(تحقيق): صراع خفي بين أميركا وإيران على «الجبهة» السورية ـ العراقية

روسيا تدخل عسكرياً إلى مسرح العمليات شرق الفرات

معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)
معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)
TT

(تحقيق): صراع خفي بين أميركا وإيران على «الجبهة» السورية ـ العراقية

معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)
معبر البوكمال ـ القائم على الحدود السورية ـ العراقية الذي شجعت إيران على افتتاحه (سانا)

لحدودِ العراقِ نكهةٌ استراتيجيةٌ خاصّة. كانت تُسمّى «الجبهة الشرقية» مع إيران. الجهة الغربية؛ أصبحت حالياً «الجبهة» مع إيران أيضاً. بإصرار غير معلن لا تعكّره سوى «غارات غامضة»، هناك صراعُ خفيّ أميركيّ - إيرانيّ للقبض على الحدود العراقية - السورية...
جديده؛ دخول روسيا على الخط والانغماس براً في المسرح المعقّد بتوسيع الوجود العسكري في «منطقة النفوذ» الأميركية والتحرش بقاعدة التنف من بوابة مخيم «الركبان» والحديث عن «انشقاق» مقاتلين سوريين موالين لواشنطن و«اعترافهم» بالتدرّب على مهاجمة حقول النفط السورية «المحمية» أميركيّاً.
قبل سقوط نظام الرئيس صدام حسين، كان الثقل على الحدود الإيرانية، خصوصاً خلال حرب الثمانينات بين بغداد وطهران. الطرف السوري منها، كان مغلقاً وممراً لـ«التآمر» بين جناحي «البعث» في بغداد ودمشق. في نهاية التسعينات؛ فُتحت ثغرة في جدار الحدود؛ مَرَدُّها الحاجة السورية إلى النفط العراقي وعائدات اقتصادية.

بعد الغزو الأميركي، بدأت رحلة التركيز على الطرف الغربي. بدايةً؛ باتت الحدود السورية بوابة لتدفق الباحثين عن مقارعة الأميركيين والراغبين في إفشال «المشروع الأميركي» في الشرق الأوسط. باتت هذه الحدود ممراً لآلاف المقاتلين من كل العالم الراغبين في قتال الأميركيين. ساهم هذا في إغراق الأميركيين و«مشروعهم». كان هذا «النجاح» المدبَّر سورياً وإيرانياً، خميرة تطورات حصلت عسكرياً في سوريا في العقد الأخير.
ومع الانسحاب الأميركي من العراق واندلاع الاحتجاجات في سوريا في 2011، وقعت هذه المناطق رويداً رويداً في حضن «داعش». أول ما فعله التنظيم، الذي أعلن جغرافيته زعيمه السابق أبو بكر البغدادي من الموصل في منتصف 2014، إلغاء هذه الحدود. أسس «ولاية الفرات» على طرفيها وجذب البيئات المحلية.
خلال الحرب على «داعش»، اسْتَعَرَ الصراع للسيطرة عليها. السباق على وراثة «داعش» كان يرسم مناطق النفوذ والتعايش على جانبي الحدود السورية - العراقية بين أميركا وإيران وضفتي نهر الفرات بين أميركا وحلفائها السوريين وروسيا وحلفائها السوريين والإيرانيين. استعر سباق وتعاون وصراع. بدايةً؛ عززت واشنطن وجودها في غرب العراق وشرق سوريا وقطعت طريق طهران - بغداد - دمشق - بيروت بسيطرتها على معبر التنف - الوليد. ردّت طهران بالسيطرة على جيوب غرب الفرات ومناطق في دير الزور وطريق البوكمال - القائم للوصول إلى دمشق وبيروت والبحر المتوسط بالالتفاف على الطريق التقليدية عبر التنف - الوليد.
انتقلت الحدود من نقاط بين دولتين إلى جبهة بين قوى إقليمية ودولية. على الأرض العراقية؛ هناك «الحشد الشعبي» المدعوم إيرانيّاً والجيش العراقي والقوات الكردية المدعومة غربيّاً. شرق سوريا؛ هناك «قوات سوريا الديمقراطية» التي يدعمها التحالف الدولي بقيادة أميركا، وفصائل سورية في التنف. هناك أيضاً الجيش السوري بدعم إيران وروسيا. في الجو، هناك قوات التحالف غرب العراق وشرق سوريا. هناك القوات الروسية شرق سوريا عدا شرق الفرات. أيضاً، هناك الطائرات الإسرائيلية التي أغارت في العراق وسوريا وبينهما.
مع مرور الوقت؛ زاد الاهتمام الدولي والإقليمي بدينامية هذه المناطق واهتمام مراكز الأبحاث في محاولة لفهم الوقائع. في الأيام الأخيرة، صدرت دراسات مهمتان؛ إحداهما من «وقفة كارنيغي» الأميركية أجراها الباحثان خضر خضور وحارث حسن، والأخرى من «المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية» أجراها حميد رضا عزيزي.

- عقارب الساعة
جرى ترسيم الحدود بين القائم والبوكمال في عام 1920، في أعقاب وقوع صدامات بين قوات عربية وقوات بريطانية كانت تحتل المنطقة بعد انسحاب القوات التركية. ولم يخْلُ ترسيم الحدود من بعض العشوائية؛ الأمر الذي بررته لندن بأن القائم النقطة الواقعة أقصى شرق منطقة نفوذ الدليم، أكبر اتحاد قبائل في غرب العراق. وكانت تلك بداية فترة انفصل خلالها القائم عن البوكمال وجرى دمج كل منهما في الدولتين العراقية والسورية. ورغم استمرار النزاع بين العراق وسوريا حول مناطق حدودية أخرى في فترات لاحقة، فإنه لم تطرأ تغييرات كبرى على منطقة القائم - البوكمال منذ ذلك الحين. وأقرت عصبة الأمم رسمياً الحدود العراقية ـ السورية عام 1932.
تقول ورقة «كارنيغي»؛ إنه على الأرض، تبلغ المسافة بين القائم والبوكمال 7 كيلومترات (كلم). على الجانب السوري من الحدود، تشكل البوكمال أقصى شرق سوريا، وتبعد 500 كلم عن دمشق. وتشكل القائم أقصى غرب محافظة الأنبار، وتبعد 400 كلم عن بغداد، وتقع عند النقطة التي يدخل عندها نهر الفرات العراق آتياً من سوريا. وتمتد القائم لـ26 كلم على الضفاف الجنوبية للنهر. أما في سوريا، فيقسم الفرات المنطقة إلى منطقتين فرعيتين؛ يطلق على الجانب الغربي «شامية» ويقع تحت سيطرة النظام السوري، بجانب ميليشيات مدعومة من طهران. في المقابل، يحمل الجانب الشرقي اسم «الجزيرة» ويخضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية».
عندما نجح الغزو في إسقاط نظام صدام في عام 2003، اختفت مؤسسات الدولة العراقية والأجهزة الأمنية التابعة لها فجأة من القائم والمناطق الحدودية. ولاحظت الورقة أن الفراغ سمح بظهور «تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، الذي اشتهر باسم «القاعدة في العراق»، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي. ونجح «القاعدة في العراق»، الذي تحول في نهاية الأمر إلى تنظيم «داعش»، في التغلغل داخل النسيج الاجتماعي بالمنطقة من خلال تجنيد مقاتلين محليين واستغلال الشعور المتنامي بالسخط بين العرب السُنًّة في العراق بعد سقوط نظام صدام.
وتحولت منطقة القائم، والحدود بوجه عام، إلى معقل للمتطرفين، لسببين؛ أولهما: سمحت المنطقة الخصبة للمقاتلين بممارسة الزراعة وتحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء. ثانياً: كان من شأن المساحات الصحراوية الواسعة الممتدة على جميع أطراف المنطقة أن سمحت للشبكات بالتشتت والمناورة داخل مناطق غير مأهولة بالسكان، مع بقائها على مقربة من مراكز حضرية. يضاف سبب ثالث؛ هو التسهيلات التي قدمتها دمشق للمتطرفين وغضّ الطرف عن نشاطاتهم.
وخلق الانسحاب الأميركي من العراق في 2011 وبدء الانتفاضة السورية فرصاً جديدة أمام المتطرفين لإعادة نشاطهم والاندماج وصولاً إلى «داعش». كما دبّ النشاط من جديد في بعض شبكات التهريب التي كانت قائمة بفعل انسحاب قوات النظام. وقالت الورقة: «قاد واحدة من هذه الشبكات صدام الجمل في البوكمال، الذي أصبح لاحقاً أحد العناصر الرئيسيين في (داعش). بدأ الجمل نشاطاته التهريبية عبر الحدود في عام 1998 واستمر في ذلك حتى عام 2010. وبعد اشتعال الانتفاضة، حاول استغلال خبرته في تيسير حركة المتطرفين والمسلحين والأسلحة قبل أن يشكل جماعة مسلحة خاصة به في البوكمال. وفي وقت لاحق، انضم إلى (داعش) في مواجهة (جبهة النصرة)؛ جماعة منافسة كانت تسعى للسيطرة على البوكمال».
في 29 يونيو (حزيران) 2014، أعلن «داعش» بناءه خلافة مزعومة على مساحة واسعة من الأراضي شرق سوريا وغرب العراق. وقالت الورقة إن التنظيم ادّعى أنه أزال ما عدّها «حدود سايكس - بيكو بين العراق وسوريا» ؛ رغم أن ذلك الاتفاق الأنجلو – فرنسي، لم يحدد قط الحدود العراقية – السورية. الأمر المهم هنا أن «داعش» سعى لتحويل إعلانه إلى واقع من خلال تشكيل منطقة الفرات، التي تضمنت مناطق من عانة في غرب محافظة الأنبار العراقية والميادين في شرق سوريا. وأصبحت هذه المنطقة، التي تضمنت القائم والبوكمال، مركز المنطقة.

- ما بعد «داعش»
أدى طرد «داعش» من القائم عام 2017 على أيدي قوات عراقية مختلفة، إلى نشر كثير من القوات العسكرية وشبه العسكرية في منطقة القائم - البوكمال الحدودية. وارتبط كثير من الميليشيات بروابط وثيقة مع إيران و«الحرس الثوري» الإيراني. وساعدت هذه الروابط في إحداث تحول على مستوى المنطقة الحدودية لتصبح ممراً لإيران يمكنها من خلاله بسط نفوذها الإقليمي، خصوصاً بعد إغلاق معبر التنف - الوليد.
وفي مارس (آذار) 2019، أعلنت واشنطن القضاء الكامل على «داعش» جغرافياً بتحرير الباغوز بالتعاون مع حلفائها في «قوات سوريا الديمقراطية». عزز هذا نظرة الولايات المتحدة وإسرائيل إلى المنطقة الحدودية بوصفها جبهة محورية في الجهود الرامية لاحتواء النفوذ الإيراني. وكتب خضور وحسن: «نتيجة وجود نظام أمني مختلط بالمنطقة الحدودية، مع انتشار قوات أمنية رسمية بالقرب من ميليشيات، ظهر وضع عام غير مستقر في جوهره. وتترك المشاحنات الجيوسياسية الإقليمية الكبيرة، بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة؛ وإيران من جهة أخرى، تأثيراً كبيراً على ديناميكيات الأوضاع بالمنطقة الحدودية. وعليه، تحولت منطقة القائم - البوكمال الحدودية إلى مسرح لجهود إعادة ترتيب المشهد الجيوسياسي مع مساعي إيران الحثيثة للفوز بنفوذ أكبر».
ولوحظ أن الدعم الإيراني في السنوات الأخيرة للحكومتين السورية والعراقية في قتالهما ضد خصومهما المسلحين، عزز روابط طهران بالبلدين. ومع ذلك، أسس «الحرس الثوري» شبكة ممتدة من الجماعات شبه العسكرية عابرة للحدود تقيّد حرية الحكومتين في العمل على نحو مستقل عن المصالح الإيرانية. وتتضمن شبكة الجماعات التي يقودها «الحرس» مقاتلين من أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا قاتلوا إلى جانب القوات الحكومية العراقية والسورية في مواجهة «داعش» أو المعارضين السوريين، مما جعل الحكومتين معتمدتين على نحو متزايد على مثل هذا الدعم وإن كانت الصورة أكثر تعقيداً في سوريا جرّاء وجود روسيا ودخول تركيا على الخط.
