سجون طرابلس... مقار للمنسيين وبقايا نظام القذافي

ضمت آلاف المعتقلين... بينهم السنوسي ومنصور والساعدي

لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
TT

سجون طرابلس... مقار للمنسيين وبقايا نظام القذافي

لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)
لقطة من الداخل لسجن مدينة زليتن شرق طرابلس (غيتي)

قبل 24 عاماً، اقتحمت مجموعة من القوات الخاصة غالبية زنازين سجن «أبو سليم»، بضواحي العاصمة الليبية طرابلس، التي كانت تضم حينها 1269 معارضاً لنظام العقيد معمر القذافي، وفتحت النيران عليهم فأردتهم قتلى، في قضية شهيرة ظلت متداولة في المحاكم الليبية إلى أن أُغلقت منتصف ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
غير أن الجريمة التي روعت الليبيين، وشغلتهم منذ ارتكابها في التاسع والعشرين من يونيو (حزيران) عام 1996، تظل واحدة من جرائم القتل الجماعي الكاشفة لما يجري داخل ردهات وزنازين سجون ومعتقلات طرابلس، قديماً وحديثاً، قبل إسقاط نظام القذافي وبعده.
ورصدت الأمم المتحدة، في تقرير قدمته إلى مجلس الأمن الدولي، احتجاز آلاف المواطنين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، في مرافق تخضع اسمياً لسيطرة وزارتي الداخلية والدفاع التابعتين لحكومة «الوفاق»، بزعامة فائز السراج، أو في مرافق تديرها مباشرة جماعات مسلحة، و«لم تتح لهؤلاء المحتجزين فرصة للطعن في مشروعية احتجازهم، أو التماس الإنصاف عن الانتهاكات التي تعرضوا لها».
وبالتبعية، كما تبدل الحال، عقب رحيل النظام السابق قبل 9 أعوام، تغيرت الأوضاع داخل تلك السجون بمجيء نظام «ثورة 17 فبراير (شباط)»، فأصبحت تضم بعضاً من «المتهمين بجرائم تعذيب» في الماضي من أنصار القذافي، لكنها في ظل الفوضى الأمنية والعسكرية، ومع توسيع نفوذ الأفراد والمدن والقبائل، اتسعت رقعتها وتمددت، فأصبح القائمون عليها في كثير من الأوقات بمثابة «القاضي والسجان»، بل إن بعضهم اتخذ لنفسه سجوناً خاصة.
ويُنظر إلى هذه السجون والمعتقلات، وفقاً لروايات من دخلوها وعايشوها، على أنها «عالم سري مخيف، ليس لتنفيذ محكومية محددة بحكم قضائي مُعلن، بقدر ما هي غياهب يُلقى فيها من يُراد له الاختفاء، مؤقتاً أو بشكل دائم». ويرى رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية»، جمال الفلاح، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، أن «السجون السرية أو الخاضعة للمجموعات المسلحة هي معتقلات، ولا تخضع لسلطة الدولة، سواء الأجهزة الأمنية أو القضائية، ومن يديرها الميليشيات المسلحة، إذ تمتلك كل مجموعة سجنها الخاص، ومنها ما هو سري، ومكانه غير معلوم إلى الآن».
وذهب الفلاح الذي ينتمي إلى مدينة بنغازي (شرق البلاد) إلى أن «هذه المجموعات هي من تمارس صلاحية الضبط القضائي، وهي القاضي أيضاً، بحيث أصبح كل آمر مجموعة يمتلك سجناً يُلقي القبض على من يشاء من مواطنين أو يُطلق سراحهم، من دون أي سند قانوني».

