{الشرق الأوسط} في مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 6: عرض «القط» لإبراهيم البطوط.. و«الوادي» لغسان سلهب

المصري واقعي النبرة والأجواء والتمثيل.. واللبناني يتناول نهاية بيروت

مشهد من «الوادي»
مشهد من «الوادي»
TT

{الشرق الأوسط} في مهرجان أبوظبي السينمائي ـ 6: عرض «القط» لإبراهيم البطوط.. و«الوادي» لغسان سلهب

مشهد من «الوادي»
مشهد من «الوادي»

عندما باشر المخرج إبراهيم البطوط صنع الأفلام سنة 2005 منجزا فيلمه «إيثاكي»، لم يعِد أحدا بأنه سيتخلى عن منهجه المستقل في العمل والإنتاج، وعن منواله في سرد الحكاية بمعالجات تنتمي إلى ذاته أكثر من انتمائها إلى نوعية «ما يطلبه المشاهدون».
وفي فيلمه الجديد «القط» (الروائي الخامس له)، وهو الفيلم الذي شهد عرضه العالمي الأول في إطار مهرجان أبوظبي السينمائي المقام حاليا، ما زال على هذا الوعد.
على ذلك، يختلف «القط» عن أعماله السابقة في أكثر من جانب، لكنه ليس الاختلاف الذي يتراجع فيه عن سينماه. يختلف في أنه أكبر إنتاجا من ذي قبل، أكثر شمولا في ما يود استيحاءه من الظروف الاجتماعية وما يفرزه على الشاشة. يختلف أيضا في أنه حكاية قد تفسر على أنها بوليسية، في الوقت التي هي فيه تجسيد لحالات ملتصقة بالإنسان الحاضر زمانا ومكانا. إنه حكاية يقود شخصياتها القط (عمرو واكد): رجل يعيش في الجريمة. قاتل محترف ينفذ ما يقدم عليه وإن كان في النهاية يبدأ بالشعور بأن جرائمه باتت أكثر مما يستطيع لوجدانه أن يتحمله. ولو أنه سينفذ ما وعد به وسيقتل ذلك الشرير الذي يخطف الأولاد ليبيع أعضاءهم البدنية في السوق السوداء. لكن هذه لن تكون نهاية الرحلة. ما زال هناك الرأس الكبير، بل أكبر الرؤوس، كما يؤكد القط وهو يتحدث لمساعده الغجري (عمرو فاروق بحضور مدهم).
من بداية رائعة للقط وهو يمشي في السوق المزدحمة ليدخل سلسلة من الأزقة الممنوعة، إلى النهاية وهي تظهر القط وقد سار في ما قد يكون بداية حريته من أكبال الماضي، يمضي الفيلم بوتيرة واحدة لا تعرف التهاون. بعد تنفيذ عملية لمنفذ يتعامل وقتله في بعض شوارع القاهرة، ينطلق وراء الرئيس المدبر (صلاح حنفي) ليقتص منه. ما يحرك كل ذلك حقيقة أن ابنة القط كانت قد خطفت سابقا ولا يزال يعايش صعوبة التغلب على مأساته الشخصية المندمجة تماما مع مأساة الوجود في حياة تزداد صعوبة وسخونة.
رئيس العصابة يجسد كل الشرور التي لا يسمح القط لنفسه بالعبور إليها. إنه حالة متوحدة لشخص قد يكون مجرما لكنه ليس شريرا، مطلوبا من القانون لكنه ينفذ ما لا تقوم به، يقتل بلا هوادة (مشهد القتل الأول منفذ كما لو كان انقضاضه على الضحية باليه من العنف على قصره) لكنه لا يقتل للقتل وحده.
في المقابل، فإن شخصية رئيس العصابة هي البعد المظلم للبشر. وفي حين أن عمرو واكد لا يحتاج إلى توفير معادلات درامية خلال أدائه الشخصية، بل يثب إلى الدور بلا تردد وبثقة، فإن أداء صلاح حنفي (والفيلم من إنتاجهما معا) لا يقل تجسيدا للشخصية التي يؤديها. تشعر به وتخاف وجوده لو كان حقيقيا. شخص لا يمكن أن تثق به ولا أن تمنحه تعاطفا لكن، لو كان حقيقيا، لخفت مصافحته.
الشخصية الثالثة هي لمستوى أرفع من الشر. لدينا تلك التي يؤديها عمرو واكد والأخرى التي يؤديها صلاح حنفي ثم الثالثة التي يلعبها فاروق الفيشاوي. إنه ملاك الشر. الرجل الذي يحيط نفسه بتناقضات رمزية: يدخل الكنيس اليهودي والكنيسة المسيحية والمسجد، ليس متعبدا، بل مثل ملاك شر يحوم حول أماكن العبادة متمنيا لو كان يستطيع تقويضها. هذا قد يكون التفسير الأقرب أو قد لا يكون، والسبب هو أن السيناريو لا يعمد إلى كثير من التحليل. ليس لأنه يريد الغموض لذاته، بل لأن تواصله الداخلي بين الشخصيات كما بين الشخصية ومراجعها النفسية والعاطفية ليست مترابطة جيدا، وهذا ما يجعل المشاهد بعيدا بعض الشيء، في النهاية، عن الوصول إلى الأغراض الدفينة من وراء هذا الجهد.