علاوة على ذلك؛ اكتسبت هذه الجماعات نفوذاً بسيطرتها على مساحات من الأراضي وتأمينها موارد وحصولها على شرعية وحصانة من خلال دمجها لعناصرها في الدولة، مثلما حدث مع قوات «الحشد الشعبي» العراقية. ورغم أن هذه القوات على أرض الواقع أبقت على درجة واسعة من الاستقلال الذاتي الإداري والعملي عن سلسلة القيادة الرسمية، فإنها استغلت مظلة قوات «الحشد الشعبي» غطاءً شرعياً لنشر القوات؛ حسب الورقة.

- غايات إيران
تقدم الدراسات تقييماً متكاملاً للأسباب التي دفعت بإيران إلى تعزيز وجودها في القائم – البوكمال؛ إذ ذكرت ورقة «كارنيغي» أربعة أسباب؛ هي: أولاً: سعيها لحرمان «داعش» من فرصة إعادة بناء قواته داخل المناطق الواقعة على أطراف العراق وسوريا. ثانياً: تأمين ممر بري لربط المناطق الخاضعة للنفوذ الإيراني في العراق ولبنان سوريا، في مهمة تتطلب السيطرة على حركة الأشخاص والأسلحة والسلع عبر الحدود؛ أو المراقبة الوثيقة لها. ثالثاً: تودّ طهران إعاقة محاولات واشنطن وحلفائها لاستغلال المنطقة الحدودية قاعدةً للتصدي للنفوذ الإيراني. رابعاً: تحتاج إيران إلى الاحتفاظ بقدرتها على تعزيز «حزب الله» عسكرياً في لبنان ونشر ميليشيات أخرى مدعومة من «الحرس» الإيراني بمنطقة الهلال الخصيب حال اشتعال صراع مع إسرائيل عبر لبنان أو سوريا.
من جهته؛ يقول «المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية» إن إقامة إيران ممراً برياً للربط بينها وبين لبنان عبر العراق وسوريا سيمكّنها من دعم الجماعات التابعة لها في الدول الثلاث بشكل أفضل، إلى جانب نقل السلاح والمعدات بسلاسة وسهولة إلى تنظيم «حزب الله» في لبنان؛ «لكن، هناك مبالغة فيما يتعلق بأولوية ذلك الممر في الاستراتيجية الإيرانية تجاه سوريا، فمنذ المراحل الأولى من الأزمة السورية وحتى نهاية عام 2017 استمرت إيران في دعم (حزب الله) بعدة طرق مختلفة، بينها استخدام ممر جوي، رغم عدم تمكُّنها من استخدام المعابر الواقعة على الحدود العراقية - السورية».
وبالنظر إلى الوجود العسكري الأميركي في أجزاء عدة من العراق وسوريا من جانب؛ والتفوق الاستخباراتي الإسرائيلي على الدولتين من جانب آخر، سيتضمن نقل الأسلحة والمعدات بشكل مباشر عبر ما يُسمى «الممر البري» مخاطر كبيرة، فقد قصفت إسرائيل أهدافاً إيرانية في سوريا أكثر من 200 مرة خلال الفترة ما بين 2016 و2018.
عليه، يرى المركز أن أهمية معبر البوكمال - القائم بالنسبة إلى إيران من منظور عسكري تكمن بدرجة أكبر في تيسير انتقال القوات العسكرية وشبه العسكرية عبر الحدود، لذا تجعل سيطرة إيران على مناطق واقعة على جانبي الحدود من السهل بالنسبة للقوات الإيرانية؛ الانتقال جيئة وذهاباً، وإعادة الانتشار والتموضع في مناطق أخرى. على سبيل المثال، جرى إرسال نحو 400 عنصر من «الحشد الشعبي» العراقية إلى إدلب من خلال هذا المعبر خلال شهري فبراير (شباط) ومارس 2020. ويمكن لازدياد حركة القوات المدعومة من إيران جعلها محصنة جزئياً من الهجمات الأميركية والإسرائيلية التي تحدث بين الحين والآخر.

