«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

بلبلة في البحريتين الأميركية والفرنسية... ومهام جديدة لأسطول روسيا

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى
TT

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

«كوفيد ـ 19» يتحدى القوى العظمى

علّقت جائحة «كوفيد - 19» إلى حد كبير النشاط العسكري المعتاد للقوات المسلحة في عدد من القوى العالمية الكبرى، كون الأولوية الآن تتمثل في تكثيف الجهود لمحاربة انتشار فيروس الجائحة، الذي لم تكن الجيوش بمنأى عن إصابة أفرادها به، وهو ما تمثل في وصوله إلى حاملات طائرات فرنسية وأميركية، اضطرت على إثرها باريس وواشنطن على اتخاذ خطوات لاحتوائه. كذلك أدى انتشار الفيروس في هذه القطع البحرية بجانب القواعد العسكرية في مختلف مناطق العالم، مخاوف كبيرة من أن يترك ذلك تداعيات على حماية الممرات المائية وسيطرة تلك الدول على البحار وخطوط التجارة العالمية.
من جانب آخر، كلفت القوات المسلحة، أمام تهديد الجائحة بمهام غير تقليدية، منها الإسهام في الإغاثة الصحية، أو مهام الأمن الداخلي، أو ضبط خطوط الإمداد والتموين، في ظل قرارات الإغلاق والبقاء في المنازل.
يوم 13 أبريل (نيسان) المنصرم عادت حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول»، ذات الدفع النووي والوحيدة التي تملكها فرنسا، إلى قاعدتها في مدينة طولون قبل عشرة أيام من الموعد المحدد، واضعة بذلك حدا لمشاركتها في مناورات بحرية أوروبية في شمال المحيط الأطلسي، وذلك بسبب تفشي فيروس جائحة «كوفيد - 19» على نطاق واسع بين عسكرييها البلغ عددهم 1786 فرداً، ومنذ ذلك التاريخ والحاملة رابضة في مرفأ طولون، من دون أن تفصح البحرية الفرنسية عن تاريخ محدد لمعاودة أنشطتها مع المجموعة البحرية التي تواكبها. وبذلك، تكون فرنسا قد فقدت، مؤقتاً، القدرة على الاعتماد على هذه الحاملة التي تشكل العمود الفقري لبحريتها.
وفي هذه الأثناء، كان على الولايات المتحدة، التي باتت أكثر دول العالم تعرضاً للإصابة بـ«كوفيد - 19» أن توازن بين كيفية دعم جهودها المدنية لاحتواء الوباء وتوفيرها للإمدادات الطبية ودعم الأسر والاقتصاد، والدفاع عن الأمة من الأخطار الخارجية. ورغم حرص وزارة الدفاع «البنتاغون» على إظهار «شفافيتها» عبر بياناتها والمؤتمرات الصحافية للمتحدثين باسمها، للحديث عن انتشار فيروس الجائحة وسط وحدات الجيش الأميركي البرية والبحرية والجوية، فإن الإحراج كان واضحاً في بيانات البنتاغون، بعد تداعيات انتشاره على واحدة من أقوى حاملات الطائرات الأميركية. أما في العاصمة الروسية موسكو، فلم تكن مفاجأة، العبارة اللافتة التي أطلقها أخيراً عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، حول احتمال اللجوء إلى نشر قوات الجيش في المدن، في حال لم يلتزم المواطنون بتدابير العزل المفروضة. فقد مهد لذلك تلويح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاستعانة بالجيش لمواجهة تفاقم الوضع مع المنحى التصاعدي لتفشي الوباء في روسيا.

حكاية الحاملة «شارل ديغول»
تتميز «شارل ديغول» بأنها حاملة الطائرات الوحيدة في أوروبا التي تعمل بالدفع النووي. وتخطط باريس لبناء حاملة طائرات ثانية. إلا أن تحقيق هذا الهدف سوف يستغرق سنوات إن لم يكن عقوداً. فالخطة أطلقها الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي ثم تبناها خلفه فرنسوا هولاند، إلا أنه جرى التخلي عنها لاحقاً. ومع وصول إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية، أعيد إحياؤها وأعلنت وزيرة الدفاع فلورانس بارلي خلال عام 2018 رصد مبلغ 200 مليون يورو للدراسات الفنية والهندسية.
تمثل هذه الحاملة الكثير بالنسبة لقدرات فرنسا العسكرية. وخلال السنوات العشرين الماضية، كانت مركز الثقل في المشاركة الفرنسية في العمليات العسكرية الخارجية بدءاً من الحرب في أفغانستان على مرحلتين - ما بين عامي 2001 و2002 ثم في عام 2010 - وصولاً إلى الحرب في ليبيا، أو ما يسمى فرنسا «عملية هارمتان» وحتى الحرب على «داعش»، في إطار مشاركة باريس في التحالف الدولي للحرب على الإرهاب بدءاً من عام 2014.
وتواصلت مشاركة «شارل ديغول» الجوية بفضل طائرات الـ«رافال» المحمولة، إلى جانب طلعات الطائرات الفرنسية من مطارين في منطقة الشرق الأوسط والخليج لعام 2019. في إطار العملية المسماة «كليمنصو» بعد أشهر الصيانة الطويلة (18 شهراً) التي أخضعت لها الحاملة في الأحواض العسكرية في طولون. وخلال العام الجاري، أبحرت الحاملة في مياه المتوسط وشاركت في مناورات وانتقلت إلى المحيط الهندي لتعود إلى قاعدتها وتنطلق بعدها إلى المحيط الأطلسي عبر مياه مضيق جبل طارق. وعندما ظهرت أولى حالات الجائحة على أفراد من طاقمها، كانت قبالة الشواطئ الدنماركية.

... وأهميتها للعمليات الفرنسية
الواضح أنه عندما تكون باريس في حاجة لإبراز عضلاتها في الخارج، فإن وسيلتها الأولى هي «شارل ديغول». فهذه الحاملة التي انطلقت في أولى مهماتها في 7 مايو (أيار) 1994. هي الوسيلة الرئيسية لقدرات الانتشار الفرنسية في أي مكان من العالم بفضل قوة الدفع النووية التي تتمتع بها. فضلاً عن ذلك، فإن هذه الحاملة التي يبلغ طولها 261 وارتفاعها 75 متراً، بحمولة تصل إلى 45 ألف طن، تتمتع بقدرات جوية استثنائية بفضل ما يزيد على 30 طائرة قاذفة - مقاتلة من طراز «رافال» البحري وطوافات وطائرات استطلاع كما أنها مزودة بأحدث المعدات الدفاعية والرادارات. وفي أي حال، لا تبحر «شارل ديغول» أبداً وحيدة، بل مع مجموعتها البحرية المؤلفة من ثلاث فرقاطات وغواصة هجومية تعمل بالطاقة النووية ومن سفينة قيادة وتموين. وأهم من ذلك كله، فإن «شارل ديغول» مكوّن رئيسي من قدرات الردع النووية الفرنسية بفضل طائرات الـ«رافال» القادرة على حمل الصواريخ النووية. وليس سراً أن قوة الردع الفرنسية تعتمد على مكوّنين: بحري وجوي. فالبحري يتمثل بأربع غواصات نووية قاذفة مزودة بـ48 صاروخاً نووياً. أما المكوّن الجوي فيتمثل بالطائرات الاستراتيجية، إن المنطلقة من القواعد الجوية أو من على متن «شارل ديغول».
وبالنظر إلى هذه الإمكانيات المتوقفة اليوم، فإن باريس تحرم نفسها من قطعة أساسية في استراتيجيتها العسكرية، وهو ما لم يتردد القادة العسكريون الفرنسيون في الإشارة إليه أكثر من مرة منذ أن رست الحاملة في مرفأها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن فرنسا ليست فقط أوروبية القارة بل إنها منتشرة في المحيطين الهندي (في جزيرتي مايوت وريونيون) والمحيط الهادي (كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية إضافة إلى أرخبيل واليس وفتونا) وفي المحيط الأطلسي (جزيرتا الغوادلوب والمارتينيك) وخصوصاً غويانا الفرنسية بشمال شرقي البرازيل. وفي الوقت عينه، فإنها تملك أراضي محاذية لكندا (جزيرتي سان بيار وميكييون). ويبني هذا الانتشار الحاجة لما يسميه العسكريون الفرنسيون «القاعدة الجوية المتنقلة» القادرة بفضل دفعها النووي الوصول إلى أي منطقة بحرية في العالم دون أدنى عائق. وما بين عام 2001 و2016. قطعت «شارل ديغول» ما يساوي 30 دورة حول الأرض وأمضت 2071 يوماً في إطار مهماتها المتنوعة وشهدت 70 عملية إقلاع وهبوط على مدرجها.

التحديات أمام «البنتاغون»
في أميركا، كان الجيش الأميركي، الذي يعد أكبر قوة عسكرية في العالم وأقواها، الدخول في تحدٍ صعب وموازنة دقيقة بين توفير الحماية لأفراده، والحفاظ على جهوزيته العسكرية في المناطق التي ينتشر فيها، من الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا، في ظل قرارات «البنتاغون» الأخيرة وتداعياتها المتوقعة. وتحديداً، لجهة تحويل بعض الموارد لتلبية الحاجات الطبية جراء تفشي فيروس الجائحة بين أفراده، وإلغاء التدريبات والتنقلات العسكرية لقواته البرية والبحرية وجزئياً على قواته الجوية.
أولى تلك التداعيات كانت تراجع نشاط القوات الأميركية في سوريا، وإعادة نشرها في قواعد في العراق، عبر تخليها عن بعضها، إثر تصاعد الأخطار الناجمة عن استغلال إيران وميليشياتها تفشي الجائحة وتنفيذ هجمات متكررة على بعض القواعد. كذلك عمد الجيش إلى تقييد تحركاته في أفغانستان وأخّر تنفيذ خطط انسحاب القوات الأميركية تنفيذاً للاتفاق الذي وقع مع حركة طالبان في 29 مارس (آذار) الماضي. وأوقف أيضاً التدريبات العسكرية مع حلف شمال الأطلسي «ناتو» في أوروبا، وكذلك مع بعض الدول العربية وأيضاً مع إسرائيل. ولعل انتشار الفيروس بين أفراد القوة العسكرية الأميركية البحرية، شكل أكبر المعضلات التي واجهت «البنتاغون»، وأدت إلى إحداث بلبلة غير مسبوقة وأزمة قيادية عندما ضرب الفيروس أفراد طاقم حاملة الطائرات النووية «تيودور روزفلت» فأخرجها عملياً من الخدمة بعد رسوها في قاعدة في جزيرة غوام المحيط الهادي. وتسبب الأمر بإقالة قائد الحاملة بريت كرويزر إثر نشره رسالة إلى قيادته يطلب فيها السماح للحاملة بالرسو لمعالجة المصابين، الذين بلغ عددهم أكثر من 800 من أفراد طاقمها البالغ نحو 5 آلاف، بينهم هو شخصياً. كما استقال توماس مودلي وزير البحرية بالوكالة على خلفية تعامله مع الأزمة نفسها.
ورغم تراجع وتيرة البيانات «العملانية»، توقع قادة «البنتاغون» أن يصيب فيروس الجائحة مزيداً من سفن البحرية، مشددين على ضرورة تكيف الجيش مع هذه الأوضاع. وقال الجنرال جون هيتين، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، إنه «ليس من الجيد الاعتقاد بأن (روزفلت) قضية فريدة من نوعها... لدينا الكثير من السفن في البحر..... الاعتقاد بأن ذلك لن يحدث مرة أخرى ليس وسيلة جيدة للتخطيط». وأشار إلى أن حاملة الطائرات «نيميتز»، التي ترسو في ميناء بريميرتون بولاية واشنطن، تعد للإبحار في المحيط الهادي، وعلى متنها عدد غير محدد من البحارة المصابين بالفيروس.

اختبار في مياه الخليج
وفي سياق متصل، شكلت الجائحة أول اختبار لجهوزية القوات الأميركية، مثلما كانت حافزاً لأعداء الولايات المتحدة ومنافسيها على محاولة اختبار ردة فعلها على «التحرشات». هذا ما حصل في العراق وكذلك مع إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية، في الأسابيع الأخيرة. إذ نفذ 11 زورقاً حربياً إيرانياً عمليات اقتراب وصفتها واشنطن بالخطرة في مياه الخليج من سفن حربية أميركية في الأسبوعين الماضيين. وبعد إعطاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب أوامره بإغراق أي مركب إيراني، أكدت قيادة المنطقة الوسطى «سانتكوم» على جهوزية عالية لمواجهة أي احتمالات «تحرش» من قبل بحرية «الحرس الثوري الإيراني» في مياه الخليج الدولية، وأن أي تعرض للمصالح الأميركية في المنطقة سيرتب نتائج سلبية وخطيرة.
أيضاً، تصدّت طائرات مقاتلة أميركية لطائرات استطلاع روسية اقتربت من المجال الجوي لولاية ألاسكا الأميركية، فيما تصدت طائرات روسية لطائرة استطلاع أميركية فوق البحر المتوسط. ونفذت الصين بعض المناورات في بحر الصين، وخصوصاً بالقرب من الجزر المتنازع عليها مع دول أخرى، وأغرقت زورق صيد فيتنامي، في تعبير عن «انزعاجها» من الوجود العسكري الأميركي في آسيا، فيما عادت كوريا الشمالية لتجربة العديد من الصواريخ قصيرة المدى والمتوسطة، وأطلقت مقذوفات نحو بحر اليابان.

روسيا: مهام مختلفة
عودة إلى روسيا، فإن الأمر لا يقتصر على المهام التي يمكن أن ينفذها الجيش الروسي لمساعدة السلطات في تنفيذ قرارات العزل، إذ بدا واضحاً تعاظم دور المؤسسة العسكرية في البلاد كواحد من تداعيات انتشار جائحة «كوفيد - 19»، مما أثار سجالات كثيرة على المستوى الداخلي. ويذكر أن بوتين كان قد قال في اجتماع حكومي إن «العسكريين الروس أثبتوا كفاءة عالية واكتسبوا خبرات مهمة في مواجهة الوضع في عدد من البلدان الأجنبية، وهذه الخبرة يجب أن تستخدم على الصعيد الداخلي». ووفقاً لبوتين فإن المؤسسة العسكرية قادرة على تسريع عمليات بناء المراكز الطبية ومستشفيات مسبقة التجهيز في وقت قياسي، وهو أمر تحتاج إليه البلاد كثيراً، خصوصاً مع الإعلان عن نقص حاد في هذا المجال.
ولم يطل انتظار تطبيقات ذلك، إذ سرعان ما أعلن عن إطلاق الجيش نشاطاً واسعاً لبناء عشرات المستشفيات في مناطق روسية مختلفة. وتبع ذلك التركيز على أن المؤسسة العسكرية تحديداً ستسهم في توفير لقاح ضد الفيروس. وكتبت وسائل إعلام روسية أن الأقسام العلمية التابعة لوزارة الدفاع بدأت بالفعل نشاطاً واسعاً في هذا الاتجاه. وهنا أيضاً برزت ضرورة الاستعانة بالخبرات العسكرية الروسية التي تراكمت خارجياً، وقالت مصادر إن تجربة علماء الأوبئة العسكرية الروسية الذين عملوا في أفريقيا وآسيا مع إصابات خطيرة بشكل خاص ينخرطون حالياً في تجربة لقاحات تم تجريبها في إيطاليا وصربيا وأرمينيا.

اهتمامات بحثية طبية
ووفقاً للجنرال إيغور كيريلوف، رئيس قوات الحماية من الإشعاع والكيمياء والبيولوجية التابعة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي، فإن المتخصصين في المعهد المركزي الثامن والأربعين للبحث العلمي وهو مركز يحاط نشاطه بسرية مطلقة في العادة، يعكفون على تطوير لقاحات حالياً. وكان هذا المركز نظم نشاط مكافحة وباء الجمرة الخبيثة في يامال في صيف عام 2016. ووفقاً للمصادر العسكرية، فقد شارك معهد الأبحاث الثامن والأربعون أيضاً بنشاط في تطوير لقاح ضد إنفلونزا الطيور. لكن تعاظم دور المؤسسة العسكرية برز أيضاً على المستوى الخارجي، وأثارت المساعدات الطبية الروسية المرسلة لبلدان مختلفة موجة سجالات وتساؤلات كثيرة على خلفية اتهامات للكرملين باستخدام الكارثة العالمية في مواجهة الـ«كوفيد - 19» سياسياً، من خلال تعميق السجالات في أوروبا والعالم والتركيز على نقطة ولادة عالم جديد بخريطة قوى مختلفة في المرحلة التي تلي انحسار الجائحة.

مساعدات خارجية
وأرسلت وزارة الدفاع عشرات الطائرات العسكرية محملة بمواد مختلفة وطواقم طبية إلى إيطاليا التي «أغلقت حولها الحدود»، وبدت كما يقول مسؤولون روس: «وحيدة في مواجهة الكارثة التي حلت بها».
وظهرت أدوار جديدة للعسكريين الروس في بلدان مثل فنزويلا وإيران وسوريا، في إطار ما وصف بأنه «مساعدات وتدريبات لرفع كفاءة المؤسسات المحلية في مواجهة الفيروس». ولم تلبث موسكو أن أعلنت عن إرسال طائرة عسكرية من طراز «أنتونوف» إلى الولايات المتحدة تحمل مساعدات إنسانية وكمامات ومستلزمات طبية أخرى أساسية لمكافحة الفيروس. وشكلت هذه خطوة غير مسبوقة، فهذه أول طائرة تابعة للقوات الجوية الروسية تحط على الأراضي الأميركية. وبدا المشهد استعراضاً سياسياً قوياً، وفي مقابل تأكيد وسائل إعلام غربية أن «المساعدات العسكرية الروسية» لا جدوى منها وأن هدفها استخدام الكارثة لتحقيق أغراض سياسية، دافعت موسكو بقوة عن موقفها وتحدثت عن ضرورة «التضامن العالمي في مواجهة الجائحة». وبدا من كل تلك التطورات أن الجيش تحديداً بات يلعب الدور الأساسي في تعزيز النشاط الدبلوماسي وتمدد الوجود الروسي في مناطق جديدة، ولكن كان غريباً في هذا المسار أن تعلن موسكو أخيراً أن نحو عشرة بلدان في منطقة الشرق الأوسط «طلبت مساعدة روسية لمواجهة الجائحة». وهذه مهمة إذا اتفق عليها ستناط بالجيش الروسي.
ومع امتداد نشاط الجيش داخلياً وخارجياً، أثار التركيز على دور العسكريين ردود فعل متباينة، وفي مقابل تأكيد الوكالات الرسمية على أهمية هذا الدور في هذه المرحلة بالتحديد، خصوصاً لأن لدى المؤسسة العسكرية قدرات كبيرة يمكن الإفادة منها، فإن معلقين انتقدوا هذا التركيز ورأوا فيه واحداً من التجليات المحتملة للمرحلة المقبلة، من خلال أن بوتين يعزز القطاعات الأمنية والعسكرية مستغلاً الأزمة الحالية، وأن ما يجري يمهد للمرحلة المقبلة ليس في روسيا وحدها، بل وفي بلدان عديدة أخرى ستغير أولوياتها وفقاً لمحللين بعد انتهاء المعركة مع الوباء وتتجه لتعزيز الأنظمة الداخلية الوطنية بقدر أكبر من الانعزال والابتعاد عن سياسات الليبرالية والعولمة. وكتب ديمتري غودكوف وهو معارض ونائب سابق في مجلس الدوما، أن «الوباء سوف ينحسر عاجلاً أو آجلاً، لكن القوانين التي تسن حالياً والإجراءات التي تتخذها السلطات سوف تبقى لفترة طويلة مقبلة».

