بوتين وإردوغان في سوريا... محطات التعاون والطعنات

مقاتلون معارضون تدعمهم تركيا مع دباباتهم في سراقب بريف إدلب أمس (أ.ف.ب)
مقاتلون معارضون تدعمهم تركيا مع دباباتهم في سراقب بريف إدلب أمس (أ.ف.ب)
TT

بوتين وإردوغان في سوريا... محطات التعاون والطعنات

مقاتلون معارضون تدعمهم تركيا مع دباباتهم في سراقب بريف إدلب أمس (أ.ف.ب)
مقاتلون معارضون تدعمهم تركيا مع دباباتهم في سراقب بريف إدلب أمس (أ.ف.ب)

المواجهة بين روسيا وتركيا في شمال سوريا تدخل في مرحلة جديدة أشبه بصدام بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان يهدد «زواج المصلحة» الذي نشأ بين «القيصر» و«السلطان» في شكل تراكمي بدءاً من نهاية 2015.
هذه المواجهة باتت تأخذ مستويات عدة: توتر في جلسات المفاوضات المتكررة بين دبلوماسيي ورجال الاستخبارات في البلدين. مواجهة ميدانية مباشرة، كان أحد تجلياتها أن دبابة تركيا كانت تلاحق أخرى روسية في ريف إدلب. في الأولى، فصائل محسوبة على أنقرة. في الثانية، عناصر تدعم الجيش الروسي. تبادل الاتهامات بين الطرفين. موسكو تتهم أنقرة بـ«عدم فصل المعتدلين عن الإرهابيين». أنقرة تتهم موسكو بعدم حماية النقاط التركية من قوات دمشق وبـ«قيادة» الجهوم على إدلب. إرسال تعزيزات وحشود عسكرية برية ومسيّرة وجوية إلى ساحة الصراع والاختبار. دبلوماسياً، انهيار محاولات عقد قمة «روسية - تركية - ألمانية – فرنسية» أو قمة «روسية - تركية – إيرانية» أو حتى لقاء بين بوتين وإردوغان.
دائماً، ما كانت تأتي المواقف من إردوغان نفسه ومن الكرملين ذاته. في ذلك، إشارة إلى مستوى التوتر والمكاسرة بين الرئيسين في حارات وقرى ريف إدلب. ومع اقتراب يوم السبت ونهاية المهلة - الإنذار تزداد صعوبة إمكانية «الحفاظ على ماء الوجه»؛ «السلطان» وضع «خطا أحمر». «القيصر» تعرض لضربة في ريف إدلب، هي الانتكاسة الرمزية الأولى له منذ التدخل العسكري المباشر في سبتمبر (أيلول) 2015.
اشتغل بوتين وإردوغان كثيراً على حياكة العلاقات الثنائية في بيئة إقليمية متحركة وساحة دولية متغيرة. كل منهما، كان يرى في هذا الاستثمار ما يخدم مصالحه. كل منهما يذهب بالاختبار إلى نهاياته ثم يعود بعد اكتشاف كل منهما مدى حيوية الآخر للمصالح الكبرى.
«طعنة بالظهر»
بعد أيام من إرسال بوتين قواته إلى قاعدة حميميم في سوريا، أسقطت مقاتلة تركية أخرى روسية من طراز «سوخوي 24» قرب الحدود السورية في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. أراد بوتين اختبار مدى دعم حلفائه في «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) ومدى جدية «القيصر» في العودة إلى الشرق الأوسط وحدود «ناتو». بوتين سارع إلى اعتبار الحادثة «طعنة في الظهر» أو «خيانة عثمانية». وقدم قائمة الطلبات من «السلطان». لم يكن من خيار أمام إردوغان سوى الاعتذار عن إسقاط الطائرة الروسية بعدما اكتشف أن الدعم «الأطلسي» لن يصل إلى حد تفعيل المادة الخامسة من ميثاقه بالدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف. ومنذاك، راحت تركيا تغازل «الجار الروسي» الجديد على الحدود الجنوبية.
صائد الفرص
بوتين معروف بأنه صائد الفرص. كانت محاولة الانقلاب ضد إردوغان في منتصف يوليو (تموز) 2016 فرصة ذهبية لـ«القيصر». ميّز موقفه عن حلفاء إردوغان في «الأطلسي». سارع للاتصال بـصديقه الجديد للتعبير عن «رفض روسيا القاطع للأعمال غير الدستورية والعنف في حياة الدولة». قطف الثمار بأن انتقلت العلاقات بين موسكو وأنقرة من معالجة آثار إسقاط الطائرة والاعتذار إلى تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي والتجاري بتوجيهات من رأس الهرم في دولتين مركزيتين. انتقلا من الشكوك إلى التعاون الحذر إلى محاولات التحالف. مشاريع استراتيجية عملاقة طُرحت بين البلدين. رفع ميزان التبادل التجاري. «السيل التركي» لنقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود وصولاً إلى تدشينه في بداية 2020.
«إس 400»
هل يمكن أن تفوز روسيا استراتيجياً بتسليم منظومة صواريخ «إس 400» إلى دولة عضو في «حلف شمال الأطلسي»؟ نعم، نجح بوتين في بيع ثم تسليم ونشر وتشغيل هذه المنظومة في بلد يضم ثاني أكبر جيش في «ناتو» وتقع فيها قاعدتان للحلف، إحداهما تضم قنابل نووية يُفترض أن تكون موجّهة ضد روسيا حالياً والاتحاد السوفياتي سابقاً.
لم يمر هذا الاختراق من دون عقاب أميركي. عقوبات اقتصادية. تجميد مساهمة تركيا في برنامج تطوير درة الصناعة الجوية الأميركية «إف 35». وقف صفقة لتزويدها بهذا النوع من الطائرات. تجميد نشر قاعدة صواريخ «باترويت». التردد في تلبية مطالبة أنقرة بنشر هذه القواعد وتبادل الاتهامات عن الأسباب.
مقايضات سورية
وفّر التعاون الروسي - التركي في قضايا كبرى دولية وثنائية مساحة لمقايضات وتفاهمات على الأرض السورية. في نهاية 2016، دخلت قوات الحكومة إلى شرق حلب بعد خروج المعارضة. دخل الجيش التركي وفصائل موالية إلى «درع الفرات». الهدف فصل طرفي إقليم كردستان، الذي تعده مهدداً لأمنها القومي. في بداية 2018، خرجت فصائل معارضة من أرياف حمص ودمشق ودرعا بالتزامن مع دخول فصائل أخرى بدعم أنقرة إلى عفرين ضمن عملية «غصن الزيتون». الهدف منع وصول إقليم كردستان إلى البحر المتوسط. في خريف 2019، دخل الجيش التركي وفصائل موالية إلى شرق الفرات بين تل أبيض ورأس العين. عنوان الحملة «نبع السلام». الهدف، تفكيك كردستان شمال شرقي سوريا. بعدها سارت دوريات روسية وتركية لرسم مناطق النفوذ الثنائي ومع الأميركيين.
«ضامنو» إدلب
قادت موسكو عملية خلق منصة مختلفة عن مسار جنيف. أسست مسار آستانة في بداية 2017. طاولة يجتمع عليها اللاعبون الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران) بعيداً من اللاعب الرابع، أي أميركا. اتفاقات لـ«خفض التصعيد» كانت ساحة لمقايضات وتفاهمات تنتهي بعودة هذه المناطق إلى دمشق. أيضاً، عملية آستانة أتاحت لـ«الضامنين» الثلاثة رعاية مسار سياسي بديل أو منافس لإطار جنيف برعاية أممية.
إدلب كانت إحدى مناطق «خفض التصعيد» برعاية «الضامنين» الثلاثة. وفي سبتمبر 2018، تحول إلى مسار ثنائي بين بوتين وإردوغان. اتفاق سوتشي، آلية روسية - تركية للتفاهم على إدلب، لم يوقف العمليات العسكرية. خلاصة الاتفاق أنه «موقّت» يتضمن وقفاً للنار وتبادلاً تجارياً وإقامة «منطقة عازلة» بين قوات الحكومة والمعارضة وفصل المتطرفين عن المعتدلين و«استعادة» طريقي «حلب – دمشق» و«حلب – اللاذقية». بوتين له تفسيره لهذا الاتفاق. تفاهم موقّت تمهيداً لـ«استعادة سيادة الدولة السورية على كامل الأراضي». مدخل لاستعادة أحياء اتفاق أضنة بين أنقرة ودمشق. لإردوغان، طموح وتفسير: مدخل للتمدد التركي شمال سوريا. جسر ربط بين «درع الفرات» و«غصن الزيتون» ولواء إسكندرون (هاتاي).
تنافس
في موازاة التعاون والاختبارات في إدلب، كان هناك صدام روسي - تركي في ساحات أخرى. في ليبيا، كل طرف يدعم طرفاً آخر. إردوغان مع حكومة فائز السراج. بوتين مع الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر. أيضاً، هنا تبادل الرئيسين الاتهامات وقيادة الانغماس في البحر الليبي. وفي أوكرانيا، يقف الزعيمان على طرفي نقيض. القرم في حضن روسيا. وأردوغان لا يكتفي بتعزيز علاقته مع كييف، بل بأنه «يتحدى» بوتين بقوله إنه لن يعترف بضم الجزيرة، التي احتضنها «القيصر».
توسيع الفجوة
مع مرور الوقت ذات الفجوة بين تفسيرين ومسارين ومقاربتين. المفاوضات كشفت عمق الفجوة. الميدان بات الميزان. بوتين عزز قواته وقاد هجوم دمشق على إدلب لتنفيذ تفسيره لسوتشي. إردوغان أرسل تعزيزات وقوات ومعدات لفرض تفسيره للاتفاق. على الأقل، منع دمشق وموسكو وطهران من فرض النسخة الروسية من «سوتشي».
إشارات انتهاء «شهر العسل»، التقطها مسؤولون أميركيون وأوروبيون. هناك استنفار لالتقاط حدود خلاف بوتين وإردوغان. هناك محاولة لطي التراكم الاستراتيجي. عندما تحصل مواجهة بين روسيا ودولة عضو في «ناتو»، تحاول دول أوروبية وأميركا التي تعاني من «تدخلات روسيا» في الانتخابات وتمدد النفوذ والصعود الدولي، للإفادة من مشكلات «زواج المصلحة» بين بوتين وإردوغان. تفصيلياً، إذا كان الخيار بين سيطرة دمشق وموسكو وطهران على إدلب وزيادة عدد النازحين واللاجئين على حدود أوروبا وما يعني ذلك من تهديدات إرهابية وبين توسيع النفوذ التركي في إدلب وبقاء نازحين ومدنيين، فإن الدول الغربية تدعم الخيار الثاني. هي مستعدة لتقديم الدعم الاستخباراتي والدبلوماسي والسياسي وكل أنواع الدعم باستثناء العسكري المباشر.
مرة أخرى، تشكل إدلب اختباراً لعلاقة بوتين وإردوغان. أيضاً، اختبار لمدى وحدة الموقف الأوروبي والموقف الأوروبي - الأميركي. حدود الدعم لدولة حليفة في «الأطلسي». مدى رهان أردوغان بالمغامرة بعلاقته مع بوتين مقابل «وعود أطلسية». موازنة بوتين بين أهمية إدلب لدمشق وله وبين أهمية أنقرة له وطموحاته الشرق أوسطية والدولية.



«هدنة غزة» تقترب وسط جولات مكوكية وحديث عن «تنازلات»

دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
TT

«هدنة غزة» تقترب وسط جولات مكوكية وحديث عن «تنازلات»

دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)

وسط حديث عن «تنازلات» وجولات مكوكية للمسؤولين، يبدو أن إسرائيل وحركة «حماس» قد اقتربتا من إنجاز «هدنة مؤقتة» في قطاع غزة، يتم بموجبها إطلاق سراح عدد من المحتجزين في الجانبين، لا سيما مع تداول إعلام أميركي أنباء عن مواقفة حركة «حماس» على بقاء إسرائيل في غزة «بصورة مؤقتة»، في المراحل الأولى من تنفيذ الاتفاق.

وتباينت آراء خبراء تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، بين من أبدى «تفاؤلاً بإمكانية إنجاز الاتفاق في وقت قريب»، ومن رأى أن هناك عقبات قد تعيد المفاوضات إلى المربع صفر.

ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، عن وسطاء عرب، قولهم إن «حركة (حماس) رضخت لشرط رئيسي لإسرائيل، وأبلغت الوسطاء لأول مرة أنها ستوافق على اتفاق يسمح للقوات الإسرائيلية بالبقاء في غزة مؤقتاً عندما يتوقف القتال».

وسلمت «حماس» أخيراً قائمة بأسماء المحتجزين، ومن بينهم مواطنون أميركيون، الذين ستفرج عنهم بموجب الصفقة.

وتأتي هذه الأنباء في وقت يجري فيه جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، محادثات في تل أبيب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الخميس، قبل أن يتوجه إلى مصر وقطر.

ونقلت «رويترز» عن دبلوماسي غربي قوله إن «الاتفاق يتشكل، لكنه على الأرجح سيكون محدود النطاق، ويشمل إطلاق سراح عدد قليل من الرهائن ووقف قصير للأعمال القتالية».

فلسطينيون بين أنقاض المباني المنهارة في مدينة غزة (أ.ف.ب)

في حين أشار القيادي في «حماس» باسم نعيم إلى أن «أي حراك لأي مسؤول أميركي يجب أن يكون هدفه وقف العدوان والوصول إلى صفقة لوقف دائم لإطلاق النار، وهذا يفترض ممارسة ضغط حقيقي على نتنياهو وحكومته للموافقة على ما تم الاتفاق عليه برعاية الوسطاء وبوساطة أميركية».

ومساء الأربعاء، التقى رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي، ديفيد برنياع، مع رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في الدوحة؛ لبحث الاتفاق. بينما قال مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في بيان، إنه «أبلغ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في اتصال هاتفي، الأربعاء، بأن هناك فرصة للتوصل إلى اتفاق جديد يسمح بعودة جميع الرهائن، بمن فيهم المواطنون الأميركيون».

وحال تم إنجاز الاتفاق ستكون هذه هي المرة الثانية التي تتم فيها هدنة في قطاع غزة منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وتلعب مصر وقطر والولايات المتحدة دور الوساطة في مفاوضات ماراثونية مستمرة منذ نحو العام، لم تسفر عن اتفاق حتى الآن.

وأبدى خبير الشؤون الإسرائيلية بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» الدكتور سعيد عكاشة «تفاؤلاً حذراً» بشأن الأنباء المتداولة عن قرب عقد الاتفاق. وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «التقارير تشير إلى تنازلات قدمتها حركة (حماس) بشأن الاتفاق، لكنها لا توضح نطاق وجود إسرائيل في غزة خلال المراحل الأولى من تنفيذه، حال إقراره».

وأضاف: «هناك الكثير من العقبات التي قد تعترض أي اتفاق، وتعيد المفاوضات إلى المربع صفر».

على الجانب الآخر، بدا أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس السياسي الفلسطيني، الدكتور أيمن الرقب، «متفائلاً بقرب إنجاز الاتفاق». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك حراكاً أميركياً لإتمام الصفقة، كما أن التقارير الإسرائيلية تتحدث عن أن الاتفاق ينتظر الضوء الأخضر من جانب تل أبيب و(حماس) لتنفيذه».

وأضاف: «تم إنضاج الاتفاق، ومن المتوقع إقرار هدنة لمدة 60 يوماً يتم خلالها الإفراج عن 30 محتجزاً لدى (حماس)»، مشيراً إلى أنه «رغم ذلك لا تزال هناك نقطة خلاف رئيسية بشأن إصرار إسرائيل على البقاء في محور فيلادلفيا، الأمر الذي ترفضه مصر».

وأشار الرقب إلى أن «النسخة التي يجري التفاوض بشأنها حالياً تعتمد على المقترح المصري، حيث لعبت القاهرة دوراً كبيراً في صياغة مقترح يبدو أنه لاقى قبولاً لدى (حماس) وإسرائيل»، وقال: «عملت مصر على مدار شهور لصياغة رؤية بشأن وقف إطلاق النار مؤقتاً في غزة، والمصالحة الفلسطينية وسيناريوهات اليوم التالي».

ويدفع الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، من أجل «هدنة في غزة»، وكان ترمب طالب حركة «حماس»، في وقت سابق، بإطلاق سراح المحتجزين في غزة قبل توليه منصبه خلفاً لبايدن في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، وإلا فـ«الثمن سيكون باهظاً».