- أهداف أميركا
أعلن مسؤولون أميركيون أكثر من مرة أن أحد أهدافهم الرئيسية في سوريا، هو «تحديد» أو «إنهاء» نفوذ إيران. وتدعم واشنطن عبر التحالف الدولي «قوات سوريا الديمقراطية» في سيطرتها على مناطق شرق الفرات بوجود قوات وقواعد برية وغطاء جوي ومعدات لحماية النفط، ولديها قاعدتان في العراق وسوريا. إحداهما في التنف، قرب معبر التنف - الوليد الحدودي المغلق حالياً بين سوريا والعراق، الأمر الذي أدى عملياً إلى إغلاق الطريق التقليدية بين بغداد ودمشق، حيث ينتشر في القاعدة مائة عنصر وراجمات صواريخ لحماية دائرة بقطر 55 كلم.
أما القاعدة الأخرى؛ وهي «عين الأسد»، فتقع داخل محافظة الأنبار قرب ضاحية البغدادي. وزار الرئيس الأميركي دونالد ترمب القاعدة في ديسمبر (كانون الأول) 2018 وأعلن أنه سيجري استخدامها في إبقاء عين واشنطن على النشاطات الإيرانية بالمنطقة.
بجانب ذلك، جرى نشر قوات أميركية في وقت سابق قرب محطة القطارات القديمة في القائم أثناء الحملة التي جرى شنها ضد «داعش». وتقول ورقة «كارنيغي» إن ميليشيات مدعومة من «الحرس» استغلت نشر قوات أميركية في غرب العراق لتبرير وجودها قرب الحدود. وقال مسؤولون عراقيون من الأنبار إن الولايات المتحدة تحاول بناء قواعد جديدة في مدينة الرمانة، شمال القائم.
وفي أغسطس (آب) 2019، قتلت هجمات بطائرات «درون» وأصابت العديد من أعضاء جماعة «كتائب حزب الله» قرب الحدود. واتهمت قوات «الحشد الشعبي» إسرائيل بالوقوف وراء الهجوم. وفي بيانات أخرى، اتهمت قوات «الحشد» الولايات المتحدة بتيسير الهجمات الإسرائيلية، مما دفع بجماعتين سياسيتين مواليتين لـ«الحشد» بتكثيف المطالب برحيل القوات الأميركية.
في 29 ديسمبر 2019، شنت القوات الأميركية هجمات جوية ضد مواقع فصائل مدعومة من «الحرس» قرب الحدود؛ ثلاثاً منها بالعراق واثنتان في سوريا، مما أثار تنديدات قوية من الحكومة العراقية و«الحشد». وأعلنت واشنطن أن الضربات الجوية جاءت رداً على هجمات شنتها «كتائب حزب الله» ضد قاعدة عسكرية شمال العراق تنتشر بها قوات أميركية، ما أسفر عن مقتل مقاول عسكري أميركي.
وتسبب الهجوم في تفاقم التوتر بين الولايات المتحدة وجماعات مدعومة من إيران والحكومة العراقية، حيث أمرت إدارة ترمب باغتيال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس»، وأبو مهدي المهندس، نائب قائد «الحشد». وثأرت إيران من هذا الهجوم بإطلاقها صواريخ ضد قاعدتين عسكريتين في العراق بهما قوات أميركية.
وفي 16 مارس 2020، أعلنت القوات الأميركية إعادة نشر هذه القوات إلى قاعدة مختلفة في كركوك بشمال العراق. وقام الجيش الأميركي بإخلاء مواقعه في قاعدة القيارة الجوية جنوب الموصل، والقصر الرئاسي السابق شمال الموصل، وقاعدتي «كيه1» قرب كركوك والقائم على الحدود مع سوريا، وسلمت قاعدة «الحبانية»، إلى الغرب من بغداد، للقوات العراقية، حيث جرى سحب القوات من المراكز الصغيرة وتجميعها في مجمعات أكبر لتوفير فرص أكبر لحمايتها من هجمات صاروخية ممكنة، عبر منظومات «باتريوت»، التي وصلت، بالفعل، إلى «عين الأسد» في محافظة الأنبار غرب العراق مع توقع شحن منظومتين من الكويت في الأيام المقبلة تخطط القوات الأميركية لنشرهما في قاعدة «حرير» قرب أربيل، عاصمة إقليم كردستان.

- جانب اقتصادي
هناك بُعد آخر للتنافس بين الولايات المتحدة وإيران بإعادة البناء والتشييد بمنطقة الحدود والطرق المؤدية للمنطقة. يذكر المركز الألماني سبباً اقتصادياً؛ إذ إنه من المعروف منذ عام 2013، لمبادرة «الحزام والطريق» الأولوية في السياسة الخارجية الصينية لتيسير التبادل التجاري بين الشرق والغرب. وجعلت في الخطط الأولية لربط الصين بأوروبا الأولوية لإقامة الطرق البرية الشمالية عبر روسيا ووسط آسيا، إلى جانب طريق بحرية عبر الخليج العربي. مع ذلك تحاول طهران جذب اهتمام بكين إلى طريق برية جنوبية تربط إيران والعراق وسوريا بالبحر المتوسط ثم بأوروبا.
وكشفت إيران في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 خطة لإنشاء خط سكة حديد يربط معبر الشلامجة الحدودي الواقع على الحدود الإيرانية - العراقية بميناء البصرة في جنوب شرقي العراق. ومن المفترض أن يمتد الخط بعد ذلك باتجاه الساحل السوري. جرى الإعلان في ربيع 2019 عن اعتزام إيران استئجار محطة الحاويات في ميناء اللاذقية. ومن المؤكد أن هناك مكوناً وعنصراً اقتصادياً للتدخل الإيراني في سوريا.
وبين الأمثلة على ذلك ما ذكرته مصادر لباحثي ورقة «كارنيغي» حول مشروع يتضمن بناء شبكة من الطرق السريعة بين بغداد والمعبرين الحدوديين طريبيل على الحدود الأردنية والتنف على الحدود السورية. أيضاً؛ ترتبط شبكة الطرق السريعة عبر طريق ثانوية آتية من الرطبة بمعبر القائم - البوكمال الحدودي، ثم بامتداد داخل سوريا من طريق القائم ـ البوكمال.
يذكر أن طريق بغداد - طريبيل السريعة الممتدة لـ570 كلم جرى إنشاؤها أواخر الثمانينات وأصبحت قناة الاتصال الرئيسية بين العراق والعالم الخارجي عندما خضعت البلاد لعقوبات في التسعينات. وتبعاً لبعض التقديرات، فإن نحو 40 في المائة من التجارة البرية في العراق مرت على هذا الطريق خلال تلك الفترة. وبعد 2003، أصبحت الطريق خطيرة بسبب هجمات جماعات مسلحة، خصوصاً «القاعدة»، التي اعتدت على المسافرين بالسرقة أو استولت على بضاعتهم أو سياراتهم لإعادة بيعها لهم.
في مارس 2017، وافقت حكومة حيدر البغدادي على مقترح من محافظة الأنبار لمنح الشركة الأميركية «أوليف غروب»، عقداً للاستثمار في إصلاح الطريق السريعة وحماية عمال البناء والمسافرين. وتضمن العقد، أيضاً، خطةً لتطوير طريق سريعة دولية تربط بغداد وعرعر على الحدود السعودية، بجانب بناء طريق سريعة جديدة تربط الأنبار مباشرة بالحدود.
لكن المشروع واجه معارضة من جانب كثير من أعضاء البرلمان العراقي، بمن فيهم جماعات متحالفة مع إيران. وأدت موجة الجدل إلى التخلي عن العقد وتكليف قوات الأمن العراقية بمهمة حماية الطريق السريعة.
ومع هذا، وتبعاً لما أفاد به مسؤول سابق من الأنبار كان مشاركاً على نحو مباشر في صياغة المشروع، لمعدّي البحث، فإن جماعات موالية لإيران حشدت ضد المشروع لأنها رأت فيه محاولة من جانب الولايات المتحدة لتوسيع نطاق نفوذها داخل الأنبار وغرب العراق. وبجانب حقيقة أن القوات الأميركية تسيطر على الفضاء الجوي بالمنطقة وتطلق مناطيد استطلاع من قاعدتها الجوية في الأنبار، رأت بعض الفصائل الموالية لإيران المشروع جزءاً من خطة طويلة الأجل لترسيخ الوجود الأميركي في المحافظة وتحويلها إلى قاعدة للنشاطات المناهضة لإيران.
وقد عبّر مسؤول من «كتائب حزب الله» عن هذه الأفكار عندما ندد بـ«محاولة قوات أميركية ضمان السيطرة الكاملة على الحدود العراقية ـ السورية، بذريعة الحيلولة دون استغلال إيران للحدود لدعم سوريا و(حزب الله)».
