عندما باشر المخرج إبراهيم البطوط صنع الأفلام سنة 2005 منجزا فيلمه «إيثاكي»، لم يعِد أحدا بأنه سيتخلى عن منهجه المستقل في العمل والإنتاج، وعن منواله في سرد الحكاية بمعالجات تنتمي إلى ذاته أكثر من انتمائها إلى نوعية «ما يطلبه المشاهدون».
وفي فيلمه الجديد «القط» (الروائي الخامس له)، وهو الفيلم الذي شهد عرضه العالمي الأول في إطار مهرجان أبوظبي السينمائي المقام حاليا، ما زال على هذا الوعد.
على ذلك، يختلف «القط» عن أعماله السابقة في أكثر من جانب، لكنه ليس الاختلاف الذي يتراجع فيه عن سينماه. يختلف في أنه أكبر إنتاجا من ذي قبل، أكثر شمولا في ما يود استيحاءه من الظروف الاجتماعية وما يفرزه على الشاشة. يختلف أيضا في أنه حكاية قد تفسر على أنها بوليسية، في الوقت التي هي فيه تجسيد لحالات ملتصقة بالإنسان الحاضر زمانا ومكانا. إنه حكاية يقود شخصياتها القط (عمرو واكد): رجل يعيش في الجريمة. قاتل محترف ينفذ ما يقدم عليه وإن كان في النهاية يبدأ بالشعور بأن جرائمه باتت أكثر مما يستطيع لوجدانه أن يتحمله. ولو أنه سينفذ ما وعد به وسيقتل ذلك الشرير الذي يخطف الأولاد ليبيع أعضاءهم البدنية في السوق السوداء. لكن هذه لن تكون نهاية الرحلة. ما زال هناك الرأس الكبير، بل أكبر الرؤوس، كما يؤكد القط وهو يتحدث لمساعده الغجري (عمرو فاروق بحضور مدهم).
من بداية رائعة للقط وهو يمشي في السوق المزدحمة ليدخل سلسلة من الأزقة الممنوعة، إلى النهاية وهي تظهر القط وقد سار في ما قد يكون بداية حريته من أكبال الماضي، يمضي الفيلم بوتيرة واحدة لا تعرف التهاون. بعد تنفيذ عملية لمنفذ يتعامل وقتله في بعض شوارع القاهرة، ينطلق وراء الرئيس المدبر (صلاح حنفي) ليقتص منه. ما يحرك كل ذلك حقيقة أن ابنة القط كانت قد خطفت سابقا ولا يزال يعايش صعوبة التغلب على مأساته الشخصية المندمجة تماما مع مأساة الوجود في حياة تزداد صعوبة وسخونة.
رئيس العصابة يجسد كل الشرور التي لا يسمح القط لنفسه بالعبور إليها. إنه حالة متوحدة لشخص قد يكون مجرما لكنه ليس شريرا، مطلوبا من القانون لكنه ينفذ ما لا تقوم به، يقتل بلا هوادة (مشهد القتل الأول منفذ كما لو كان انقضاضه على الضحية باليه من العنف على قصره) لكنه لا يقتل للقتل وحده.
في المقابل، فإن شخصية رئيس العصابة هي البعد المظلم للبشر. وفي حين أن عمرو واكد لا يحتاج إلى توفير معادلات درامية خلال أدائه الشخصية، بل يثب إلى الدور بلا تردد وبثقة، فإن أداء صلاح حنفي (والفيلم من إنتاجهما معا) لا يقل تجسيدا للشخصية التي يؤديها. تشعر به وتخاف وجوده لو كان حقيقيا. شخص لا يمكن أن تثق به ولا أن تمنحه تعاطفا لكن، لو كان حقيقيا، لخفت مصافحته.