القوى الكبرى حوّلت جهودها لمكافحة الجائحة... والأولويات العسكرية العالمية تتراجع
> في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال العميد الركن المتقاعد خالد حمادة، مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات في العاصمة اللبنانية بيروت، إنه بعد حملة التعقيم والتطهير التي قامت بها البحرية الفرنسية لحاملة الطائرات «شارل ديغول» والقطع المرافقة في مرفأ طولون العسكري بجنوب فرنسا «يمكن لها أن تعود إلى المياه الدولية»، لكنه يشير إلى أن هذه القضية الآن ليست بالأهمية القصوى.
ويتابع أن «التجارة الدولية في هذا الوقت تقلصت إلى مستويات كبيرة، كما أن المشروع الأميركي لبسط سيطرة الولايات المتحدة على طريق التجارة الصينية من المحيط الهادي إلى بحر الصين والمحيط الهندي، لم يعد في هذه الظروف مجالاً للتنافس لأن الاقتصاد العالمي تجمّد، وبالتالي، تبدلت الأولويات وفقد التنافس على السيطرة أهميته».
حمادة، وهو باحث عسكري واستراتيجي، لا يرى - في المقابل - أن ثمة تأثيراً عسكرياً لتلك التطورات، بالنظر إلى أن الجيوش «تستطيع تبديل طواقم العمل في حال كانت هناك إصابات، وتستأنف نشاطها العسكري إذا دعت الحاجة»، علماً بأن الحروب الآن معلقة «بسبب تبدل الأولويات نحو مكافحة الفيروس». ويعزز تقييمه بأنه «لا إصابات بالغواصات التي تشكل قوى بحرية هائلة، حتى أنه لم تُرصد إصابات داخل التجمعات العسكرية البحرية مثل قوى (المارينز) الأميركية، وبالتالي فإن الجيوش لا تزال قادرة للحفاظ على قدراتها».
من ناحية ثانية، لم يرصد حمادة نقاطاً ساخنة في ظل تبدل الأولويات إلا محاولة التحرش الإيرانية بالسفينة العسكرية الأميركية خلال الشهر المنصرم، مشيراً إلى أن إيران «تحاول الخروج من أزمة كورونا وتدني مستويات الاقتصاد، محاولة إظهار (حيوية عسكرية بالحفاظ على النمط الهجومي داخل الخليج) رغم الإصابات بالـ(كوفيد - 19) التي سجلت في إيران وتعطل الحركة التجارية وتوقف الحياة في البلاد». ويقول إن «إطلاق القمر الصناعي يصب بالموضوع نفسه، إذ تسعى إيران للقول إنها تطلقه لتعبر عن خطوة متقدمة على طريق توجيه الصواريخ الباليستية، وهذا ما يدخل المنطقة في مرحلة الخطر المتزايد لأن توجيهها بدقة وإيصالها لآلاف الكيلومترات يمثل خطراً على الأمن والسلام الإقليميين».
ويعود حمادة إلى ملف تأثير الجائحة على العمليات العسكرية من زاوية تأثيره على كل الناس، «إذ ساهم بشل قدرات أو على الأقل خفض قدرات التمويل العسكرية»، وعليه «لم تعد العمليات العسكرية تحتل قائمة القرارات الكبرى، ولم يعد لديها أولوية»، لكنه يؤكد أنه «إذا ارتفع مستوى التهديد لأي دولة كبرى، ستقفز العملية الدفاعية إلى الصف الأول»، لافتاً إلى أنه «رغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يحمل على عاتقه مسؤولية مواجهة انتشار الجائحة ويقف وراء الجهود لمكافحته، فإنه إذا حصلت تحديات عسكرية سيعطيها أولوية، ويعيد بالتالي الأولويات الأمنية إلى المربع الأول، ويكون مرتاحاً من ضغوط الديمقراطيين ليعود ويلعب الدور للحفاظ على الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى بالعالم».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.