أجل العودة إلى المفاوضات. ودخل النقاش بين الفلسطينيين والفرنسيين حول مشروع القرار الذي سيدعو لإحياء مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين بهدف التوصل إلى اتفاق نهائي تقام بعده الدولة الفلسطينية، مرحلة متقدمة مع دخول دول أوروبية أخرى على خط المباحثات.
ويريد الفرنسيون وضع سقف زمني محدد لمفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي حتى نهاية عام 2017، تقوم بعدها فرنسا ودول أوروبية أخرى بالاعتراف بدولة فلسطين. وكشف الفلسطينيون هذا الأسبوع أن ألمانيا وبريطانيا دخلتا على خط المباحثات لصياغة مشروع القرار، لكن خلافات دبت مع بريطانيا سريعا بعدما عرضت تضمين المشروع الاعتراف بالدولة اليهودية من خلال كتابة بند حول القرار 181 وتوضيح أنه ينص على دولة عربية ودولة يهودية، إضافة إلى اقتراحات أخرى تتحدث عن إعادة توطين وتعويض اللاجئين الفلسطينيين، ونزع سلاح الدولة الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن المشروع الفرنسي جاء في وقت يعتزم فيه الفلسطينيون تقديم مشروع لمجلس الأمن يطلب إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، فإن الفلسطينيين يحاولون عدم الخلط بين المشروعين، لكن مسؤوليين اتهموا فرنسا بمحاولة التحايل على مشروعهم المتعلق بإنهاء الاحتلال عبر تقديم مشروع ثانٍ.
وفي الوقت الذي ألمحت فيه مصادر فلسطينية وعربية إلى أنه يمكن التوصل إلى مقاربة تجعل من المشروعين مترابطين، أو تأجيل المشروع الفلسطيني (إنهاء الاحتلال) لوقت آخر، حسم الرئيس الفلسطيني الجدل الأحد الماضي، وقال إنه ماضٍ في مشروع إنهاء الاحتلال.
وشدد عباس على أن الفلسطينيين ذاهبون لمجلس الأمن هذا الشهر، مضيفا: «من أراد أن يسهم في وضع المسودة فليتفضل، ولكن لن نتأخر فلماذا التأخير، فالمسودة موجودة لدى مندوب فلسطين في الأمم المتحدة، وهو يقود المداولات مع السفير الأردني ممثل المجموعة العربية في مجلس الأمن، ويستطيع الجميع تقديم اقتراحاتهم»
وتابع: «لا يوجد هناك خطأ واحد في مشروع القرار، لأنه يتكلم عن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وفق سقف زمني محدد، فحدود عام 1967 واردة في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67 / 19 في 29 - 12 - 2012، والجديد في المشروع الفلسطيني هو تحديد فترة إنهاء الاحتلال».
ويضع الفلسطينيون بدائل صعبة إذا ما فشل القرار. وقال عباس نفسه: «إذا لم نحصل على قرار في مجلس الأمن هناك خطوات سنتخذها. إذا لم نذهب إلى مجلس الأمن فإلى أين نذهب، كما أخذوني إلى محكمة الجنايات الدولية سآخذهم إليها كذلك».
ويمكن القول إن عباس يريد الآن الوصول إلى مرحلة «حسم»، فبعد أن خاض الرجل آلاف الساعات للتفاوض مع المسؤوليين الإسرائيليين، ووقع مئات الاتفاقات معهم، ما زال يبحث عن حلم دولته على 22 في المائة فقط من أرض فلسطين التاريخية، وهي مساحة تتبدد وتصغر مع الأيام، بفعل المستوطنات والمصادرات والمناطق العسكرية الإسرائيلية المغلقة.
وطالما قال عباس إن الفشل في المفاوضات لإقامة الدولة اضطرته إلى تدويل قضيته والذهاب للبحث عنها عبر مجلس الأمن والمؤسسات الدولية الأخرى.
ولكن يواجه الفلسطينيون قوتين لا يمكن الاستهانة بهما، بل إنهما عطلا سابقا وما زالا يعطلان الحلم الفلسطيني. وأعلنت الولايات المتحدة الأميركية صراحة وإسرائيل بطبيعة الحال أنهما ضد أي تحرك فلسطيني «منفرد» في مجلس الأمن، وأبلغ وزير الخارجية الأميركي جون كيري الرئيس عباس أن بلاده ستسقط مشروع القرار وأنه قد يكون له تداعيات سياسية واقتصادية، بل هاجمت الولايات المتحدة وإسرائيل الدول التي اعترفت بفلسطين.
ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاعترافات الرسمية والتصويت الذي جرى في البرلمانات بأنه «خطأ جسيم».
أما السيناتور الأميركي الجمهوري جون ماكين فأكد أن الولايات المتحدة لن تعترف بالدولة الفلسطينية من طرف واحد، موضحا أن هذا الاعتراف لم ولن يكون على الإطلاق سياسة بلاده. وفي رده على قرار عدد من الدول الأوروبية الاعتراف رسميا بهذه الدولة، قال ماكين إن «هذه لن تكون أبدا سياسة الولايات المتحدة التي لن تعترف بفلسطين من طرف واحد».
والعلاقة السيئة بين إسرائيل الدول الأوروبية بسبب الفلسطينيين لم تبدأ بهذه الاعترافات الأخيرة، ولكنها تتصاعد منذ سنوات بسبب اتخاذ الاتحاد الأوروبي مواقف متقدمة مؤيدة للفلسطينيين.



