عهد لبنان الرئاسي: إخفاقات تفوق الإنجازات!

قراءة هادئة في نصفه الأول

عهد لبنان الرئاسي: إخفاقات تفوق الإنجازات!
TT

عهد لبنان الرئاسي: إخفاقات تفوق الإنجازات!

عهد لبنان الرئاسي: إخفاقات تفوق الإنجازات!

ليست مسألة تقييم أي «عهد رئاسي» في لبنان مهمة سياسية أو إعلامية أو بحثية سهلة، ولا سيّما إذا كان العهد لا يزال في منتصف الولاية، أي لم تنقضِ السنوات الست المنصوص عنها في الدستور، على الرغم من الانتهاكات المتكرّرة لروح الدستور ونصوصه. ذلك أن تقييم أي ولاية رئاسية بعد انتهائها يتيح للباحث إجراء قراءة دقيقة وموضوعية يمكن من خلالها دراسة المحطات التي انطلق منها «عهد» ذلك الرئيس والوقائع التي انتهى إليها، بالإضافة إلى دراسة ما إذا كان هناك من منجزات جدّية يمكن أن يسجلها التاريخ باسم الرئيس. أما وقد مرت ثلاث سنوات ونيف من ولاية الرئيس ميشال عون الذي انتخب يوم 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2016، فإنه لا بد من تسجيل جملة من الملاحظات الأساسية، قبل التعمّق في إجراء التقييم الفعلي لهذه الحقبة.

بعد نحو 29 سنة من الانتظار تقريباً، نجح العماد ميشال عون في الدخول مجدداً إلى قصر بعبدا الجهوري (الرئاسي) بعدما أُخرج منه عام 1989. ولقد أتاح إخراج عون، آنذاك، وضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ بعدما كان قد عطّل مفاعيله لأشهر عديدة، عبر إصراره على ترؤس حكومة عسكرية فقدت نصابها القانوني وميثاقيتها خلال دقائق معدودات من تشكيلها (بنتيجة استقالة جميع الوزراء المسلمين منها وعددهم نصف عدد الحكومة). ومن ثم، قرّر حل المجلس النيابي المفترَض فيه انتخاب رئيس الجمهورية، الذي تعذّر انتخابه، في حين كان مطلوباً منه كرئيس للحكومة الانتقالية تسهيل هذه المهمة، بالإضافة إلى رفضه «اتفاق الطائف» الذي كان تسوية عربية - دولية لإنهاء الحرب في لبنان وشنه حربين داخليتين عُرفتا بـ«حرب التحرير» و«حرب الإلغاء»؛ ما أدى إلى خسائر فادحة بشرياً ومادياً.
مع هذا، انتخب عون رئيساً عام 2016 وفقاً لـ«اتفاق الطائف» نفسه الذي كان قد رفضه عام 1989، وثمة مَن يقول إن الرأي العام لم يفهم حتى اللحظة التحوّل السياسي الكبير الذي قام به الرئيس، ولا سيّما الدوافع التي أدّت إلى رفضه هذا «الاتفاق» في التسعينات، وخوضه الحملات العسكرية والسياسية والإعلامية ضده ورفض الاعتراف بالسلطة التي انبثقت عنه... ثم تلك التي أدت إلى قبوله به في العام 2016.