«الرويمي» الأشد قسوة

والسجون في غرب ليبيا أنواع، لكل منها اسم رسمي وآخر غير رسمي، ويعد أشدها قسوة سجن عين زارة (الرويمي) بجناحيه، أو سجن عين زارة السياسي (البركة) للإصلاح والتأهيل، ويقع في ضواحي جنوب شرقي طرابلس. وترصد منظمات حقوقية أنه منذ إسقاط القذافي في عام 2011، يشهد هذا السجن انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وتديره وتسيره الميلشيات المسلحة كيفما تشاء، رغم تبعيته اسمياً لوزارة العدل بحكومة «الوفاق».
والرويمي بشقيه يضم قرابة ألفي سجين موقوفين على ذمة قضايا سياسية وعسكرية، لكنه في نظر منظمات حقوقية ودولية، من بينها «هيومان رايتس ووتش»، شهد على مدار السنوات التسع الماضية عمليات تعذيب واعتقالات تعسفية مطولة، أشهرها ما رصدته المنظمة، وتحدثت عنه أطراف محلية، في أغسطس (آب) 2013، عندما شهد تمرداً من المعتقلين والمساجين، تنديداً بتعرضهم للعنف المفرط بهدف إجبارهم على إنهاء الإضراب. وفي هذه الحادثة، وفقاً لشهادات حقوقيين وأُسر المعتقلين «أصيب عدد من السجناء بإطلاق الرصاص الحي بشكل مباشر من قبل الحراس».
وتعرض سجن عين زارة «الرويمي» لقصف صاروخي في الثالث والعشرين من مارس (آذار) 2020، مما دفع وزارة العدل بحكومة «الوفاق» إلى مناشدة المجتمع الدولي التدخل الفوري لإيقاف قصفه، بعدما قالت إنه أسفر عن إصابة 3 من العاملين على الأقل.
وحملت سلطات «الوفاق» المسؤولية القانونية والأخلاقية لـ«القوات المعتدية على العاصمة»، في إشارة إلى «الجيش الوطني الليبي»، بقيادة المشير خليفة حفتر، محذرة من «وقوع كارثة إنسانية إذا لم يتوقف الاستهداف المباشر للمؤسسة ومحيطها».
وعلى مدار السنوات الماضية، والأنباء الكاشفة لما يجرى في ردهات وزنازين «الرويمي» بشقيه مُروعة، فضلاً عن التقارير التي أعلنت عنها منظمة «ضحايا» الليبية لحقوق الإنسان، خلال العامين الماضيين، من «تعرض كثير من السجناء به إلى أمراض فتاكة سارية، إلى جانب إصابة ما يزيد على 10 في المائة من النزلاء بالدرن».
وتحدث الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن «تسجيل انتشار الأمراض بين السجناء، وخاصة الأمراض المعدية والسارية، مثل داء السل والجرب، وفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، والتهاب الكبد، بزيادة كبيرة»، و«عملت البعثة مع وزارة العدل لدعم تحسين الرعاية الطبية للسجناء».
ورصد غوتيريش، في التقرير الذي قدمه إلى مجلس الأمن منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، أنه خلال الفترة المشمولة بالتقرير، كان نحو 8500 شخص محتجزين في 28 سجناً رسمياً تشرف عليها وزارة العدل، وكان نحو 60 في المائة من هؤلاء رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة، كما بلغ مجموع النساء المحتجزات 280 امرأة، منهن 180 من غير الليبيات، وكان 109 من الأطفال بين المحتجزين في السجون، أو لدى الشرطة القضائية.

تصفية معتقلين

والجريمة التي لا تقل بشاعة عما سبق، وفقاً لرئيس قسم التحقيقات بمكتب النائب العام الصديق الصور، تمثلت في «تصفية 12 معتقلاً عقب صدور حكم قضائي بالإفراج عنهم من سجن الرويمي، منتصف يونيو (حزيران) 2016». وحينها، وجهت جهات ومنظمات ليبية عدة اتهامات إلى الميليشيات بقتل الشباب الذين ينتمون إلى منطقة وادي الربيع. وكالعادة، لم تدافع تلك الميليشيات عن نفسها، بل زادت من حشر المواطنين في السجون.
وقال الصور، في تصريحات صحافية سابقة، إن السجناء كانوا متهمين في القضية التي اتهمت فيها مجموعة من أعضاء ما كان يسمى إبان النظام السابق «فريق العمل الثوري»، وقتل فيها متظاهرون يومي 19 و20 من فبراير 2011. وأضاف الصور أن عدداً من ذوي ضحايا المتظاهرين في أثناء الثورة، أقاموا دعوى قضائية تتهم مجموعة من «فريق العمل الثوري» بقتل وتعذيب أبنائهم. وبعد استيفاء التحقيق من مكتب المحامي العام في طرابلس، أحيل المتهمون إلى محكمة الجنايات بتهمة القتل والانتماء إلى تشكيل عصابي.
وذكر الصور أنه صدر حكم بالإفراج عن 19 سجيناً، قائلاً: «غادر السجناء السجن مع عائلاتهم، وفق سجل بلاغات السجن. وبعدها، فوجئنا بالعثور على 12 جثة من السجناء المفرج عنهم».
غير أن الخبير في «مركز الخبرة القضائية والبحوث»، التابع لوزارة العدل في الحكومة المؤقتة (شرق ليبيا)، وسام الورفلي، أرجع تزايد هذه الانتهاكات في السجون إلى «إخفاق الحكومات المتعاقبة بعد عام 2011 في التصدي لها». وتذكر الورفلي، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، جانباً من أحداث السنوات التسع الماضية، قائلاً إن «مجموعات مسلحة عدة تكونت في تلك الفترة لمواجهة حكم القذافي، فسيطرت على الأرض، وتوسعت بشكل ملحوظ، وبالتالي أصبح الاعتقال التعسفي لفترات طويلة سمة مميزة في ليبيا». وشرح أن «هذه المجموعات كانت تحتجز حتى من تشتبه بتعاطفه مع نظام القذافي في ثكنات عسكرية أو مزارع أو حتى منازل».
و«الرويمي» ليس وحده في اعتماد القسوة وتعذيب المعتقلين، فهناك معتقلات عدة خارجة على القانون كان يوارى فيها كثير من السياسيين والمعارضين فترات زمنية طويلة، لعل منها سجن «الهضبة» الذي كان يضم قيادات من النظام السابق، مثل البغدادي المحمودي آخر رئيس وزراء في عهد القذافي، وأبو زيد دوردة رئيس جهاز الأمن الخارجي، وعبد الله السنوسي الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية، وعبد الله منصور المدير الأسبق للأمن الداخلي، والساعدي القذافي نجل الرئيس الراحل، قبل أن يتم اقتحامه في اشتباكات بين الميليشيات في 2017، ما اضطر حكومة «الوفاق» إلى إغلاقه، ونقل جميع نزلائه إلى «الرويمي».
وأطلقت سلطات طرابلس سراح دوردة والمحمودي، وقيادات عدة من النظام السابق، العام الماضي، عقب 8 سنوات من الاعتقال. وفي أول ظهور علني له، أطل دوردة من على إحدى شاشات الفضائيات في الخامس من يناير (كانون الثاني) الماضي، ليؤكد دعمه لـ«الجيش الوطني»، ويحذر من «مخططات تركيا وتنظيم الإخوان في ليبيا والمنطقة».

إخفاء الخصوم

وتشهد طرابلس عمليات خطف وإخفاء واسعة لسياسيين وقضاة وصحافيين وإعلاميين ومواطنين، لعل أشهرها ما تم مع رئيس الوزراء الليبي السابق علي زيدان في أثناء وجوده بأحد الفنادق بالعاصمة، في 13 أغسطس (آب) 2017، عندما دهمت ميليشيات مسلحة كانت تستقل سيارات دفع رباعي فندق «الشرق»، واقتادوا الرجل الذي كان يبلغ حينها 67 عاماً، إلى وجهة سرية لعشرة أيام، حتى توسط لديها السراج، ونجح في إطلاق سراحه.
وسبق لزيدان الذي تولى رئاسة وزراء ليبيا من 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 إلى 11 مارس (آذار) 2014، أن خُطف عندما كان بالمنصب في 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، على أيدي ميليشيات «غرفة عمليات ثوار ليبيا»، لكن تم تحريره بعد ساعات.
ورغم أن حكومة «الوفاق» تقول إنها تفرض سيطرتها على جميع السجون، فإن حقوقيين يرون أن «معتقلات طرابلس باتت مقار لمن يريدون نسيانه، أو الإبقاء عليه مدى الحياة وراء القضبان، لكون وجوده في الحياة العامة يتعارض مع توجهات الميليشيات».
لكن مسؤولاً في إحدى هذه الميليشيات دافع عنها في مواجهة تحميلها مسؤولية إخفاء معارضيها قسراً في غرب البلاد. وأقر في حديث إلى «الشرق الأوسط»، شرط عدم ذكر اسمه، بـ«وجود مجموعات مسلحة تمتهن خطف وابتزاز المواطنين»، لكنه قال إن «هؤلاء يمارسون أعمالاً يعاقب عليها القانون، لكننا سلطة تنفيذ للقانون، بحكم أننا لدينا شرعية، ونتبع وزارة الداخلية».
واستغرب مستشار الشؤون الخارجية لرئيس المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية، خالد الغويل، الإبقاء على بعض قيادات النظام السابق في المعتقلات، بعد حصولهم على أحكام بالبراءة.
وقال الغويل إن «القضاء يبرئ عبد الله منصور والساعدي القذافي وعبد الله السنوسي، ولم يتم الإفراج عنهم إلى الآن». وأرجع الإبقاء عليهم إلى أن «القضاء ليست في يده السلطة، بقدر ما هي في قبضة عصابات مارقة خارجة على القانون... يوجد كثير من معتقلي الرأي في السجون منذ سنوات، ولم يعرضوا أمام القضاء».

تجاوزات خلف القضبان

وكان مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد رصد مخالفات قانونية وإنسانية عدة، في تقرير سابق جاء تحت عنوان «تجاوزات خلف القضبان»، وقال إنه «لا تتوافر أرقام دقيقة عن عدد المحتجزين، ومراكز الاحتجاز الموجودة في ليبيا. كما أنه لا توجد إحصاءات بشأن مراكز الاحتجاز التابعة شكلياً لوزارتي الداخلية والدفاع، ولا تلك التي تديرها المجموعات المسلحة مباشرة».
ولفت التقرير إلى أن «هناك عدداً من مراكز الاحتجاز العاملة الخاضعة لسيطرة الدولة بمستويات مختلفة»، وصنفها إلى مراكز الاحتجاز الخاضعة شكلياً لسيطرة المؤسسات الوطنية، غير أنها تخضع لسيطرة جزئية أو كاملة للمجموعات المسلحة، والتي كانت تديرها قبل دمجها شكلياً في الوزارات المعنية، وتشمل: سجون الشرطة القضائية التابعة لوزارة العدل، والمستخدمة في احتجاز فئات مختلفة من المعتقلين، بمن فيهم المتهمون أو المدانون بارتكاب جرائم عادية، فضلاً عن المحتجزين «لأسباب ذات صلة بالنزاع»، والمحتجزين لأسباب أمنية أو سياسية.
والمراكز التابعة لوزارة الداخلية، مثل مركز الاحتجاز التابع لـ«قوة الردع الخاصة» في معيتيقة، ومركز الاحتجاز التابع للأمن المركزي في أبو سليم، يقتضي القانون أن يتم احتجاز المعتقلين فيها لفترات قصيرة فقط. غير أن فترات الاعتقال تمتد في الواقع لفترات مطولة، بجانب السجون التابعة لوزارة الدفاع، مثل سجن «السكت» في مصراتة، المستخدم لاحتجاز العسكريين وكذلك المدنيين المسلوبة حريتهم لأسباب ذات صلة بالنزاع أو الأمن القومي.
وتحدث رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية» إلى «الشرق الأوسط» عن سلطة الميليشيات وحريتها فيما تقرره. وقال الفلاح إن «هناك مجموعة منها تعتقل المواطنين أو السياسيين وتخفيهم في سجون سرية، ولكل من هذه المجموعة أماكن تسيطر عليها وتتحكم فيها، سواء من ناحية القبض أو الانتشار داخلها»، وأضاف: «للأسف، حتى وزارة الداخلية بحكومة (الوفاق) ليست لها السيطرة على هذه المجموعات، وكذلك القضاء، وهناك عدد من الأوامر التي أصدرها النائب العام بالقبض على أفراد من هذه المجموعات المسلحة، ولم يستطع أحد القبض عليهم أو الاقتراب منهم، وطبعاً لن يسلموا أنفسهم بمحض إرادتهم».
ما ذهب إليه الفلاح، لفت إليه التقرير الأممي، متحدثاً عن وجود مراكز احتجاز تخضع للسيطرة المباشرة من المجموعات المسلحة، ولا ترتبط بأي صلة رسمية بمؤسسات الدولة «وإن كانت تبدو في بعض الحالات تعمل بمعرفتها، إن لم تكن بموافقتها ضمنياً... ويتم نقل المحتجزين فيها بشكل دوري إلى مراكز احتجاز رسمية، ومن بينها مراكز مؤقتة دشنتها في ثكنات ومنازل ومزارع ومبان مهجورة».
و«قوة الردع الخاصة» الخاضعة اسمياً لسلطة وزارة الداخلية بـ«الوفاق» تدير واحداً من أكبر مراكز الاحتجاز في مدينة طرابلس في قاعدة «معيتيقة الجوية»، بحسب التقرير الأممي الذي يفيد بأن العدد الدقيق من المحتجزين هناك غير معروف. ورغم الطلبات المتكررة، لم يسمح لقسم حقوق الإنسان بالبعثة الأممية بزيارة السجن سوى مرة واحدة في مايو (أيار) 2016. كما لم يسمح للفريق بمقابلة المحتجزين على انفراد. ووفقاً للإحصائيات التي قدمتها «قوة الردع الخاصة» إلى قسم حقوق الإنسان في أثناء الزيارة، يقبع في «معيتيقة» 1500 معتقل من الذكور، ومائتان من الإناث، بمن فيهم الأطفال.

تعذيب ممنهج

وتشير إفادات الشهود وتقارير الطب الشرعي والتقارير الطبية، فضلاً عن الصور التي جمعها قسم حقوق الإنسان بالبعثة، إلى الطابع الممنهج للتعذيب وسوء المعاملة في مراكز الاحتجاز في جميع أنحاء ليبيا. وقالت الغالبية الساحقة من المحتجزين السابقين الذين قابلهم موظفو قسم حقوق الإنسان إنهم «يتعرضون إما للتعذيب المباشر أو سوء المعاملة، أو شهدوا تعرض آخرين لذلك»، حسب زعمهم.
ويتعرض المعتقلون لأسباب أمنية أو «لأسباب ذات صلة بالنزاع» للتعذيب، ولا سيما في الفترة الأولى من احتجازهم، وفي أثناء الاستجواب. ويبدو أنهم عادة ما يتعرضون للتعذيب بهدف انتزاع «اعترافات» أو معلومات أخرى، ومعاقبتهم على ارتكاب جرائم مزعومة، ولإذلالهم أو إهانتهم. وفي بعض الحالات، أفاد المحتجزون السابقون بأنهم نقلوا من مكان احتجازهم الاعتيادي إلى مراكز أخرى لاستجوابهم وتعذيبهم، حسب زعمهم.
وقالوا إن من بين أساليب التعذيب الأكثر شيوعاً وتوثيقاً الضرب على الرأس والجسم بأدوات مختلفة، بما في ذلك القضبان المعدنية وأنابيب المياه وأعقاب البنادق والجلد على باطن القدمين (الأسلوب المعروف بالفلقة) والركل واللكم، والتعليق وإبقائهم في أوضاع مجهدة لفترات طويلة من الزمن والصعق الكهربائي والحرق بالسجائر أو القضبان الساخنة والسحب من اللحى.
وهنا، يلفت الفلاح إلى أن أكثر من محكمة ليبية أصدرت أحكاماً بالإفراج عن سجناء وبرأتهم، إلا أن المجموعات المسلحة لم تستجب لكونها تقبض بيد من حديد على إدارة السجون، وقال: «هذا دليل قاطع على أن هذه المجموعات لديها السيطرة التامة الكاملة على هذه السجون (المعلنة)، أما السرية منها، فإنها إلى هذه اللحظة غير معلومة، ولا يُعرف من يديرها، وهناك المئات من المختفين قسراً لم يُستدل على أماكنهم إلى الآن... لكن في بعض المرات كان يتم الإفراج عن بعض المختفين بوساطة من الأعيان والحكماء عن طريق العرف، أو بالمفاوضات مثل من كانوا في سجن الكلية العسكرية بمصراتة، أو من كانوا لدى (قوة الردع) في طرابلس، في أوقات سابقة».
وتطرق الورفلي، الخبير القضائي، إلى عمليات التفاوض التي جرت بواسطة الحكومات المتعاقبة لإدماج هذه المجموعات المسلحة في المؤسسات الأمنية والعسكرية، وذهب إلى أن ذلك «تم من دون التدقيق لضمان استبعاد من لديهم سجلات بارتكاب جرائم سابقة... وتم تغيير أسماء هذه المجموعات المسلحة بأكملها بعد شرعنتها، ومنحها وضعاً رسمياً داخل المؤسسات». ونوه الورفلي بأن هذه الشرعنة «مكنت هذه المجموعات من ممارسة أعمالها بعيداً عن رقابة الدولة، إضافة إلى تخصيص رواتب لها، وتزويدها بالأسلحة والآليات، مما عزز من سلطاتها وجنبها العقاب».
وانتهى إلى أنه على مدار السنوات الأربع الماضية، رصد كثير من المنظمات والمؤسسات والأفراد المعنيين بمجال حقوق الإنسان على الصعيد المحلي والدولي «مدى استفحال هذه الجرائم والانتهاكات المتزايدة التي ترقى إلى جرائم ضد الإنسان، وما خفي كان أعظم».
وأمام جملة هذه المخالفات المتراكمة في عموم سجون الغرب الليبي، ضمن الأمين العام للأمم المتحدة، في تقريره، مجموعة من التوصيات، وقال: «يساورني بالغ القلق لأن الجماعات المسلحة في أنحاء البلاد، بما فيها التابعة للدولة، تضع الآلاف من الرجال والنساء والأطفال في الاحتجاز التعسفي غير المشروع لفترات طويلة، وتخضعهم للتعذيب وغيره من الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الإنسان»، داعياً إلى «الإفراج الفوري غير المشروط عن المحتجزين تعسفياً، أو المحرومين من حريتهم بصورة غير مشروعة، وإلى نقلهم إلى مرافق الاحتجاز الرسمية، ومعاملتهم وفقاً للقانون والمعايير الدولية».
وتقول السلطات الأمنية في طرابلس إنها أفرجت عن قرابة ألفي سجين على خلفية جائحة {كورونا}.



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».