الشخصية الثالثة هي لمستوى أرفع من الشر. لدينا تلك التي يؤديها عمرو واكد والأخرى التي يؤديها صلاح حنفي ثم الثالثة التي يلعبها فاروق الفيشاوي. إنه ملاك الشر. الرجل الذي يحيط نفسه بتناقضات رمزية: يدخل الكنيس اليهودي والكنيسة المسيحية والمسجد، ليس متعبدا، بل مثل ملاك شر يحوم حول أماكن العبادة متمنيا لو كان يستطيع تقويضها. هذا قد يكون التفسير الأقرب أو قد لا يكون، والسبب هو أن السيناريو لا يعمد إلى كثير من التحليل. ليس لأنه يريد الغموض لذاته، بل لأن تواصله الداخلي بين الشخصيات كما بين الشخصية ومراجعها النفسية والعاطفية ليست مترابطة جيدا، وهذا ما يجعل المشاهد بعيدا بعض الشيء، في النهاية، عن الوصول إلى الأغراض الدفينة من وراء هذا الجهد.
* الواقع والواقعية
* لكن الفيلم بصريا باهر. إبراهيم البطوط يستفيد من الأماكن بطريقة قلما يستطيع مخرج الإلمام بها على هذا النحو. يوظفها دراميا وإن كان يستطيع أن يوظفها كعنصر تشويق وحركة لكنه لا يفعل. لذلك يهتم بتكوين الصورة على النحو الذي يخدم الرسالة وليس المشهد وحده. هناك ذلك المشهد الذي تتعقب فيه الكاميرا عمرو واكد في مطلع الفيلم وذلك الذي تتعقب الكاميرا (تصوير طارق حنفي) الممثلة سارة شاهين. في كلتا الحالتين تلحظ مدى ارتباط الفيلم بالمكان.
الكثير من الحضور هنا عاب على الفيلم ما سماه بـ«الاستخدام المفرط لمشاهد من شأنها تشويه سمعة مصر». إنها العبارة ذاتها التي طالما أطلقت على كل فيلم حاول التعامل مع الواقع. النقد الذي يتوجه إلى الفيلم عوض أن يتوجه إلى حيث يوجه الفيلم نقده: الوضع المعيش الذي أفرز، عبر كل هذه العقود، ما يعرضه الفيلم. الوضع الذي لا يتعامل مع قاذورات الأزقة، بل مع قاذورات الحياة التي خلت من الدوافع الأخلاقية.
عمرو واكد يقول لهذا الناقد: «أرد على هذا النقد بالقول إن أصحابه لا يمانعون وضع رؤوسهم في الرمال. إحدى المنتقدات سألتني: لماذا لا تدور الأحداث في الزمالك؟».
طبعا لا مكان للزمالك في هذا النوع من الأحداث، خصوصا ما إذا كانت مستمدة من هذا النوع من الواقع. وذكر الواقع يؤدي إلى الحديث عما إذا كان الفيلم، بشكل آلي، واقعيا. الحقيقة أن الواقعية شيء و«الواقع» شيء مختلف. «القط» واقعي النبرة والأجواء والتمثيل والتصوير (أحيانا، وعن قصد، ينفصل التصوير قليلا ليغير من ألوان المشهد ويفعل ذلك جماليا)، لكن كل هذه لا تعني أنه فيلم واقعي، لا من حيث مدرسته ولا من حيث أسلوب عمله.
«القط» في نهاية المطاف دراما عميقة تدخل في أنفس شخصياتها القليلة، ومن بين هذه الأنفس نفس الحياة العصرية في مصر اليوم. قد لا تكون الصورة وردية، لكنها مستوحاة من الواقع المعيش.
* على الهامش
* «الوادي» للبناني غسان سلهب عمل مختلف تماما، في كل شاردة وورادة، لكنه فيلم جيد في الوقت ذاته. ما يجمعه بالفيلم المصري أن الوصول إلى كل فحواه أمر يبقى صعبا. وفي الحالتين فإن جزءا من هذه الصعوبة مرده السيناريو وليس المعالجة أو اختيار المدرسة التي سينتمي إليها الفيلم.