- «اتفاق الطائف»
حقيقة الأمر، أن «الاتفاق» لم يُعدّل منه أي حرف، أو فقرة أو مادة، بل بقي على حاله. ولئن كان صحيحاً أن ثمة تفاسير متباينة لبعض مواده، فالصحيح أيضاً أنه أصبح جزءاً من دستور لبنان الذي يفترض أن يطّبق ويُحترم من كل القوى والأطراف السياسية. أما القول بتعديل «الطائف» بـ«الممارسة»، كما يتباهى مناصرو الرئيس عون نواب كتلة «لبنان القوي» (أو تكتل «التغيير والإصلاح» سابقاً)، فهو يعني عملياً المفاخرة بخرق مواد الدستور، وإعادة تفسيرها وتطبيقها بما يتلاءم مع المصلحة السياسية والفئوية والحسابات الخاصة والظرفية.
هذا ما يحصل - على سبيل المثال - في قضية تعيين الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنية التي تعطّلها هذه الكتلة التي يقودها عونيّو «التيار الوطني الحر» (الذي أسسه الرئيس ويترأسه حالياً صهره وزير الخارجية السابق جبران باسيل) تحت ذريعة غياب «التوازن الطائفي»، مع العلم، أن المادة 95 من الدستور واضحة... وهي حصرت ضرورة تأمين هذا التوازن بالفئة الأولى دون سواها. كذلك، فإن هذا التوازن لم يُحترَم في مباريات وزارة الخارجية - على سبيل المثال -، بل جرى التغاضي عنها لأنها جاءت غير متوازنة إنما في الاتجاه المعاكس. وهذا يثبت أن الشعارات المرفوعة لا تهدف حقاً إلى تأمين التوازن الطائفي، بل ترمي إلى تعزيز حضور فئة دون سواها، خلافاً للدستور والأصول والقوانين المرعية الإجراء، مع أن الشراكة ضرورية، وصيغة المناصفة - التي نصّ عليها «الطائف» - هي واحدة من أبرز منجزات الاتفاق التي يفترض الحفاظ عليها بمعزل عن المعايير الديموغرافية.
أما تعطيل الحكومات والمؤسسات تحت عنوان «الميثاقية»، الذي مارسه «التيار الوطني الحر» طوال السنوات الماضية، فإنه لم يطبقه في مرحلة الحكومة العسكرية التي افتقرت إلى التمثيل الإسلامي بكل مكوّناته المذهبية. فكيف يمكن تفسير هذه الازدواجية؟
هذه الملاحظات الشكلية ليست سوى مقدمة لفهم حقيقة وأسس العمل التي يركز عليها العهد، أو بعض المقرّبين منه، الذين يتكلّمون باسمه ويبدّدون من رصيده السياسي والشعبي.

