في خطبة صوتية هي الأهم من الخليفة الداعشي المزعوم أبو بكر البغدادي اختار لها الآية: «ولو كره الكافرون» في إشارة إلى عودته إلى المشهد باستراتيجية جديدة، ردا على كل الدعاوى والإشاعات حول مقتله أو إصابته، والتي من شأنها إضعاف التمدد الداعشي على الأرض وفي الفضاء الإلكتروني الذي تنشط فيه الجماعة بما لم تستطعه أي جماعة عنفية من قبل.
«التحالف الصليبي سيفشل» ربما كانت هذه العبارة تعبر عن عصارة موقف البغدادي من الحرب الدولية على داعش بقيادة الولايات المتحدة والتي لم تحقق أهدافها إلى الآن رغم قدرتها على الحد من زحف داعش نحو ابتلاع المزيد من المدن وكسر الحدود الفاصلة بين الأقاليم في الشام والعراق.
قلق عارم ينتاب الباحثين الغربيين حيال كلمة البغدادي ويقول فريد زكريا في مقالة تحليلية معبرة عن هذا الفزع من استراتيجية البغدادي الجديدة: إن رسالة أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش هي طُعم يراد به دفع الولايات المتحدة للتدخل بصورة أكبر في الحملة الدولية على التنظيم وذلك في سبيل الاستفادة من هذا الأمر لاستقطاب المزيد من الجهاديين حول العالم.
ويسهب شارحا فكرته «هذا تكتيك قديم، كان تنظيم القاعدة يستخدمه في السابق مرارا، تستخدم به لغة التهديد والتبجح تكرارا.. ولنتذكر بأن داعش انتقلت من كونها لا شيء إلى أن أصبحت بديلا لتنظيم القاعدة الذي يعتبر أكثر تنظيم متشدد معروف في العالم، كيف؟ ببساطة من خلال تحديه للولايات المتحدة».
من جهتها تناولت صحيفة «ناشيونال ريفيو» في تقرير لها، التسجيل الأخير الذي أطلقه، من عين نفسه خليفة للمسلمين، أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم داعش الإرهابي، معتبرة أن البغدادي أراد تكذيب إشاعات راجت حول مقتله إثر غارة جوية، فأطلق ذلك الشريط الجديد المشحون بالكراهية، حيث ذكر أحداثا تمت منذ انتشار خبر احتمال موته.
ورأت الصحيفة أن البغدادي كرر تعهدات أطلقتها سابقا عدة تنظيمات متشددة سلفية، وهذا الخطاب يؤكد حقيقة استراتيجية تجاهلها الرئيس أوباما وسواه من زعماء الغرب، هي أن داعش يمثل خطرا كبيرا، وتهديدا واسع النطاق، واعتبرت الصحيفة أن إدارة أوباما باعتقادها أن داعش يجب أن يهزم بداية في العراق، ومن ثم في سوريا، تتجاهل حقيقة كون هذا التنظيم يشن حربا على ساحتين مادية وفكرية معا.
خطبة البغدادي الأخيرة منعطف جديد في تاريخ الحركات العنفية في المنطقة، حيث الانتقال من استراتيجية مواجهة {العدوان الصليبي} والغربي إلى مواجهة الأنظمة العربية والآن استهداف الأقليات بهدف ضرب مداميك السلم الأهلي، وتعكس خطبته الأخيرة حجم استهداف المملكة العربية السعودية إن على مستوى الاستقطاب والتجييش أو على مستوى الاستهداف وتقويض الأمن.
كما يعكس الهجوم الداعشي على السعودية حالة الإحباط من فشل العملية الأخيرة في الأحساء والتي تعاملت معها الأجهزة الأمنية على طريقتها في الضربات الأمنية الاستباقية، وفي ذات الوقت تتصدى المملكة لحملات التجنيد والتعاطف والتأييد لمقاتلي داعش في الداخل أو على حدودها الممتدة والتي تتقاطع مع نقاط كثيرة ملتهبة.
التسجيل الصوتي المنسوب للبغدادي يشرع الكثير من الأسئلة الجديدة حول استراتيجية التنظيم، فهو يدشن عصرا جديدا لداعش يمتد خارج حدود الصراع في الشام والعراق، فالبغدادي ينوي ترحيل العنف الداعشي إلى مناطق أخرى لأهداف كثيرة منها تشتيت جهود التحالف في ضربه، إضافة إلى استقطاب المزيد من الخلايا والكوادر العنفية التي لم تتمكن من الانتقال إلى أرض المعركة.
كلمة البغدادي المقتضبة لم تغفل الهجوم على التحالف الجديد ضد داعش والذي وصفه الخليفة المزعوم بالتحالف الصليبي الفاشل، كما خص هجومه على دول بعينها على رأسها المملكة العربية السعودية باعتبارها حجر عثرة أمام المشروع الداعشي الذي يستهدف المنطقة بأسرها.
جديد هذه الكلمة الصوتية هو مضمونها الموجه ليس إلى الإعلام الخارجي فحسب، بل للأنصار والمتعاطفين الذين بدأوا يشكون في قدرة داعش على البقاء لتأتي الكلمة وتطلب منهم كما عبر البغدادي «تفجير براكين الجهاد في كل مكان» وهو ما يعني تحول داعش من تنظيم إقليمي يستهدف إقامة دولته على مناطق التوتر في الشام والعراق إلى تنظيم أممي دولي بأذرع وفروع محلية في كل مكان، والأمر ليس من قبيل المبالغة حيث تضمنت الكلمة طلب البيعة وقبولها من كل الأنصار في أماكنهم وعلى من يريد الانضمام إلى داعش كما صرح البغدادي تقديم البيعة في أي من ولايات وأقاليم داعش الافتراضية والتي تحتل خريطة العالم كما يقول المناصرون.
البغدادي نفى صحة الخسائر في صفوف المسلحين وبشكل ضمني نفى أنه قد أصيب مذكرا بكذب الحملة الصليبية على تنظيمه وأنها تزعم قتل عشرات {المجاهدين }وتدمير الآليات وكل ذلك عار عن الصحة، محذرا من تصديق الإعلام الكاذب وعلى حد قوله: «اطمئنوا أيها المسلمون بأن دولتكم بخير وفي أحسن حال، وستظل تمتد بإذن الله» وهذه العبارة بحد ذاتها دليل على أن البغدادي لا يرى في نفسه أقل من خليفة للمسلمين كافة وليس لأتباعه من المؤمنين بآيديولوجية داعش وولاياتها.
اللافت في كلمة البغدادي فيما يخص التنافس بين المجموعات المتشددة الدعوة إلى تجديد البيعة لا سيما بعد تمرد الكثير من الخلايا الصغيرة وعودتها إلى بيعة الظواهري و«القاعدة» مجددا على إثر اكتشاف أن «داعش» لعبة استخباراتية أكثر من كونها مشروعا عالميا كما يعبر القاعديون في منصاتهم الإعلامية، كما لم ينس أن يتباهى بأنصاره في العالم حيث صرح بقبول كل «البيعات» للتنظيمات والمجموعات والأفراد من كل المناطق ودعا إلى الانضمام إلى التيارات التي أعلنت بيعتها إلى داعش وأبرزها تنظيم بيت المقدس في سيناء الذي أعلن بيعته ودعمه الكامل لداعش بل وتحويل سيناء إلى ولاية لداعش.
لم يفت الخليفة الداعشي أيضا الهجوم على كل مجموعة أو شخص لم يبايع داعش، وبالتالي دعا كل المجاميع المتشددة إلى المبادرة بإعلان بيعتها وصرح بقبول كل المتحولين من الجماعات المتشددة أفرادا ومجموعات وهو ما يعكس هدفين مزدوجين تذويب الحالة الجهادية في داعش وهو أمر بالغ الخطورة لم تجرؤ عليه حتى «القاعدة» في أيام قوتها، والثاني محاولة لتضخيم عدد وقدرة التنظيم في رسالة واضحة إلى التحالف الأميركي الذي لم يحقق أهدافه بعد.
توقيت الكلمة الصوتية للبغدادي جاء بعد تلقيه 5 بيعات دفعة واحدة، منها أنصار بيت المقدس في سيناء، والتي غيرت إلى ولاية بيت المقدس في سيناء، بيعة الخلافة في المغرب العربي، بيعات من اليمن والسعودية، بيعات سابقة من قيادات في حركة طالبان باكستان وهو ما يعني إطلاق العنان للآلة الدعائية الإعلامية لداعش لاستقطاب المزيد من الكوادر والأفراد، ويتزامن هذا الزهو الداعشي بتحقيق اختراقات كبيرة شكلت صدمة للمراقبين في العراق والشام وفي الأنبار تحديدا حيث تتسيد داعش حتى في مناطق تحت سيطرة الحكومة كما أنهم ليسوا بعيدين عن عاصمة العراق.
البغدادي فضل الكلمة الصوتية عبر خطبة غير مرئية حرصا على النواحي الأمنية حيث بات من السهل تحليل وقراءة إحداثيات التسجيل المرئي وبالتالي الوصول إلى مكان تقريبي لوجوده واستهدافه، كما أن احتمال إصابته قد ترجح تفضيل الظهور الصوتي على المرئي وهو ما يعني أن هدف البغدادي الأول طمأنة أتباعه وطرح استراتيجية التنظيم الجديدة ومن هنا جاء عنوان كلمته بالآية «ولو كره الكافرون» ليعكس حجم التحدي لقوات التحالف.
ويمكن القول: إن 17 دقيقة حملت الكثير من الأهداف لخليفة داعش المزعوم أهمها التأكيد على تمدد وبقاء داعش, كما يزعم ووصوله لليمن وليبيا والجزائر وسيستمر الزحف إلى روما أيقونة الحلم المعبرة عن نبوءات الملاحم في آخر الأزمان في تدليل على أن داعش وخليفته يرون أنهم الباقون على درب {الجهاد} في آخر الزمان حتى فتح روما.
التنظيم على مستوى المناطق الخاضعة تحت سيطرته يعمل على قتل وتصفية الخصوم من المجموعات المقاتلة التي لم تبايع البغدادي أو التي ما زالت تدين بولائها لـ«القاعدة» حتى بعد إعلان داعش خليفته كخليفة عام للمسلمين لا يجوز الخروج عليه أو نقض بيعته. في السابق كان داعش يلعب جيدا على مركزية الشام في الفكر المتشدد، في الوقت نفسه الذي يلعب فيه بإيقاع سياسي محترف يحاول استغلال الفراغ الأمني على طول الشريط الحدودي للعراق وسوريا ولبنان، فهو من جهة يشكل بديلا لتجربة «حزب الله» الدولة غير المعلنة، وهنا يذكي الجانب الطائفي ويلعب على مسألة حدود الدولة القُطرية بهدف دغدغة مشاعر كوادر الإسلام السياسي وكل التنظيمات ذات التفكير الأممي؛ من السلفية الحركية إلى حزب التحرير، مرورا بشخصيات قد تصمت عن جرائم «داعش» في مقابل انتظار قفزاتها السياسية لاحقا نحو مركب «داعش» متى ما استقر لها الأمر، وهو ما نجده في ثنايا تعليقات نجوم الدعاة المسيسين. حتى الآن، لم تظهر أي شجاعة إلا من قبل الفقيه الأصولي المغربي أحمد الريسوني، وهو مقدر عند الإسلامويين – الذي إن استغل الحدث باعتباره تعبيرا عن فشل إيقاف الظلم تجاه الإسلاميين المعتدلين، فإنه أكد أن إعلان الدولة المجهولة افتئات على المسلمين يجب ردعه ولو بالقتال.. ماذا عن بقية التيارات الدينية؛ من المعتدلة، إلى الرسمية، إلى الحركية؟ لا شيء تجاه «داعش»، مع أن إعلان الخلافة أهم مسألة سيواجهها الخطاب الشرعي الآن، فإبطال هذه الدعوى يلزم منه سحب شرعية «داعش»، والقبول بها يلزم منه وجوب الهجرة إلى دولة الخلافة، وهو خيار يقترب من حدود الكوميديا في عالم اليوم المعقد، بحيث لا يمكن تصور قدرة «داعش» على إدارة نفسه في حال بقاء الإهمال الدولي، فضلا عن قدرته على تحقيق حلم الخريطة السوداء التي باتت أيقونة الجدران والسيارات في الشام والعراق ومناطق أخرى.
إلا أن كلمة البغدادي الأخيرة دشنت لمرحلة جديدة عنوانها استهداف السعودية كما كانت تفعل «القاعدة» من قبل إلا أن حجم استهداف السعودية مع داعش أكبر وحتى لغة التعبير عن ذلك حيث رفع شعار{ قتل المشركين} في جزيرة العرب ليس في إشارة إلى غير المسلمين من المعاهدين وأهل الذمة بل استهداف الطوائف والأقليات الدينية وعلى رأسهم الطائفة الشيعية في إشارة إلى فشل عملية الأحساء والمطالبة بتكرار ذلك الاستهداف.
كلمة البغدادي إذا ما قرأناها بالأدبيات العسكرية هي بيان حرب يحدد أولويات المرحلة ويهدف إلى رفع معنويات أتباعه من الداعشيين وطلب المزيد من الكوادر وتوسيع نطاق المعركة وجلب الأميركيين إلى حرب برية من شأنها في حال تفوق داعش تغيير المعادلة في المنطقة كما أنها ستحرج المجتمع الدولي في حال بقاء الضربات الجوية التي لم تؤت أكلها حتى الآن.
كلمة البغدادي تم تداولها على نطاق واسع في الإنترنت إلا أن ذلك لم يمنع من قيام التنظيم بطباعة كمية كبيرة من الأقراص المدمجة التي تحتوي على الخطبة وتوزيعها على كل المناطق الخاضعة تحت سيطرة التنظيم طبع عليها شعار تنظيم «داعش» مع صور لأعضاء التنظيم تحت عبارة {اللجنة الإعلامية لولاية الأنبار قسم التوزيع والنشر»، وكتب على الغلاف: هذه الأقراص تحتوي على مقتطفات من خطب أمير المؤمنين أبو عمر البغدادي، ومقتطفات من خطب وزير الحرب أبو حمزة المهاجر، ومقتطفات من خطب الشيخ أسامة بن لادن، وعمليات منوعة قصيرة وهو ما يفسر بأنها عملية إعلامية شاملة تستهدف حتى أولئك البعيدين عن منصات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي المرتع الخصب للداعشيين.
المسألة لم تعد ارتباكا سياسيا أو تقدير موقف خاطئ.. هناك إهمال للحرب الفكرية على داعش سيجر ويلات كبيرة على المنطقة رغم أن «داعش» ليس أعظمها وأخطرها، فالتنظيم رغم النجاحات الباهرة التي سيحققها بإعلان الدولة على مستوى الاستقطاب والتمويل والدعاية المجانية وإيقاظ الحلم، ليس فقط في دوائر المؤمنين بالعنف المسلح طريقة للتغيير، بل للقادمين من دهاليز سرية بعد فشل دولة الإسلام السياسي.
يدين المتطرفون للبغدادي بأكبر انتعاش للفكر المسلح المتطرف منذ تأسس تنظيم القاعدة وحتى تضخمه بعد الاحتلال الأميركي للعراق وصولا إلى تحول العراق والشام إلى منطقة فوضى خلاقة بالمقاتلين والتنظيمات والأفكار المتطرفة في حدودها القصوى.