جبهة لبنان: المُسيَّرات الهجومية عنوان «معركة الاستنزاف»

قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
TT

جبهة لبنان: المُسيَّرات الهجومية عنوان «معركة الاستنزاف»

قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)
قصف إسرائيلي يستهدف أحد مواقع "حزب الله" (رويترز)

رفعت إسرائيل من وتيرة عملياتها في العمق اللبناني، مستهدفةً بشكل ممنهج مواقع لـ«حزب الله»، ومنفّذة عمليات اغتيال طالت قادة ميدانيين، في حين يردّ الحزب بضرب مواقع إسرائيلية ذات بُعد استراتيجي. أما القاسم المشترك بين الطرفين فيتمثّل باستخدامهما أسلحة جديدة أبرزها المُسيَّرات الهجوميّة التي باتت وسيلة فاعلة على الجبهتين، وعنوان «معركة الاستنزاف» المستمرّة منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. يتمسّك «حزب الله» حتى الآن بقواعد الاشتباك، وعدم تغيير ظروف اللعبة تجنباً لحربٍ واسعة تريدها إسرائيل وتسعى لاستدراجه إليها، بينما تُوسّع تل أبيب دائرة استهدافها العمق اللبناني ويشّن طيرانها الحربي غارات تطول معظم بلدات الجنوب وأطراف مدينة صيدا وصولاً إلى البقاع الذي يشكل امتداداً لبيئة الحزب، وقد أسفرت غارة إسرائيلية قبل يومين على منطقة الزهراني في قضاء صيدا، عن مقتل عنصر في الحزب وطفلين سوريين، كما كثّفت غاراتها على بلدات جنوبية منها النجارية والعدوسيّة القريبتين من مدينة صيدا البعيدة جداً عن الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.

في حين نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤولين عسكريين قولهم إن إيران نقلت وسائل دفاع جوي متقدمة لـ«حزب الله»، مستندين في ذلك إلى صور من موقع عسكري هاجمه الجيش الإسرائيلي، أدخل «حزب الله» في المقابل أسلحة جديدة على المعركة لإظهار قدراته القتالية، ومحاولة خلق «توازن رعب» جديد مع إسرائيل.

وفي هذا الإطار أعلن الحزب عن «تنفيذ عملية بواسطة مُسيَّرة هجوميّة مسلّحة مزوّدة بصاروخين من طراز (إس – 5) على موقع عسكري في المطلة بأقصى شمال شرقي إسرائيل، قبل أن تنفجر». وأيضاً نشر مقطع فيديو يوثّق تحليق المُسيَّرة باتجاه الموقع حيث توجد دبابات ولحظة إطلاقها الصاروخين ثم انفجارها.

دخول الأسلحة الجديدة على المعركة لا يعني بالضرورة أن الحزب يهيئ الأرضية لفتح جبهة الجنوب على امتدادها، بقدر ما هو توجيه رسائل إلى الجانب الإسرائيلي تفيد بأن المغامرة العسكرية ستكون أثمانها مكلفة جداً.

وهنا أشار الدكتور رياض قهوجي، مدير مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري والخبير في شؤون الأمن والتسلّح، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «حزب الله لم يستخدم كل أسلحته منذ البداية، بل آثر أن يرسم لنفسه قواعد الاشتباك المناسبة، ويحصر عملياته العسكرية ضمن جبهة معينة مع إسرائيل».

ولفت قهوجي أيضاً إلى أن الحزب «لا يزال يعتمد على صواريخ (كاتيوشا) و(غراد) إلى جانب صاروخ أطلق عليه اسم (البركان) هو عبارة عن صاروخ (غراد) معدّل برأس أكثر قوّة». ووفق قهوجي فإن «استخدام الحزب الأسلحة التكتيكية، أي الصواريخ المضادة للدروع مثل (كورنيت)، تبقى استراتيجية أكثر فاعلية، لأن الضرر الذي ينجم عن (كاتيوشا) و(غراد) محدود الفاعلية، بالنظر إلى امتلاك إسرائيل قبّة حديدية قادرة على تدمير هذه الصواريخ في الجوّ».

المُسيَّرات الانقضاضيّة

في هذه الأثناء، يواظب «حزب الله» على تصوير عملياته التي تستهدف مواقع إسرائيلية قريبة من الحدود اللبنانية، لسببين:

الأول، إظهار قدرته أمام جمهوره وبيئته على إلحاق الخسائر بالعدو والردّ على الاغتيالات التي تطول قيادييه وكوادره.

والثاني، التأثير النفسي على الجانب الإسرائيلي. وكان الحزب قد أعلن أخيراً «استهداف نقطة تموضع واستقرار لجنود العدو في موقع رويسة القرن في مزارع شبعا اللبنانية بصاروخ موجّه». وذكر في بيان له أن العملية «حققت إصابات مباشرة، مما أدى إلى اشتعال النيران فيها في الموقع المذكور».

ضمن هذا السياق، لا يُخفي رياض قهوجي أن «استخدام الحزب الصواريخ الموجَّهة والطائرات المُسيَّرة الانقضاضية أو الانتحارية، نجح في إيقاع إصابات في صفوف الجنود الإسرائيليين... وكلما اقترب الهدف من الحدود اللبنانية قلّت قدرة إسرائيل على اعتراض مُسيَّرات وصواريخ الحزب وإسقاطها».

تشييع عباس شومان أحد عنصر "حزب الله" (رويترز)

عمليات مركّبة

في المقابل، فرض تفوّق الجيش الإسرائيلي، خصوصاً في سلاح الجوّ والدفاعات الجوية، على «حزب الله» تكتيكات معيّنة، فبدأ الأخير استخدام الطائرات المُسيَّرة بشكل منسق مع الصواريخ الموجهة، في ممارسة أطلق عليها تسمية «العمليات المركّبة».

وعودة إلى رياض قهوجي، فإن «العنوان الأساسي للمعركة الحالية هو الاستنزاف، لأن الحزب لم يتوقّع أن تستمر هذه الحرب لسبعة أشهر». وهنا قدّم الخبير الاستراتيجي اللبناني مقاربة مختلفة لرؤية إسرائيل لهذه الحرب، إذ شدّد على أن الجيش الإسرائيلي «ألغى قواعد الاشتباك وأزال الحدود أمام عملياته، مستخدماً قدراته وتفوّقه الجوّي... وهو ينجح بالاستهداف النوعي ويختار أهدافه عبر اغتيال قادة ميدانيين وكوادر أساسية في الحزب ذات خبرة قتالية عالية وواسعة، بالإضافة لاستهدافه مخازن أسلحة ومواقع سيطرة، فضلاً عن تدمير بلدات وقرى تشكِّل البيئة الحاضنة للحزب، من أجل زيادة الضغط عليه». ثم أردف: «لا شك في أن الجانب الإسرائيلي يستخدم جميع أنواع الأسلحة ضمن استراتيجية واحدة هي الاغتيالات والاستنزاف وتدمير قدرات الحزب بشكل ممنهج».

تحييد المدن الكبرى

لا خطوط حمراء أمام العمليات الإسرائيلية التي بلغت منطقة البقاع الشمالي وصولاً إلى مواقع «حزب الله» في ريف مدينة القصير السورية، لكنها ما زالت تتجنّب قصف المدن الكبرى مثل صور وصيدا وبيروت. وحسب رأي قهوجي، فإن «تحييد إسرائيل للمدن الكبرى إنما هو لتجنيب مدنها صواريخ (حزب الله)، وهذه قاعدة الاشتباك الوحيدة التي يلتزم بها الطرفان». ومن ثم لفت إلى أن الحزب «يمتلك تشكيلة كبيرة من الأسلحة، خصوصاً في مجال الدفاع الجوي، وقد قدّم نموذجاً منها عندما أسقط ثلاث مُسيَّرات إسرائيلية من طراز (هيرمز 450) و(هيرمز 950)، لكنَّ هذا التقدّم لا يعني تهديد السيطرة الجوية الإسرائيلية، فهي ذات قدرات محدودة أمام الطائرات الحربية النفّاثة، وهذه الصواريخ استُخدمت في سوريا في مواجهة القصف الذي يطول مواقع للحزب وإيران ولم يُثبت فاعليته».

اغتيال القادة الميدانيين

على صعيد آخر، لوحظ بوضوح في الفترة الأخيرة، أن إسرائيل هي التي تسارع إلى الكشف عن اسم الشخصيّة العسكرية التي يغتالها قبل أن يعلن عنه «حزب الله» عن هويّة المستهدف من قادته الميدانيين ودوره وأهميته في الجبهة.

وخلال الساعات الماضية أعلن الجيش الإسرائيلي عن «تنفيذ عملية اغتيال جديدة طالت مسؤولاً في (حزب الله) يتولى قيادة وحدة صاروخية في منطقة ساحل جنوب لبنان». وقال الناطق العسكري الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، إن الجيش «نفّذ غارة جوية في منطقة صور، هاجم فيها قاسم سقلاوي، قائد الوحدة الصاروخية في منطقة الشاطئ في (حزب الله)». وأضاف أدرعي أن سقلاوي «كان مسؤولاً عن التخطيط والتنفيذ لعمليات إطلاق قذائف صاروخية نحو الجبهة الداخلية الإسرائيلية، حيث عمل على تنفيذ وتخطيط عمليات إطلاق قذائف صاروخية، وأخرى مضادة للدروع نحو إسرائيل من منطقة الشاطئ في لبنان»، في إشارة إلى منطقة الساحل الجنوبي.

ورداً على هذا الاغتيال والعملية الإسرائيلية في مدينة القصير السورية، التي تسببت بمقتل اثنين من عناصره، أعلن «حزب الله» أن مقاتليه «هاجموا موقع المطلة ‏وحاميته وآلياته بمُسيَّرة مسلّحة بصاروخي (إس 5)، وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها الحزب هذا النوع من الصواريخ التقليدية غير الموجهة».

معركة استنزاف

ثم إنه صحيح أن المواجهة وضعت «حزب الله»، كما وضعت إسرائيل، أمام معركة استنزاف لم يتوقعها الطرفان، لكن رغم ارتفاع أثمانها والخسائر التي يتكبّدها الحزب فإنه لا مؤشرات على استعداده للذهاب إلى «حربٍ شاملة»، بخلاف حكومة إسرائيل التي تسعى لإشعال الجبهة مع لبنان، رافضةً الضغوط الأميركية والأوروبية. غير أن مصدراً مقرّباً من «حزب الله» قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأخير «ليس في مرحلة استنزاف كما يروّج البعض». وتابع أن الحزب «يضع نفسه في حالة مواجهة دائمة مع الجانب الإسرائيلي، ولذلك يرى أن معركة إشغال إسرائيل ومساندة غزة لا تزال في بدايتها، وأن الحزب يملك نفساً طويلاً في كلّ حروبه من إسرائيل».

ومن ثمَّ أكد المصدر المقرّب من الحزب أن «المقاومة تحتفظ بكثير من المفاجآت التي ستصدم العدو وحلفاءه وليس العكس». وأضاف شارحاً أن «المقاومة في حالة حرب مع الإسرائيلي منذ اجتياح بيروت في عام 1982، وبقيت في هذه الوضعية حتى بعد تحرير الجنوب في 25 مايو (أيار) 2000، لأن العدو لم يُخفِ يوماً نيّاته العدوانية تجاه لبنان». واستطرد: «ما دام الإسرائيلي فتح الحرب في غزة، ووضع لبنان أمام خطر الحرب منذ الثامن من أكتوبر، فعليه أن يتحضّر للمفاجآت إذا ما اختار توسيع المواجهة».

منطقة عازلة

أخيراً، حول احتمالات المستقبل، يُجمع الخبراء على أن جبهة جنوب لبنان ستبقى مشتعلة، إلى أن تتبدّل الظروف التي كانت قائمة قبل السابع من أكتوبر الماضي، وأن تل أبيب لن تقبل بوقفٍ لإطلاق النار قبل إقامة «منطقة عازلة» في جنوب لبنان، تقع تحت سيطرة قوات «يونيفيل» والجيش اللبناني، وخالية من أي وجود لمقاتلي «حزب الله».