- عناوين ومحاور
أما بعد، فلا بد من تقييم السنوات الأولى للعهد من خلال العناوين والمحاور التالية:
أولاً: السياسة الخارجية. والحق أنه لم يسبق أن مرّ لبنان بهذا المستوى المتدني من الحضور الدولي في تاريخه المعاصر، فعدا عن التراجع غير المسبوق لعلاقاته مع عمقه العربي (ولقد حسم «الطائف» عروبة لبنان بعد خلاف دام عقوداً)، أخذت السياسة الخارجية تخرج رويداً رويداً من سياسة النأي بالنفس (التي تماثل شعار: لا شرق ولا غرب بشكلٍ أو بآخر). وصار الخطاب الرسمي اللبناني الذي يعبّر عنه رئيس الجمهورية ووزير الخارجية أكثر التصاقاً بموقف فريق من اللبنانيين يكنّ العداء لقوى عربية ويوالي قوى غير عربية.
لقد أدى تضييق هذا الهامش الذي كان قائماً بين الدولة وأطراف أخرى إلى الإضرار بسياسة لبنان الخارجية وعلاقاته الدولية، بمعنى أن المساحة التي كانت قائمة بين الموقف الرسمي والموقف الحزبي كانت توفر متنفساً للبنان - إذا جاز التعبير - إزاء «المجتمع الدولي»؛ إلا أن الالتصاق (وربما الالتحاق التدريجي) بين هذين المسارين أفقد لبنان الرسمي استقلالية سياسته الخارجية القائمة على العلاقات الطيبة مع محيطه العربي وانتمائه لهذا المحيط دون أي التباس.
لا شك، أن سياسة معاداة إسرائيل كموقف رسمي ووطني وشعبي ثابت هو إنجاز مهم، لكنه ليس كافياً؛ لأنه مرتبط بالاستراتيجية الدفاعية المغيبة تماماً عن النقاش الجدي بفعل سياسة الالتصاق المشار إليها أعلاه.
ثانياً: الاستراتيجية الدفاعية. على الرغم من أن الرئيس عون كان وعد اللبنانيين بإطلاق النقاش حول الاستراتيجية الدفاعية بعد إنجاز الانتخابات النيابية (2018)، فإنه رغم مرور سنة ونصف السنة تقريباً على انتهائها لم يبادر للدعوة إلى نقاش جدي حول هذه الاستراتيجية. ومن هنا، فإن الالتصاق الذي أشير إليه في البند الأول بموازاة تغييب النقاش الوطني حول الخطة الدفاعية المنتظرة يطرح علامات استفهام كبرى، تعزّزها تصريحات وزير الدفاع الوطني التي تكاد تلغي أي تمايز بين الأجهزة الرسمية اللبنانية وقوى «المقاومة». وهو ما عاد وأكده رئيس الجمهورية، للأسف، في أحد مواقفه المُستغربة التي تساءل فيها عن جدوى وضع خطة دفاعية!
لا يختلف اثنان على أن إسرائيل هي العدوّ التاريخي للبنان، وهي تختزن الكثير من الحقد على تجربته التعددية التي تناقض آحاديتها وعنصريّتها التي كرّسها في قانون «يهودية الدولة» الذي أصدره الكنيست في الفترة الأخيرة؛ إلا أن ذلك لا يلغي أننا نختلف كلبنانيين على كيفية مواجهة الخطر والحقد الإسرائيلي الدائم.
ثم أن الاستفادة من تجربة «المقاومة» ضرورة حتمية تبرّرها الحاجة ويفسرها المنطق، ولا سيما أنها راكمت خبرة كبيرة في مواجهة الاحتلال واعتداءاته المتكرّرة على السيادة اللبنانية وأكملت المسار النضالي الذي أطلقته القوى الوطنية والتقدمية واليسارية؛ إلا أن ذلك يفترض ألا يقفل البحث على سبل دمج هذه القدرات بإمكانات لبنان الرسمية، والوصول إلى مرحلة تحتكر فيها الدولة وظيفة الدفاع عن أراضيها، وهذا حقٌ مكتسب لأي دولة ذات سيادة، وليس موجهاً ضد هذا الفريق أو ذاك. حتى نصل لتلك المرحلة، ثمة مسؤولية كبرى على العهد، تتمثّل بألا يسمح بتحويل لبنان مجدّداً ساحة لتصفية الصراعات الإقليمية أو أن يدفع هذا البلد الصغير أثماناً لا علاقة له فيه، بل تتصل أولاً وأخيراً بنزاعات المحاور الدولية والإقليمية من طهران إلى واشنطن.
ثالثاً: المسألة الاقتصادية الاجتماعية. إن الوقت الذي أهدر في مطلع الولاية، وهو يناهز السنة ونصف السنة تحت عنوان أن «حكومة العهد الأولى لم تكن حكومة الرئيس»، وأن حكومته الفعلية هي التي ستنبثق عن الانتخابات النيابية، كان كافياً ليعكس ما إذا كان ثمة جدية حقيقية في مواجهة الأزمة الاقتصادية الاجتماعية المستفحلة!
لقد رفع التكتل النيابي الذي ترأسه الرئيس عون شعار «الإصلاح والتغيير»، إلا أن أياً من هذين الشعارين لم يسلك طريقه الفعلية نحو التنفيذ. رفع «وثيقة الإبراء المستحيل» في وجه تيار المستقبل، ثم «تبرأ» منها عند نضوج التسوية وانتقال الرئيس سعد الحريري لدعم ترشيح عون للرئاسة الأولى. و«اصطدم» مع «القوات اللبنانية» مراراً وتكراراً، ثم وضع كل الخلافات جانباً عند توقيع «تفاهم معراب» الذي أدى كذلك إلى رفع حظوظ عون الرئاسية، ثم عاد وتنصل منه بعد الانتخاب!
المهم أن ينطلق قطار الإصلاح وأن تبدأ الخطوات الجدية، الفورية والجذرية لإحداث تغيير حقيقي في بنية المشاكل الاقتصادية التي تواجه البلاد التي لم تعد تحتمل رفاهية النقاش والبحث، بل إنها أشبعت درساً على مدى سنوات وسنوات والمطلوب خطوات سريعة قبل فوات الأوان.

