يشكو غالبية الشباب اللبنانيين الذين تحدثنا معهم من أنهم لا يصادفون مواضيع ثقافية على وسائل التواصل الاجتماعي، التي عبرها يستقون الأخبار، ومنها يدلفون إلى المقالات التي يقرأونها في المجلات والصحف. وهم غالباً لا يقصدون الصحف مباشرة للقراءة، بل تأتيهم من خلال «فيسبوك» و«تويتر» وربما «إنستغرام». وبالتالي فمفهوم الصفحة الورقية بالمعنى التقليدي، غائب عن أذهانهم. ومشكلتهم الرئيسية أنهم لا يعرفون للمادة الثقافية العربية عنواناً واضحاً يقصدونه، وبعضهم يشاركون صفحات قامت بمبادرات صغيرة على وسائل التواصل، ولا يعرفون كيف يجدون العناوين المفيدة التي تروي ظمأهم. ثمة حلقة ناقصة بين المادة الثقافية في الصحف والشباب، قد تكون في قلة الإعلان والترويج للمواد، أو بسبب عدم وجودها في صدارة المواقع الإلكترونية الإخبارية.
لا يوجد لديهم صدود أو نفور من معرفة بثقافتهم العربية، كما يظن البعض، بل على العكس، الجيل الجديد يشعر بعطش إلى التعرف على الفنون والكتّاب والمستجدات، وبعضهم يستشعر نقصاً كبيراً في درايته بتاريخه، وخلفيات ما يحدث حوله، ويتمنى لو يدرك، بشكل أعمق، أسباب الأزمات التي يعيشها. وهم ينظرون إلى الثقافة على أنها سينما ومسرح، وعروض فنية وموسيقى، كما هي تراث وفكر وشعر ورواية، وبعضهم يضم إليها الكوميكس وإبداعات الهندسة المعمارية، وأخبار المتاحف والمعارض، ويريد أن يعرف السياسات الثقافية، وينتظر من المادة أن تقدم له الخلفيات والاقتراحات وتسهم في الحلول. مروحة الاهتمامات والمطالب، منوعة جداً. وكل واحد من الذين سألناهم له الميدان الذي يستهويه، لكنهم يجمعون على أن المادة يفترض أن تجمع إلى الفائدة الكثافة، وتبعد عن الإطالة المملة.
هم أيضاً يفتقرون إلى اقتران المادة المكتوبة بالفيديو أو البودكاست، ويبحثون عن الصورة الجذابة، ويحبون التقارير الصغيرة المصورة، ويسمعون الشعر على الطريقة التي يقدمها تميم البرغوثي في تسجيلات، تستعين بمؤثرات بصرية وسمعية.
مع فقدان الصحف المحلية التي كانوا يعرفونها، وأحياناً يتابعونها، ويحفظون تبويبها، وانتقالهم إلى المواقع الإلكترونية، التي يصفها بعضهم بأنها باللغة العربية قليلة الجاذبية، يشكو الشباب من أنها تغرق في الاهتمام بالمواضيع السياسية التي لا تعنيهم بالضرورة بتفاصيلها المملة، وتضع الثقافة في البند الأخير.