* الواقع والواقعية
* لكن الفيلم بصريا باهر. إبراهيم البطوط يستفيد من الأماكن بطريقة قلما يستطيع مخرج الإلمام بها على هذا النحو. يوظفها دراميا وإن كان يستطيع أن يوظفها كعنصر تشويق وحركة لكنه لا يفعل. لذلك يهتم بتكوين الصورة على النحو الذي يخدم الرسالة وليس المشهد وحده. هناك ذلك المشهد الذي تتعقب فيه الكاميرا عمرو واكد في مطلع الفيلم وذلك الذي تتعقب الكاميرا (تصوير طارق حنفي) الممثلة سارة شاهين. في كلتا الحالتين تلحظ مدى ارتباط الفيلم بالمكان.
الكثير من الحضور هنا عاب على الفيلم ما سماه بـ«الاستخدام المفرط لمشاهد من شأنها تشويه سمعة مصر». إنها العبارة ذاتها التي طالما أطلقت على كل فيلم حاول التعامل مع الواقع. النقد الذي يتوجه إلى الفيلم عوض أن يتوجه إلى حيث يوجه الفيلم نقده: الوضع المعيش الذي أفرز، عبر كل هذه العقود، ما يعرضه الفيلم. الوضع الذي لا يتعامل مع قاذورات الأزقة، بل مع قاذورات الحياة التي خلت من الدوافع الأخلاقية.
عمرو واكد يقول لهذا الناقد: «أرد على هذا النقد بالقول إن أصحابه لا يمانعون وضع رؤوسهم في الرمال. إحدى المنتقدات سألتني: لماذا لا تدور الأحداث في الزمالك؟».
طبعا لا مكان للزمالك في هذا النوع من الأحداث، خصوصا ما إذا كانت مستمدة من هذا النوع من الواقع. وذكر الواقع يؤدي إلى الحديث عما إذا كان الفيلم، بشكل آلي، واقعيا. الحقيقة أن الواقعية شيء و«الواقع» شيء مختلف. «القط» واقعي النبرة والأجواء والتمثيل والتصوير (أحيانا، وعن قصد، ينفصل التصوير قليلا ليغير من ألوان المشهد ويفعل ذلك جماليا)، لكن كل هذه لا تعني أنه فيلم واقعي، لا من حيث مدرسته ولا من حيث أسلوب عمله.
«القط» في نهاية المطاف دراما عميقة تدخل في أنفس شخصياتها القليلة، ومن بين هذه الأنفس نفس الحياة العصرية في مصر اليوم. قد لا تكون الصورة وردية، لكنها مستوحاة من الواقع المعيش.