هناك بداية لافتة في فيلم سلهب: نسمع - على شاشة سوداء - صوت رجل يخبرنا أنه أغمض عينيه وقرر أن يقود سيارته إلى الهاوية. نسمع هدير المحرك، ثم يتعالى الهدير، ثم نسمع صوت الارتطام. هذا كله قبل أن تكشف الكاميرا عن الشخص (كارلوس شاهين) الذي تكلم. هو الآن يقف عند قارعة طريق جبلية ينزف من جروحه الدم. لقد هوت السيارة وخرج منها مصابا لكن بأكثر من الجروح البادية: لقد فقد الذاكرة.
ليس بعيدا عنه على تلك الطريق سيارة تعطلت وفيها أربعة أشخاص (رجلان وامرأة). يتقدم من هؤلاء ويصلح عطل السيارة ثم يسقط أرضا بلا وعي. ينقلونه إلى مزرعة مغلقة يقف حرس عند بوابتها الكبيرة. وفيها مصنع كيماوي، لعله مصنع مخدرات - بل يجب أن يكون. هناك، بالإضافة إلى الحرس، رجل يبدو آمرا في مطلع الأمر (عوني قواص) لكنه ليس كذلك بعد قليل. ما يكشف عنه الفيلم هو أنه في هذه المزرعة - المخبأ لا وجود لآمر أو رئيس. الشخصيات متساوية ومعظمهم فنان في حرفته: أحدهم عالم كيميائي، وآخر فنان في الطبخ، وهناك رسامة، والجميع يتحلق حول هذا الغريب الذي فقد ذاكرته والذي يتمنى البعض لو لم يكن.
في هذا المكان المغلق والمجرد (الديكور من العناصر الرئيسية، فقط: كرسي، طاولة، سرير، الخ...) لا يحدث شيء لكن كل شيء في العالم المحيط يحدث فيه. إنه لبنان في كيان صغير. رمزيات شخصياته تطفو لتدين شعبا قرر أن يعيش على الهامش إلى أن تطيح به الأحداث.
في تطور مفاجئ وقاتم يتم محو بيروت بغارات وانفجارات. هؤلاء الناس الذين عاشوا مصاصي دماء على هامش المجتمع، لم يعد لديهم ما يعيشون عليه. سينتهون. أما الغريب الذي لم يبحث أحد عنه، فيتذكر: لقد عاد إلى لبنان بعد 10 سنوات من الغربة ليبحث لا عن الجذور وحدها بل عن المستقبل. غابت الذاكرة وعادت ليجد أنه لم يخسر شيئا ولم يربح شيئا أيضا.
يستخدم المخرج الإيقاع المتمهل لسرد حياة غير متسارعة. اللقطة قد تستمر طويلا لأن الإيقاع هو واحد من سبل المخرج لفتح الباب أمام المشاهد لكي يدخل الحدث ويتشرب منه. تقنيا، لديه ذلك الحس التجريبي البارز. بعض المشاهد تعبر عنه بوضوح مثل ذلك المشهد المبكر في الفيلم حين تصل السيارة إلى البلدة القريبة: الكاميرا خارج السيارة على وجه فاقد الذاكرة الجالس إلى النافذة. على النافذة نرى انعكاسات المحيط الطبيعي. في الوقت ذاته هناك صورة ثالثة (مدمجة) لكاميرا تصور البلدة وهي تبتعد كما لو أن السيارة تغادرها، لكن المشهد الرئيس الذي يحمل كل هذه الصور (لنسمِّه الصورة الأولى أو الأصلية) مأخوذ للسيارة وهي تدخل، ما يجعل المشهد يعبر عن تناقض الحركة والحركة المضادة.
الجوانب التقنية ناجحة عموما، لكن الكتابية فيها قدر ملحوظ من الاتكال على استنتاج المشاهد للمعرفة. لكي يفعل ذلك عليه أن يتابع ويفهم، لكن هذا الفهم يبقى في الأساس محدودا نظرا لغموض الدوافع والشخصيات، ما يترك المشاهد حائرا هنا وهناك. هذا ما يعرفه المخرج تماما فيقول لي: «أنا دائما ما توجهت إلى الجمهور الهامشي. أفلامي هي أفلام تقع في نطاق الهامشية، وهذا ما أردته لنفسي منذ البداية».

