بعدما غيرت جائحة «كوفيد - 19» وجه الأرض، ووضعت بصماتها القاتلة على وجه البشرية، مثيرة جواً من الهلع والارتباك لم يسبق له مثيل، تسابق العلماء، وفي سعيهم لفهم جوانب المرض وأعراضه ومضاعفاته، لإجراء أبحاث متنوعة، وسارعوا إلى نشر «مسودات» نتائجها بدل الانتظار لاكتمالها شكلياً، لعرضها في مجلدات المجلات العلمية الرصين.
وبهذا فقد نجح «كوفيد - 19» في دفع عجلة العلم نحو مصاف جديدة، يتمثل أهم ملامحها في تقريب النتائج العلمية السريعة إلى أذهان وقلوب الجمهور العريض أيضاً. وهذا ما يعجل في تحويل العلم إلى منظومة أكثر انفتاحاً من ذي قبل.
ويعزو المراقبون هذا الانفتاح العلمي إلى سرعة نشر «المسودات» العلمية، وتبادلها، وتناقلها. وهذه المسودات ليست سوى «المخطوطات» الأولى للأبحاث العلمية التي تقدم عادة إلى هيئات تحرير المجلات العلمية، التي تتألف من علماء مرموقين يدرسونها. وهكذا وبدلاً من المرور بالسبيل التقليدي للنشر الذي قد يطول لأشهر، بل إلى سنوات، فإن المسودة يمكن أن تنشر خلال أيام، وتكون متاحة من دون أجور لكل أصحاب الشأن.
- تشارك علمي
لا يعد نشر المسودات أمراً جديداً، بل إنه يعود إلى الستينات من القرن الماضي، حيث وضعت معاهد الصحة الوطنية الأميركية تجربة لتبادل المعلومات بسرعة من خلال نشر المسودات العلمية.وأدى تطور التكنولوجيا إلى إنجاح تلك التجربة، إذ تشارك علماء الفيزياء والرياضيات والكومبيوتر مسوداتهم عبر خادم كومبيوتري يدعى «آرزيف» (ArXiv)، أخذاً بالعمل عام 1991 في مشروع رائد لنشر المسودات في العصر الرقمي. ثم ظهر عام 2013 الخادم الكومبيوتري «بايوآرزيف» (BioRxiv) لمسودات الأبحاث الطبية والبيولوجية، أعقبه «ميدآرزيف» (MedRxiv) لمسودات العلوم الطبية عام 2019.
وتوسع نشر المسودات من عام لعام، إذ وبعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية «كوفيد - 19» جائحة عالمية، نشرت في مارس (آذار) من هذا العام 8830 مسودة دراسة طبية وبيولوجية، بزيادة 142 في المائة عما نشر العام الماضي.
وخلال الشهور العديدة الماضية، نشر نحو نصف الدراسات حول «كوفيد - 19» على شكل مسودات الأبحاث، وصل عددها إلى 18000 مسودة بحلول يوليو (تموز) الماضي.
كما قفزت أعداد القراءات على هذه الخوادم الكومبيوترية بشكل كبير، إذ وصلت على «ميدآرزيف» إلى 15 مليوناً، شهرياً، مقابل مليون فقط قبل حلول الجائحة.
وللمقارنة مع أحداث مماثلة عند حدوث وباء «إيبولا» عام 2014، و«زيكا» عام 2015، فلم تنشر حينها إلا 5 في المائة من الأبحاث على شكل مسودات يمكن مشاركتها بسرعة. وهذا ما أضاع على العلماء فرصة كبيرة لتبادل المعلومات، خصوصاً وأن كل مسودة لا يمكنها أن تصل إلى النشر في المجلات الرصينة إلا خلال ما لا يقل عن 100 يوم. أما أغلب الأبحاث حول وباء «سارس» عام 2003، فلم تنشر إلا بعد أن انحسر الوباء.
- الفيروس «المصنّع»
رغم النقائص التي ترافق المسودات التي تعتبر مخطوطات مستعجلة لم يتم تهذيب نتائجها، إلا أنها تؤسس إلى نموذج جديد من التواصل بين العلماء، فهي تكسر الحواجز بين العلوم المختلفة، وتحفز على التعاون، وتسرع في نشر المعلومة، كما توسع بشكل عريض من الحضور العلمي من مشاركين يمكنهم تقييم ونقد، بل ودحض نتائجها... كل ذلك في الزمن الفعلي.
وقد سلطت الجائحة الوبائية الحالية الضوء على قدرة المجموعات العلمية على التنظيم الذاتي لنفسها، والقيام بدورها في النقد، وتقييم النتائج العلمية الجديدة. وبينما تعاني الطريقة التقليدية للنشر من بعض النقائص، من بينها قيام عدد محدود من المختصين بدراسة النتائج وتقييمها، فإن تشارك المئات من العلماء في التقييم يضفي أهمية كبرى على دور وسيلة نشر المسودات هذه.
وقد نجحت هذه الوسيلة في تفنيد نتائج مسودة علمية أفادت بأن التسلسل الجيني لفيروس «سارس - كوفيد - 19»، كما يرمز له علمياً، يظهر أنه فيروس مصنّع، إذ سارع عدد من العلماء إلى تشخيص أخطاء طريقة إجراء الدراسة فوراً.
وخلال 48 ساعة، أعلن مؤلفو تلك الدراسة رسمياً عن سحبها. وهكذا تثبت أداة نشر المسودات أنها منصة فعالة جداً يمكن للمئات والآلاف من العلماء تحليل وتقييم ونقد ودحض النتائج على أعلى المستويات العلمية للتقييم.