أيضاً، سعت جماعات موالية لإيران إلى تطوير خطط بديلة لاستغلال منظومة الطرق السريعة في العراق لتوسيع نطاق نفوذها وترسيخه على امتداد الحدود، وهناك محاولات لبناء طريق من كربلاء إلى منطقة القائم - البوكمال لتيسير حركة الجماعات المرتبطة بقوات «الحشد»، والأشخاص العاديين الذين يتوجهون إلى مزارات في سوريا.
وتتجلى أهمية معبر القائم ـ البوكمال لدى إيران عندما يدرك المرء أن مصالحها كانت العامل الأبرز وراء إعادة فتح المعبر في أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وتبعاً لما ذكره عضو في البرلمان من القائم، فإن الحدود أعيد فتحها بصورة أساسية لمعاونة الاقتصاد السوري وتخفيف حدة أزمة نقص النفط والوقود وتوفير فرصة للحكومة السورية لإحياء الإنتاج الصناعي داخل حلب.
واكتسب المعبر أهمية إضافية بالنظر إلى أن المعبرين الحدوديين الآخرين؛ أي التنف - الوليد، وربيعة - اليعربية، لا يزالان مغلقين. وتعوق قوات أميركية و«قوات سوريا الديمقراطية» قدرة دمشق على الوصول لهذين المعبرين.
ويعتقد بعض المسؤولين المحليين في القائم أن إعادة فتح المعبر ستخدم بصورة أساسية إيران وحلفائها. ويقولون إنه سيسمح فقط للشركات المرتبطة بإيران أو الجماعات المتحالفة معها بالمشاركة في نشاطات عبر الحدود، وهي في الجزء الأكبر منها شركات لبنانية وعراقية وسورية. وكانت الحكومة اللبنانية و«حزب الله» اللبناني قد أبديا اهتماماً كبيراً بتطورات المعبر، مشيرين إلى أنه سيسهم في جعل السوق العراقية الكبيرة متاحة بدرجة أكبر أمام السلع اللبنانية وسيساعد الاقتصاد اللبناني المتداعي.
وتسعى طهران وحلفاؤها إلى ربط منطقة القائم ـ البوكمال بشبكة أوسع من الجماعات الموالية لإيران لتوحيدها في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. وكان «المرصد السوري لحقوق الإنسان» أكد «مواصلة القوات الإيرانية و(حزب الله) اللبناني عمليات التجنيد لصالحها بشكل سري وعلني في الضفاف الغربية لنهر الفرات». وقال إن العدد «ارتفع إلى نحو 3600 من الشبان والرجال السوريين من أعمار مختلفة، ممن جرى تجنيدهم في صفوف القوات الإيرانية والميليشيات التابعة، في خضمّ الصراع الأميركي - الإيراني ودخول روسيا على الخط بتوسيع انتشارها شرق الفرات وإقامة قاعدة عسكرية في القامشلي ونشر منظومة صواريخ تحت المظلة الأميركية، إضافة إلى قاعدتي طرطوس واللاذقية وشن حملة على «معاناة» المدنيين في مخيم «الركبان» قرب قاعدة التنف، واستمرار الغارات الإسرائيلية على «مواقع عسكرية إيرانية» في البوكمال ونشر تركيا لقواتها وحلفائها شمال شرقي سوريا، تحولت الحدود السورية - العراقية إلى جبهة معقّدة لصراع إقليمي – دولي؛ إذ ترتبط استراتيجيات هذه الدول بخطوط تماس ونقاط صغيرة على الأرض وقدرة كل طرف على التغلغل في البيئة المحلية التي نقلت ولاءاتها عبر العقود والسنوات من طرف إلى طرف. بين التطورات التي ستترك آثارها المستقبلية، مستقبل الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات مع أن واشنطن أعلنت أكثر من مرة أنها باقية في التنف «حيث تتحقق أهداف استراتيجية كبرى باستثمار عسكري صغير»، إضافة إلى مدى جرأة التوسع الروسي والتوغل التركي في شرق الفرات، ومستقبل الأكراد في العراق وسوريا... والعلاقة مع المركز في دمشق وبغداد وما يجري في هاتين العاصمتين.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.