«حين يتغير الوسيط من الورقي إلى الإلكتروني، تتغير طرق المتابعة، ومن المفترض أن يتغير أيضاً أسلوب الصحيفة في التواصل مع القارئ»، تقول منى مرعي، وهي طالبة لبنانية تحضّر رسالة الدكتوراه في المسرح، في «جامعة واشنطن» بأميركا، وفي الأصل كاتبة وناقدة مسرحية. وتعدّ أننا حين نتحدث عن صفحات ثقافية يذهب الذهن إلى الصحف الورقية، التي نقلت كما هي إلى المواقع... «لكن الحقيقة أن طريقتنا في المتابعة قد تغيرت، لأننا بمجرد أن نفتح (فيسبوك)؛ فإن الأخبار والمواد المختلفة تبدأ بالتدفق. وبالتالي، انتهى زمن المتابعة المقصودة. هناك اليوم استهداف، استقطاب للقارئ، الذي يأكل الطعم برحابة صدر أو يرفضه» على صعيد عربي، تقول مرعي: «نحن بحاجة لتغيير المنظومة والعلاقة بين القارئ والصحيفة من خلال مقاربة مختلفة للشكل والمضمون. إذا كنا نتحدث عن صفحة ثقافية فعلية، فمن المفترض أن تكون قادرة على طرح مختلف المواضيع، في منطقة يتعرض كل ما فيها للرقابة. هناك رقابة الدولة ورقابة المؤسسات الثقافية نفسها، ورقابة المجتمع أيضاً». وفي رأيها أن الصحافة العربية الثقافية افتقرت بشكل عام إلى المنشورات الدورية المختصة، «فباستثناء تجربة (زوايا) ومجلة (شعر) التي اهتمت بالشعر الحديث ومجلة (الحياة المسرحية) الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب وبعض الدوريات المسرحية، لا أتذكر مطبوعات عنيت بالمسرح أو بالسينما حصراً أو التصوير مثلاً. وهي إن وجدت؛ فهي محدودة الانتشار ولا تكتب لها الاستمرارية. هذا كله مرتبط بمنظومة الإنتاج، ومن يرعى الثقافة والصحافة». كما أن مرعي بوصفها قارئة متابعة، تشكو من غياب المادة العميقة التي وجدت في فترات في الصحف اللبنانية، وشكلت نافذة للقراء، وتقول: «نحن في عالم كل شيء له سوق. هناك مادة رائعة ومشغولة، يقرأها 200 قارئ فقط. ومادة أخرى بسيطة، وربما سخيفة، ليست بحاجة لمجهود كبير قد يقبل عليها 30 مليون قارئ. وهذه سوق أخرى. ليس هنالك قارئ مثالي، ولكليهما حق الوجود، ولكن في مكان ما كاتب المادة المعمقة، الذي يسعى لمساءلة العمل الثقافي ومقاربته من منظور آنيّ، تاريخي، اجتماعي، سياسي، وجمالي، عليه أن يكرس أياماً لكتابة مقال ذي قيمة، وفي النهاية يدفع له 100 دولار للمقال، كمن يكتب مقاله على عجل؛ إذ كيف سيبقى محافظاً على حماسته، وجودة ما يكتب. الحفاظ على المستوى والجودة له علاقة بمنظومة الإنتاج التي تعطي لكل ذي حق حقه».
مايا حدرج (30 عاماً) منذ غادرت لبنان إلى لندن لإنهاء دراستها، لم تعد تقرأ الجريدة. هي أيضاً، كما كثير من الشباب الذين تحدثنا معهم، انقطعت علاقتها بالجريدة مع توقف كثير من الصحف اللبنانية عن الصدور. مايا تقول إنها في الخامسة عشرة من عمرها، كانت تقرا جريدة «السفير» بشكل منتظم، ومنذ تغيرت أحوال الصحف، صارت تعرف الأخبار من وسائل التواصل. وهي، كما غيرها من الشباب، تعبر عن رغبة عميقة في سد ثغرات معرفتها بثقافتها وتاريخها، ولا تعرف أين يمكن أن تجد المواد الصحافية التي تجيب عن أسئلتها. وتقول: «لا أعرف لماذا لا نرى على وسائل التواصل سوى الأخبار والتحليلات السياسية. لا بد من أن ثمة أشياء مهمة تفوتنا ولا نعرف كيف نجدها». وتضيف: «بعد توقف الصحف اللبنانية التي كنا نقرأها، انقطعت عن أمور كثيرة كنت أتابعها».
كثيرون مثل مايا، يتحدثون عن ضرورة إيجاد مواقع ثقافية ذات ثقل، تحل مكان الملاحق الثقافية التي اندثرت، والتي كانت تجيب عن أسئلة مطروحة، ويتابعها مهتمون كثر، سرعان ما وجدوا أنفسهم بلا بوصلة عند اختفائها.