- ملف أزمة الكهرباء
لا يخفى على أحد أن «أم المشاكل» في لبنان هي الكهرباء؛ كونها تستنزف نحو ملياري دولار سنوياً من المالية العامة، فضلاً عن أنها لا تتوافر على مدار الساعة في كل المناطق أسوة بما هو قائم في مختلف دول العالم. وبمعزل عما إذا كان «التيار الوطني الحرّ» يتحمّل وحده مسؤولية هذا الإخفاق - أقله منذ توليه وزارة الطاقة والمياه منذ نحو عشر سنوات - لا شك في أن هذا الملف يشكل إحباطاً جماعياً لدى اللبنانيين ويعكس فشل السلطة السياسية، ولا سيما من تولى الحقيبة الوزارية، في الإخفاق بإيجاد الحلول المطلوبة لهذه المشكلة المزمنة.
لقد توقّع اللبنانيون أن تسلك شعارات «الإصلاح والتغيير» طريقها بكثير من الانسيابية مع انتخاب عون إلى الرئاسة، لكن هذا، للأسف، لم يحدث. أغلب الظن أن المسؤولية لا يتحملها الرئيس وحده، بل بعض من هم في الدائرة المحيطة به ممن لم يوفقوا في إدارة الملفات الموكلة ولم ينجحوا في تعزيز الالتفاف السياسي حول الرئيس ليتمكن من إنجاز المصالحات، بل بددوا الكثير من رصيده السياسي والشعبي وضاعفوا عدد الأخصام السياسيين مجاناً.
وأخذاً في الاعتبار طبيعة التركيبة السياسية اللبنانية، والصيغة التشاركية التي أرساها «اتفاق الطائف» في العملية السياسية وآليات اتخاذ القرار؛ لا بد من الإقرار بأن سلوك مسار التغيير يتطلب نسج تفاهمات وطنية تتيح هذا الأمر وبناء مناخ من الشفافية والتعفّف، ورفض الدخول في الصفقات والسمسرات. وهذا أيضاً، لم يحصل؛ إذ ارتبطت أسماء بعض المحيطين بالعهد بالعديد من الملفات التي تثار حولها علامات استفهام كبيرة... من البواخر إلى الكهرباء وسواها من الملفات من العناوين أعلاه.
لقد فاخر العهد وبعض مؤيديه بشعار «العهد القوي»، ولعل إطلاق هذا الشعار كان خاطئاً من الأساس، ليس لأن الرئيس عون ليس «قوياً»، بل لاختلاف المفاهيم حول فكرة «القوة»، من جهة؛ ومن جهة ثانية، لأنه ساهم برفع التوقعات من الحكم الذي وقف شبه عاجز أمام المشاكل المتفاقمة فلم يفكك أياً منها بشكل ملحوظ من جهة أخرى!
أما مفهوم «القوة» فهو بحد ذاته في حاجة إلى تشريح: هل يكفي القول عن الرئيس إنه قوي إذا كان يرأس قبل انتخابه كتلة نيابية؟ أم أنه قوي بتاريخه النضالي؟ أم يمكن القول عنه إنه قوي إذا كان رجلاً صاحب مبادئ؟ أم أن القوة يوفرها الصوت المرتفع؟ أم ماذا؟

- علاقة «القوة» بـ«الصلاحيات»
عملياً، ما هي العناصر التي يمكن اعتمادها للقول إن هذا العهد، أو أي عهد رئاسي، هو عهد «قوي»؟ الرئيس الراحل فؤاد شهاب ما كان يرأس كتلة نيابية، لكن تاريخه ودوره في ثورة 1958 وسجله العسكري وتعففه وشفافيته عناصر جعلت منه رئيساً يحقق المنجزات من دون أن يرفع شعار «الرئيس القوي».
ثم أن السلطة التنفيذية في لبنان بعد «اتفاق الطائف» أصبحت منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً. طبعاً، هذا لا ينتقص من مكانة رئيس الجمهورية وموقعه ودوره الذي لا يزال له صلاحياته المهمة. لكن هذا التحوّل بحد ذاته يجعل رفع شعار «الرئيس القوي» غير ذي جدوى، بل هو يثقل كاهل الرئيس بدلاً من أن يخففها عنه. وفي «الديمقراطية اللبنانية» المرتكزة إلى التوافقات والتفاهمات والتوازنات، تسقط مقولة «الرئيس القوي» عند كل منعطف وفي كل محطة، إلا إذا استعمل الرئيس «قوته» للجمع بين اللبنانيين وتقليص المسافات بينهم، وأن يمارس فعلاً دور الحكم والمرجع الأعلى لتكريس الاستقرار والسلم الأهلي.
ختاماً، إن أي لبناني عاقل يتمنى للعهد النجاح؛ لأن نجاحه يعني بصورة أوتوماتيكية نجاح لبنان في تخطي أزماته التي تُستولد وتتفاقم كل يوم. وأي لبناني عاقل يعتبر أن نجاح الرئيس عون يعني تجاوز الوضع الراهن نحو واقع أفضل لا يفقد فيه الأمل ويشعر فيه بالطمأنينة... لكن «المكتوب يُقرأ من عنوانه»!

- تيار عون «يستأثر» به باسيل
> نُظّمّت الحالة الشعبية العونية الموالية للعماد ميشال عون ضمن هيكل سياسي حمل اسم «التيار الوطني الحر» بعد عودة الجنرال من منفاه الباريسي في مايو (أيار) 2005، رغم أن نواة الحزب وُضعت قبل عودة عون من باريس، وكان مناصرو التيار يتداولون بالاسم الذي بات حزباً قانونياً قبل هذه الفترة.
حاز التيار العلم والخبر «الرقم 163/ أ د»، الذي يمكّنه من مزاولة نشاطه السياسي كحزب بوجهة قانونية، من وزارة الداخلية اللبنانية في مايو 2006. وتقدّمت الجمعية السياسية المسماة «حزب التيار الوطني الحر» بطلب تعديل في النظام الأساسي وتعديل مركزه في عام 2015، حين جرت الموافقة على التعديلات.
منذ ظهور التيار، بقي العماد ميشال عون، الذي بات نائباً في البرلمان اللبناني منذ انتخابات عام 2005، رئيساً له. لكن عام 2015 انتقلت رئاسة التيار إلى صهره وزير الخارجية السابق جبران باسيل إثر انتخابات فاز فيها الأخير بالتزكية؛ وهو ما ولّد انقساماً في صفوف التيار على مستوى قياداته والشخصيات البارزة فيه وأقرباء عون نفسه. وعلى الأثر، أعلنت قيادات رافقت مسيرة منذ سنين الانسحاب من التيار. وتحدث آخرون من مواكبي مسيرة التيار عن «إقصاء» لمعارضي باسيل من التيار، متهمين باسيل بالاستئثار، وباستبعاد قيادات تاريخية بينهم نعيم عون - ابن شقيق عون -، وزياد عبس القيادي البارز، وغيرهم. ولقد نظّم هؤلاء صفوفهم ضمن إطار سياسي ناهز عدده السبعين شخصاً، وأصدر في العام الماضي بياناً بعد انتخابات التيار في 2019 التي فاز فيها باسيل بالتزكية برئاسة التيار لولاية ثانية.

- «نصف العهد»: توترات أمنية وضغوط خارجية واقتصادية... انفجرت في انتفاضة الشارع
> مثّل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار في السوق الموازية، إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي دفعت عشرات المؤسسات للإقفال، رأس هرم الأزمات التي عصفت بعهد الرئيس اللبناني ميشال عون منذ ثلاث سنوات، خاضت فيها البلاد تحديات أمنية داخلية وخارجية، وتضاعف فيها التوتر السياسي، ووصلت في منتصف الولاية الرئاسية إلى مرحلة الاضطرابات الاجتماعية التي تمثلت في الانتفاضة الشعبية اللبنانية ضد السلطة.
ورغم ادعاء فريق الرئيس ميشال عون السياسي حرصه على تكريس النمط التوافقي في الحكم، عبر الحكومات الائتلافية، فإن الحملات الممهدة للانتخابات النيابية 2018، كسرت العرف التوافقي، واشتدت الانقسامات بين الأحزاب والتيارات والقوى السياسي. فترنحت الاتفاقات مع حزب «القوات اللبنانية» من غير أن تسقط، وتوترت العلاقة مع «المستقبل»، وشهدت علاقة «التيار الوطني الحر» مع حركة أمل ورئيس البرلمان نبيه برّي أسوأ مراحلها في ظل السجالات والخطابات الشعبوية وتبادل الاتهامات. ويُشار إلى أن تشكيل الحكومتين بعد الانتخابات الرئاسية وبعد الانتخابات، شهد نزاعاً سياسياً أدى إلى تأخير إعلانهما؛ ما أدخل البلاد في فراغ حكومي لأشهر.
التوتر السياسي الذي طغى على مرحلة ما قبل الانتخابات، تجسّد أيضاً بتوتر ميداني في البيئة الدرزية إثر إشكال في منطقة الشويفات (جنوب شرقي بيروت)، أسفر عن مقتل عنصر في الدفاع المدني من أنصار «الحزب التقدمي الاشتراكي» خلال إشكال مع أنصار النائب طلال أرسلان. وتوتّر الوضع فيه مع إصرار أرسلان على رفض تسليم المتهم بالقتل، وسط معلومات عن فرار المطلوب إلى سوريا.
الجبل، كان عرضة مرة أخرى لاشتباك بين أنصار الوزير الأسبق وئام وهاب مع قوة من «قوى الأمن الداخلي» حضرت لاعتقال وهاب، قبل أن يتوتر الوضع في الجبل مرة ثالثة إثر زيارة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل إلى الجبل، وإطلاقه تصريحات مرتبطة بحقبة الحرب اللبنانية، ما اعتبره أنصار «الاشتراكي» استفزازاً يتضمن نبشاً في قبور الماضي، وإثارة للنعرات الطائفية. وانفجر الخلاف خلال زيارة باسيل إلى منطقة عاليه، حيث تم إطلاق النار على موكب الوزير صالح الغريب، ما أدى إلى مقتل شخصين.
خلال هذه الفترة، حصل توتر بين «حزب الله» وإسرائيل على خلفية مقتل عنصرين للحزب في غارة إسرائيلية في سوريا، وتفجير طائرة استطلاع إسرائيلية في حي سكني في الضاحية الجنوبية لبيروت؛ ما دفع الحزب للرد من داخل الأراضي اللبنانية في الجنوب. وهو توتر اضيف إلى توتر دبلوماسي إثر زعم رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو بأن الحزب أنشأ مصانع للصواريخ الدقيقة في لبنان، وهو ما نفاه الحزب. وعلى الصعيد الدبلوماسي أيضاً، فرضت الولايات المتحدة عقوبات ضد شخصيات في الحزب، من بينها رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، كما تضاعفت وتيرة العقوبات ضد الحزب وتأثر بها لبنان بالكامل.
هذه العوامل بأكملها، الداخلية والخارجية، مهّدت لأزمة اقتصادية كبيرة تمثلت بفقدان الدولار في السوق، وارتفاع سعر صرفه في السوق الموازية، أدى إلى تراجع سعر العملة المحلية أكثر من 50 في المائة، بالتزامن مع أكبر انتفاضة شعبية يشهدها لبنان منذ عام 1992، أدت إلى إسقاط الحكومة في الشارع، وتأليف حكومة قاطعتها كتل سياسية بارزة. ويقول الناشطون إلى العهد فشل في مكافحة الفساد، حيث لم يُحاسب أي فاسد حتى الآن، كما فشل بتأمين متطلبات العيش اليومية منها تأمين الكهرباء والخدمات، إضافة إلى تسعير الاستدعاءات على خلفية الراي والتدوين، وهوة ما اعتبر استهدافاً للحريات في لبنان.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».