* على الهامش
* «الوادي» للبناني غسان سلهب عمل مختلف تماما، في كل شاردة وورادة، لكنه فيلم جيد في الوقت ذاته. ما يجمعه بالفيلم المصري أن الوصول إلى كل فحواه أمر يبقى صعبا. وفي الحالتين فإن جزءا من هذه الصعوبة مرده السيناريو وليس المعالجة أو اختيار المدرسة التي سينتمي إليها الفيلم.
هناك بداية لافتة في فيلم سلهب: نسمع - على شاشة سوداء - صوت رجل يخبرنا أنه أغمض عينيه وقرر أن يقود سيارته إلى الهاوية. نسمع هدير المحرك، ثم يتعالى الهدير، ثم نسمع صوت الارتطام. هذا كله قبل أن تكشف الكاميرا عن الشخص (كارلوس شاهين) الذي تكلم. هو الآن يقف عند قارعة طريق جبلية ينزف من جروحه الدم. لقد هوت السيارة وخرج منها مصابا لكن بأكثر من الجروح البادية: لقد فقد الذاكرة.
ليس بعيدا عنه على تلك الطريق سيارة تعطلت وفيها أربعة أشخاص (رجلان وامرأة). يتقدم من هؤلاء ويصلح عطل السيارة ثم يسقط أرضا بلا وعي. ينقلونه إلى مزرعة مغلقة يقف حرس عند بوابتها الكبيرة. وفيها مصنع كيماوي، لعله مصنع مخدرات - بل يجب أن يكون. هناك، بالإضافة إلى الحرس، رجل يبدو آمرا في مطلع الأمر (عوني قواص) لكنه ليس كذلك بعد قليل. ما يكشف عنه الفيلم هو أنه في هذه المزرعة - المخبأ لا وجود لآمر أو رئيس. الشخصيات متساوية ومعظمهم فنان في حرفته: أحدهم عالم كيميائي، وآخر فنان في الطبخ، وهناك رسامة، والجميع يتحلق حول هذا الغريب الذي فقد ذاكرته والذي يتمنى البعض لو لم يكن.
في هذا المكان المغلق والمجرد (الديكور من العناصر الرئيسية، فقط: كرسي، طاولة، سرير، الخ...) لا يحدث شيء لكن كل شيء في العالم المحيط يحدث فيه. إنه لبنان في كيان صغير. رمزيات شخصياته تطفو لتدين شعبا قرر أن يعيش على الهامش إلى أن تطيح به الأحداث.
في تطور مفاجئ وقاتم يتم محو بيروت بغارات وانفجارات. هؤلاء الناس الذين عاشوا مصاصي دماء على هامش المجتمع، لم يعد لديهم ما يعيشون عليه. سينتهون. أما الغريب الذي لم يبحث أحد عنه، فيتذكر: لقد عاد إلى لبنان بعد 10 سنوات من الغربة ليبحث لا عن الجذور وحدها بل عن المستقبل. غابت الذاكرة وعادت ليجد أنه لم يخسر شيئا ولم يربح شيئا أيضا.
يستخدم المخرج الإيقاع المتمهل لسرد حياة غير متسارعة. اللقطة قد تستمر طويلا لأن الإيقاع هو واحد من سبل المخرج لفتح الباب أمام المشاهد لكي يدخل الحدث ويتشرب منه. تقنيا، لديه ذلك الحس التجريبي البارز. بعض المشاهد تعبر عنه بوضوح مثل ذلك المشهد المبكر في الفيلم حين تصل السيارة إلى البلدة القريبة: الكاميرا خارج السيارة على وجه فاقد الذاكرة الجالس إلى النافذة. على النافذة نرى انعكاسات المحيط الطبيعي. في الوقت ذاته هناك صورة ثالثة (مدمجة) لكاميرا تصور البلدة وهي تبتعد كما لو أن السيارة تغادرها، لكن المشهد الرئيس الذي يحمل كل هذه الصور (لنسمِّه الصورة الأولى أو الأصلية) مأخوذ للسيارة وهي تدخل، ما يجعل المشهد يعبر عن تناقض الحركة والحركة المضادة.
الجوانب التقنية ناجحة عموما، لكن الكتابية فيها قدر ملحوظ من الاتكال على استنتاج المشاهد للمعرفة. لكي يفعل ذلك عليه أن يتابع ويفهم، لكن هذا الفهم يبقى في الأساس محدودا نظرا لغموض الدوافع والشخصيات، ما يترك المشاهد حائرا هنا وهناك. هذا ما يعرفه المخرج تماما فيقول لي: «أنا دائما ما توجهت إلى الجمهور الهامشي. أفلامي هي أفلام تقع في نطاق الهامشية، وهذا ما أردته لنفسي منذ البداية».



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».