وفي رأي أحد الخبراء، فإن حكومة إسرائيل «ستعمل على فرض واقع أمني في جنوب لبنان، كي لا تستفيق يوماً على (طوفان أقصى جديد) ينطلق من جنوب لبنان إلى الجليل الأعلى ومستوطنات الشمال... ولذلك نراها ترفض عودة مواطنيها إلى منازلهم في المناطق القريبة من حدود لبنان قبل الانتهاء من هذه الورقة الأمنية، سواء بالحلّ الدبلوماسي أو بالعمل العسكري أياً كانت نتائجه». لا خطوط حمراء أمام العمليات الإسرائيلية التي بلغت منطقة البقاع الشمالي وصولاً إلى مواقع «حزب الله» في ريف مدينة القصير السورية

منظر لقطاع من الجبهة المفتوحة في جنوب لبنان (رويترز)

حسابات أوراق القوّة... والخسائر البشرية

> تأهباً للحرب الشاملة التي تتفوّق فيها إسرائيل عتاداً وعديداً تكنولوجياً، فإن «حزب الله» يخبئ أوراقاً قويّة تحضيراً لها. وهنا، أفاد الخبير الاستراتيجي الدكتور رياض قهوجي، بأن الحزب «لا يزال يمتلك ترسانة من الصواريخ الباليستية والصواريخ الدقيقة القادرة على ضرب العمق الإسرائيلي إذا حصل التصعيد في أي وقت». وجزم قهوجي بأن «حزب الله لا يريد الحرب، وهو يعدّل تكتيكاته عبر الصواريخ الموجَّهة والمُسيرات الانقضاضيّة لإيقاع إصابات في إطار حرب الاستنزاف، بخلاف الإسرائيلي الذي يسعى إلى حرب واسعة، لكن عندما تقع هذه الحرب سيُظهر الحزب أوراق القوّة لديه».والمعروف أنه عند كلّ زيارة يقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أو وزير الدفاع يؤاف غالانت، أو رئيس الأركان هرتسي هاليفي، يحضّ هؤلاء جنودَهم على الاستعداد لمعركة طويلة مع لبنان بما فيها احتمال الاجتياح البرّي، ويتكلمون عن «بنك أهداف» كبير ووسائل ربما تكون «حرب 2006» نزهة أمام ما سيحدث.على هذا، ردّ المصدر المقرّب من «حزب الله» بأن إسرائيل «تمارس حرباً نفسيّة على لبنان وحزب الله للخضوع لشروطها»، وشدد على أن الحزب «حدّد بدوره بنك الأهداف داخل الكيان الإسرائيلي في أي مواجهة قادمة». وأضاف: «لقد أعلن (أمين عام حزب الله) السيد حسن نصر الله، أن ضرب بيروت سيقابله تدمير تلّ أبيب، وضرب المنشآت المدنية سيقابَل بتدمير أهداف مدنية استراتيجية لدى العدو، بما فيها منصات الغاز في حقل كاريش».وفي حين لم يكشف الجانب الإسرائيلي عن خسائره البشرية جرّاء عمليات «حزب الله» ضدّ مواقعه وتجمعات جنوده، أعلنت مؤسسة «الدولية للمعلومات» عن سقوط 428 قتيلاً لبنانياً بالقصف الإسرائيلي على لبنان، غالبيتهم من «حزب الله». وأفادت «الدولية للمعلومات» في نشرتها الشهرية، بأنه «منذ عملية طوفان الأقصى في غزة التي بدأت فجر يوم السبت 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ولغاية صباح الأربعاء 22 مايو (أيار) 2024، وصل عدد الشهداء 428 شهيداً، أكثريتهم السّاحقة من حزب الله». وأشار إلى أن القتلى توزّعوا على الشكل التالي:- مقتل جندي واحد للجيش اللبناني سقط يوم الثلاثاء 5 ديسمبر (كانون الأول) 2023، عندما قصفت إسرائيل أحد مراكز الجيش في بلدة العديسة الحدوديّة.- 305 لـ«حزب الله» و18 لحركة «أمل» وواحد للحزب السوري القومي الاجتماعي في 15 ديسمبر 2023، و3 من الإعلاميين.- 61 مدنياً من بينهم الجدة سميرة أيوب وحفيداتها الثلاث اللواتي استُشهدن يوم 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 في الطريق بين عيترون وعيناتا.- عائلة البرجاوي وأقاربهم الذين قضوا يوم الأربعاء 14 فبراير (شباط) 2024.- عائلة فادي حنيكي (الذين قُتلوا داخل منزلهم) في ميس الجبل في 5 مايو 2024.- 9 من الهيئة الصحية الإسلامية التابعة لـ«حزب الله»، و5 من الجماعة الإسلامية، و7 من مسعفي الهيئة الطبية الإسلاميّة التابعة للجماعة الإسلاميّة أُصيبوا في بلدة الهبّارية، و3 من كشافة الرسالة الإسلامية التابعة لحركة «أمل»، و7 سوريين، و8 فلسطينيين.