منى بركة؛ طالبة دكتوراه هي الأخرى، في منتصف عشريناتها، توافق مايا الرأي، وترى أن المواقع التي يدخل إليها القارئ مباشرة، قد تكون الحل ما دامت المادة الثقافية نادراً ما تظهر على وسائل التواصل. وهو ما يعدّه من سألناهم، العقبة الرئيسية أمام عثورهم على المادة. وتشدد بركة على أن الروبورتاجات المصورة القصيرة والجذابة هي أكثر ما يشدّ الشباب، عادّةً أن الصورة الجميلة والشريط اللافت يستهويان الجيل الجديد ويتفاعل معهما ويتبادلهما. كما أنها ترى أن طول المادة يكون أحياناً عائقاً أمام قراءتها، مشددة على أهمية «تكثيف الأسلوب عند طرح المعلومات لتأتي المقالات قصيرة ومكتنزة، وسهلة القراءة». بركة تلفت أيضاً إلى أن «المواضيع التي تحظى بالترويج من خلال طرحها بشكل متكرر عبر الإعلان من خلال وسائل التواصل، هي التي تظهر على الشاشات وتقرأ. وهو ما لا يتوفر للمواد الثقافية. هكذا تكون المادة هي التي تذهب إلى القارئ وليس هو من يبحث عنها». وتلفت بركة إلى أنها من جيل لا يزال يتداول الكتب الورقية، لكنها تعتقد أن الأصغر سناً، أقلعوا عن هذه العادة «بالخالص». وتشرح أن «الشباب، على عكس ما يقال، مهتمون بثقافتهم، وبالشعر والأدب والمسرح والسينما، لكنهم بحاجة إلى أن تقدم لهم الموضوعات بصيغة مغرية. وهذا ما على الصحف أن تهتم به. فهم يتناقلون مقولات الأدباء، ويشاهدون الفيديوهات التثقيفية، لكنهم لا يعرفون بالضرورة كيف يصلون إلى المواد الثقافية».
خالد فياض في سنته الجامعية الأخيرة، عاشق للمسرح، ومع ذلك يرى أن الموضوعات الثقافية تأتي في كثير من الأحيان طويلة، وتفتقر إلى الصور الجذابة، وإلى الفيديوهات التي يمكن أن تضفي عليها الحيوية. ويرى أن بعض الصحف كان من ضمن خدماتها الإخبار عن حدث ثقافي والتعريف به قبل حدوثه، لكن هذا أيضاً لم يعد مطلوباً بشكل كبير، بعد أن أصبحت وسائل التواصل نفسها تقوم بالمهمة، عادّاً أن النقد المسرحي؛ بوصفه من هواة المسرح، يعنيه حين يكون مكتوباً بشكل جيد.
وعلى عكس خالد ومنى، تعثر أيضاً على من يطالبون بمواضيع عميقة، عادّين أنهم يفتقدون الكتابات السوسيولوجية أو الأنثروبولوجية مثلاً، التي يمكنها أن تربط الحاضر بالماضي، وتضيء على أحداث اليوم. وهناك من يسأل عن غياب أخبار الآثار، وفن زخرف السجاد، أو معارض الخزف. وهناك من يحن إلى الملاحق، ويعدّون أن قطيعتهم مع الصحف كمن ضيع الخيط الذي يصله بأمور كثيرة يحتاجها.
نعود إلى منى مرعي الموجودة في واشنطن منذ أشهر لتحدثنا عن أن «جمع المشهد الثقافي العربي باختلافاته وتناقضاته، على موقع أو بلاتفورم، أمر يحتاج توازنات صعبة. هناك تفاوت في مستوى التقبّل، واختلاف في العادات والممارسات، وفي المفاهيم الجمالية والقيمية». والمشكلة بالنسبة لها أن عدداً من «الصفحات الثقافية حصر دوره بذهنية تغطية الحدث دون أن يضيف المقال معنى للعمل الفني ويسائله. فمن يكتب عن عمل مسرحي، يعيد كتابته، بشكل أو بآخر. طبعاً هناك استثناءات، لكن الغالبية لا تفعل ذلك».
ومن ناحية أخرى، تقول منى: «علينا أن نعترف بأنه ليست هنالك سياسات ثقافية عامة أساساً تستهدف الشباب وتحثهم على جعل الثقافة والفنون جزءاً أساسياً من يومياتهم... وبالتالي تصبح الصفحة الثقافية تلقائياً صفحة بعدد قراءٍ محدود».
الشباب اللبنانيون في رحلة البحث عن المادة الثقافية التائهة
الشباب اللبنانيون في رحلة البحث عن المادة الثقافية التائهة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة