عند التاسعة من مساء أول من أمس (الأحد)، كان اللبنانيون على موعد مع الأمل. كان عليهم أن ينسوا كل أزماتهم وآلامهم، ويأسهم، ويتسمروا أمام شاشاتهم، التي توحدت لمرة استثنائية، وبثت الحفل/الحدث الذي نظمته لجنة مهرجانات بعلبك، من القلعة الرومانية المهابة في مدينة الشمس، لتقول لهم إن الإمكانات أكبر مما يتصورون.
صدحت الموسيقى في أرجاء «معبد باخوس». عزفت الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية المؤلفة من أكثر من ستين شخصاً النشيد الوطني اللبناني، في حين كانت الكاميرا تنقل مشهد مدينة بعلبك الليلي من عل وهي تحتضن القلعة الشامخة بأعمدتها المهابة المضاءة. قاد المايسترو هاروت فازليان، صاحب الفكرة في الأصل التي بدأ العمل عليها بالتعاون مع اللجنة وهو في الحجر المنزلي. كانت الفاتحة مع كارمينا بورانا، والمقطع الأشهر والأجمل «فورتونا». وجاء الخيار في مكانه؛ إذ إن هذا العمل الكبير، هو حول عبثية عجلة القدر، وتقلّب المصائر، والتحول الإنساني الصاخب من البهجة إلى الحزن، ومن الفرح إلى الألم. لم يُترك شيء للصدفة في هذا الحفل الذي دُرس بعناية.
لعبت الجوقات الثلاث المصاحبة للموسيقى دوراً رئيسياً، لتجعل الحفل إضافة إلى موسيقاه المنتقاة والموزعة بعناية غنائياً أيضاً. جوقة الجامعة الأنطونية، وجوقة الصوت العتيق، إلى جانب جوقة سيدة اللويزة، مهارة الأداء الطالع من حناجر مدربة، صقيلة، تناغم منشدوها حد الذوبان.
برنامج منوّع بدا متعة للفرجة والإصغاء. أريد له أن يجمع بين الشرق والغرب، هنا في بعلبك مفترق القوافل القديمة، وملتقى الحضارات، موسيقى كلاسيكية غربية إلى جانب اللحن اللبناني، ما يطيب لذائقة كبار السن كما موسيقى الروك للشباب. والفنانون الـ160 الذين ملأوا ساحة المعبد الروماني، محترِمين التباعد الاجتماعي وما تتطلبه المرحلة، اصطفوا على هيئة شمس مشرقة تسطع لحناً وطرباً. أضف إلى هؤلاء فريقاً من الفنيين المهرة في الإضاءة والصوت والمؤثرات والتصوير والأرشفة. كل هؤلاء قرروا أن يهدوا العالم أجمع ساعة من الإبداع الخالص، النابع من قلوب متعطشة للجمال، من دون أي مقابل. كل ما أرادوه هو أن يبثوا تلك النشوة الجمالية في النفوس.
في بيروت كانت شركة «امباكت» هي الأخرى تنقل الحفل مباشرة على واجهة المتحف الوطني لمن يريد المتابعة، وعلى شاشات ثبتت على «جسر الرينغ» الشهير بالاحتجاجات، لكن تلك الليلة كان لها نكهة أخرى.
المقطوعة الثانية كانت للكبير جيوسيبي فيردي، تلاها ما يقارب 20 دقيقة من الموسيقى والغناء، لمقطوعات منتقاة من مسرحية «أيام فخر الدين» للأخوين رحباني وفيروز. هذه المحطة الرحبانية البديعة، قام بإعدادها وتوزيعها أوركسترالياً، غدي وأسامة الرحباني خصيصاً لهذا الحفل، الذي خُطط له أن يأتي على هذا النحو الضخم؛ لأنه الحفل الوحيد لمهرجانات بعلبك هذه السنة، ولأنه يقام بمناسبة مرور مائة سنة على ولادة لبنان الكبير. وليس أروع ولا أهم من الرحبانيين الكبيرين، ليكونا المدخل والعنوان لهذه المحطة الوطنية الجامعة. واختيار مسرحية «أيام فخر الدين» لم يأت اعتباطياً؛ فالقصة تاريخية، تروي حكاية فخر الدين العائد من المنفى في مطلع القرن السابع عشر، بهدف وحيد هو إعمار البلاد والنهوض بها، وهي عن كل ما يقابله بعد ذلك، من تحديات، وما يحاول أن يتغلب عليه من صدمات.
وبما أنه لا احتفال وطنياً كبيراً من دون جبران خليل جبران، فقد حلّ صاحب «النبي» بمقطع من كتابه «دمعة وابتسامة» ألقاها الممثل المسرحي القدير رفيق علي أحمد على وقع موسيقى العالمي غابريل يارد: «بنيت هيكلاً بين أضلعي للمحبة فقدسه الله ولن تقوى عليه القوات. صرفت العمر مستفسراً ظواهر الأشياء مستنطقاً أعمال المادة، فقال الإنسان ما احكمه ملكاً... وقالت الملائكة ما أصغره حكيماً. ثم رأيتك يا محبوبتي وغنيت فيك نشيد محبة وشوق ففرحت الملائكة، أما الإنسان فلم ينتبه».
هكذا كانت المحبة هي الجوهر، وتذكير المتفرج بتاريخ بعلبك جزءاً من الحفل، حيث مرت بين الأعمال الموسيقية عروض لوجوه شهيرة، ونجوم مروا من هنا، رأينا صباح، أم كلثوم، بيجار، جوني هوليداي، أوركسترات من دول كثيرة، وفرق باليه عالمية، ومشاهد من مسرحيات فيروز والأخوين رحباني. كل تلك الوجوه التي مرت من خمسينات القرن الماضي على هذه القلعة، أعيد استعراضها، في لفتة تذكيرية بأن المهرجان يواصل مهمته التي راكمت عقوداً ونجاحات، وأن الحياة مستمرة، ولا شيء يوقف تدفق الشلال.
وكما وعد المايسترو فأزليان، شارك شبان موسيقيون في هذا الحفل، عزفوا مع الأوركسترا مقطوعة لإغور سترافنسكي، وأخرى للفرقة البريطانية ليد زبلن. ولا بد أن العازفين آليانعين الذين اعتلوا المنصة، ووزعت الموسيقى خصيصاً لتليق بمهاراتهم، ونبضهم الدفاق، أعطت الجزء الثاني من الحفل حيوية خاصة.
على مدى ساعة نقلت على الشاشات، ووسائل التواصل الاجتماعي، عاش المتفرجون للمرة الأولى إحدى حفلات مهرجانات بعلبك بنقل مباشر، في كل أنحاء العالم. وهو ما أتاح للمغتربين الفرجة، وللجميع التفاعل، وجاءت النتائج إيجابية للغاية. إذ إن هذا الحفل صوره المتفرجون بشكل كثيف ولافت، ونشروا مقاطع منه على صفحاتهم مقرونة بكلمات الحب والشكر والتفاؤل بغد أفضل. وإذا كان المنظمون قد أطلقوا اسم «صوت الصمود» على الحفل، فإن جمهور وسائل التواصل غردوا تحت عنوان #علّي_الموسيقى، و#بعلبك. ونجح المخرج الموهوب باسم كريستو بإبراز جماليات المكان، خاصة باللقطات الجوية البديعة التي أظهرت القلعة مضاءة، وأعمدتها متلونة، وجمعت بين مشاهد الموسيقيين والمنشدين، وبهاء المعمار التاريخي، وهيبة الأجواء البعلبكية، في وقت واحد. ولا تقل مهارة جان لوي مانغي أهمية؛ إذ رسم سينوغرافي أسطورية، وتناغمية شديدة التوازن بين العناصر المركبة التي شكلت كلية هذه الأمسية القصيرة والمكثفة كماء الزهر.
وأتى الختام مسكاً مع سيد السمفونيات بيتهوفن في عيد ميلاده الـ250 وبـ«نشيد الفرح» من سمفونيته التاسعة، التي تمجّد التضامن والتعاضد والألفة.
أمسية واحدة تكفي أحياناً، لتصنع مهرجاناً، هذا ما تردد على ألسن المتفرجين الذين عاشوا ستين دقيقة من التناغم الإبداعي، وهم موزعون في القارات. وتلك إحدى إيجابيات وباء كورونا الخفية.
«صوت الصمود» في بعلبك... حفلة استثنائية واحدة تكفي
170 فناناً حوّلوا ليل اللبنانيين إلى أمل
«صوت الصمود» في بعلبك... حفلة استثنائية واحدة تكفي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة