«السوشيال ميديا» واصلت في 2019 اصطياد مشاهير السياسة والفن والرياضة، وتسبَّبت تغريداتهم وتعليقاتهم في أزمات. فالرئيس الأميركي دونالد ترمب وقع في «فخّ السوشيال ميديا» عندما انتقد في تغريدة نائبات أميركيات من «الحزب الديمقراطي» بمجلس النواب، مطالباً إياهن بالعودة إلى بلادهن الأصلية لإصلاحها، الأمر الذي أثار موجة من الغضب لدى بعض مواطنيه، الذين اعتبروا أن تغريدة الرئيس تحمل طابعاً عنصرياً... وامتدت أزمات ترمب إلى خارج أميركا، وأثارت تغريدة له غضباً بريطانياً، عندما قال: «الديمقراطيون يضغطون من أجل رعاية صحية شاملة، في حين أن الآلاف يتظاهرون في المملكة المتحدة لأن نظامهم سينهار ولا يعمل».
وتسببت تغريدة للرئيس اللبناني ميشال عون في أزمة دبلوماسية بين لبنان وتركيا، حيث اتهم في أغسطس (آب) الماضي «العثمانيين» بـ«ممارسة الإرهاب»، إبان الحرب العالمية الأولى، في لبنان، لتعرب الخارجية التركية عن رفضها لهذه التغريدة.
ومن السياسة إلى القضايا الاجتماعية، حيث تسببت الشاعرة والصحافية السودانية، داليا إلياس، في إثارة ردود فعل غاضبة، بسبب فيديو عبر صفحتها بـ«فيسبوك»، عن وجود أزمة فحولة بين السودانيين، وانتشار الجنس الثالث، وتعرضت إلياس لهجوم لاذع. كما أثارت الفتاة المصرية ريم مهنا جدلاً، عقب نشر فيديو على صفحتها بـ«فيسبوك» عن تجميد بويضاتها لحين وجود عريس مناسب تستطيع الزواج منه.
في حين وقع مشاهير في «فخّ»، بعدما تداولوا صوراً لكارثة حرائق الأمازون بالبرازيل، دون تدقيق لحقيقة هذه الصور، الأمر الذي أسهم في توليد موجة من التضليل، وراجع معهد «بوينتر» الأميركي للدراسات الإعلامية وتدقيق الحقائق، الصور التي نشرها المشاهير، فوجدوا أنها لا تصوّر الحرائق الحالية.
وأشار المعهد إلى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وقع في هذا الفخّ، كما وقع فيه لاعب الكرة الشهير كريستيانو رونالدو، والممثل الأميركي ليوناردو دي كابريو، وعارضة الأزياء البرازيلية جيزيل بوندشين، ومطربة البوب الأميركية مادونا.
إلى ذلك، تسببت «السوشيال ميديا» في إقالة أشخاص من عملهم، كما حدث مع المدرب المصري أحمد حسام ميدو، الذي أقيل من تدريب نادي الوحدة السعودي، بسبب تغريدة له، اعتُبِرت مسيئة لأحد مشجعي النادي. كما تورطت المطربة شيرين عبد الوهاب في أكثر من أزمة مع جمهور «السوشيال ميديا»، خلال 2019. أغلبها «بسبب عبارات تحدثت بها خلال وصلاتها الغنائية»، كان أحدثها عندما قالت في حفلها بالسعودية، إنه «يجب على النساء الاستماع لكلام الرجال، طالما لا يمكنهن الاستغناء عنهم»، لتثير موجة من الغضب بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروا ما ذكرته «تقليلاً من شأن المرأة».
وواجهت المغنية اللبنانية ميريام فارس حملة انتقادات عنيفة على «السوشيال ميديا»، بعد تداول مقطع فيديو لها تقول فيه إنها «أصبحت ثقيلة على مصر، بسبب زيادة أجرها»، لتواجه عاصفة من النقد دفعتها إلى الاعتذار.
تعليقاً، قال الدكتور خالد طلعت، أستاذ الإعلام بجامعة الزقازيق بدلتا مصر، إن «الأزمات التي أثارتها (السوشيال ميديا) خلال عام 2019، تكشف إلى حد كبير، كيف أصبحت مصدراً من مصادر المعلومات، وهو ما يتطلب تجاوباً سريعاً مع ما يتم إثارته عليها، خشية أن يتم توظيفها بشكل خاطئ»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «كما أن (السوشيال ميديا) أصبحت صوت الفئات المهمشة، التي لا يهتم الإعلام التقليدي بقضاياها، فهي أيضاً وسيلة لإحداث الأزمات ونشر الإشاعات، بسبب الاعتماد عليها مصدراً للمعلومات».
وأفاد تقرير سنوي تصدره جامعة أوريغون الأميركية عن مؤشرات التواصل الاجتماعي، نُشِر في فبراير (شباط) الماضي، بأن «ثلثي الشباب العربي (نحو 63 في المائة تقريباً) يقولون إنهم يتجهون إلى (فيسبوك) و(تويتر) أولاً للحصول على الأخبار».
أثار إعلان شركة «ميتا» تمديد فترة تقييد الإعلانات المتعلقة بالقضايا الاجتماعية أو السياسية لما بعد انتخابات الرئاسة الأميركية، من دون أن تحدّد الشركة وقتاً ...
بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير الذكاء الاصطناعي ضمان الموضوعية مع التدفّق المعلوماتي المتسارع والمتزايد عبر شبكة الإنترنت، واستخدام وسائل عديدة لضخ مختلف المعطيات والمعلومات، بات من الصعب على المتلقي التمييز بين الحقيقة والدعاية من جهة وبين الإعلام الموضوعي والتأطير المتحيّز من جهة ثانية.
وهكذا، تتأكد أكثر فأكثر أهمية وجود تقنيات التحليل والكشف وتصفية (أو «فلترة») هذا الكم الهائل من المعطيات، توصلاً إلى وقف سيل المعلومات المضللة وإبعاد الإشاعات و«الأخبار المزيّفة»، وجعل شبكة الإنترنت مكاناً آمناً لنقل المعلومات والأخبار الصحيحة وتداولها. والواقع أنه مع التحول الرقمي المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، غدت «الأخبار المزيّفة» واحدة من أبرز التحديات التي تهدد المجتمعات حول العالم؛ إذ يجري تداول ملايين الأخبار والمعلومات يومياً، ما يجعل من الصعب على الأفراد - بل وحتى المؤسسات الإعلامية - التمييز بين ما هو صحيح وما هو مزيّف أو مضلِّل، وفي هذا السياق برزت تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة مبتكرة وفعّالة للكشف عن «الأخبار المزيفة» وتحليلها.
تُعرَّف «الأخبار المزيّفة» بأنها محتوى إعلامي يُنشأ ويُنشر بهدف التضليل أو التلاعب بالرأي العام، وغالباً ما يصار إلى استخدامه لتحقيق غايات سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وتتنوّع تقنيات إنشاء «الأخبار المزيّفة» بين التلاعب البسيط بالمعلومات... واستخدام تقنيات متقدمة مثل التزييف العميق، الأمر الذي يزيد من تعقيد اكتشافها.
جهود مبتكرة
من هذا المنطلق والمبدأ، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يقود الدكتور بريسلاف ناكوف، أستاذ ورئيس قسم معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، جهوداً مبتكرة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً تحليل الطرق المستخدمة في الإعلام للتأثير على الرأي العام. ويبرز ضمن أبرز إسهامات ناكوف تطوير تطبيق «فرابيه - FRAPPE»، وهو أداة تفاعلية مصممة لتحليل الأخبار عالمياً، حيث يقدم التطبيق رؤية شاملة حول أساليب الإقناع والخطاب المستخدمة في المقالات الإخبارية، ما يمكّن المستخدمين من فهم أعمق للسياقات الإعلامية المختلفة. ويشير ناكوف إلى أن «فرابيه» يساعد المستخدمين على تحديد كيفية صياغة الأخبار وتأطيرها في بلدان مختلفة، ما يتيح رؤية واضحة لتباينات السرد الإعلامي.
تحليل أساليب الإقناع
مع أن دراسة أساليب الإقناع لها جذور قديمة تعود إلى الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، الذي أسس لمفاهيم الأخلاق والعاطفة والمنطق كأساس للإقناع، فإن فريق ناكوف أضاف تطويرات جديدة لهذا المجال.
وعبر تحليل 23 تقنية مختلفة للإقناع، مثل الإحالة إلى السلطة، واللعب على العواطف، وتبسيط الأمور بشكل مفرط، يُسهم «فرابيه» في كشف أساليب الدعاية وتأثيرها على القراء. وتُظهر هذه الأساليب كيف يمكن للإعلام أن يختار كلمات أو صوراً معينة لتوجيه فهم الجمهور. وكمثال، يمكن تأطير قضية تغيّر المناخ كمشكلة اقتصادية أو أمنية أو سياسية، حسب الإطار الذي تختاره الوسيلة الإعلامية.
تقنية التأطير الإعلامي
أيضاً من الخواص التي يستخدمها تطبيق «فرابيه» تحليل أساليب التأطير الإعلامي، وهنا يوضح ناكوف أن التطبيق يمكّن المستخدمين من مقارنة كيفية تناول وسائل الإعلام للقضايا المختلفة؛ إذ يستطيع التطبيق أن يُظهر كيف تركّز وسيلة إعلامية في بلد معيّن على الجوانب الاقتصادية لتغير المناخ، بينما قد تركز وسيلة إعلامية في بلد آخر على الجوانب السياسية أو الاجتماعية.
وفي هذا السياق، يعتمد التطبيق على بيانات متقدّمة مثل قاعدة بيانات «SemEval-2023 Task 3»، التي تحتوي على مقالات بأكثر من 6 لغات، ما يجعل «فرابيه» قادراً على تحليل محتوى إعلامي عالمي متنوع. ويستخدم التطبيق الذكاء الاصطناعي لتحديد الإطارات السائدة في الأخبار، كالهوية الثقافية أو العدالة أو المساواة ما يساهم في تقديم صورة أوضح للسياق الإعلامي.
الذكاء الاصطناعي أداة أساسية
الذكاء الاصطناعي أداة أساسية في تطبيق «فرابيه»؛ إذ إنه يتيح للتطبيق تحليل الأنماط اللغوية التي تؤثر على آراء القراء. وهنا يقول ناكوف، خلال حواره مع «الشرق الأوسط» عن قدرات التطبيق: «يُعد الذكاء الاصطناعي في (فرابيه) عنصراً أساسياً في تحليل وتصنيف واكتشاف الأنماط اللغوية المعقّدة التي تؤثر على آراء القراء وعواطفهم». ويضيف أن هذا التطبيق «يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، مثل الشتائم ولغة الترهيب، والتنمّر والمبالغة والتكرار. ولقد جرى تدريب النظام على التعرّف على 23 تقنية مختلفة غالباً ما تكون دقيقة ومعقّدة في محتوى الوسائط في العالم الحقيقي».
ويتابع ناكوف شرحه: «... ويستخدم التطبيق أيضاً الذكاء الاصطناعي لإجراء تحليل التأطير، أي لتوصيف وجهات النظر الرئيسة التي تُناقش قضية ما من خلالها مثل الأخلاق والعدالة والمساواة والهوية السياسية والثقافية وما إلى ذلك. ويسمح هذا للتطبيق بتمييز الإطارات الأساسية التي تؤثّر على كيفية سرد القصص وإدراكها، وتسليط الضوء على الإطارات المهيمنة في المقالة ومقارنتها عبر مصادر الوسائط والبلدان واللغات».
التحيزات الإعلامية
من جهة ثانية، بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ضمان الموضوعية والتقليل من التحيّز. وفي هذا الجانب، يوضح ناكوف أن «فرابيه» يركّز على تحليل اللغة المستخدمة في المقالات وليس على تقييم صحتها أو موقفها السياسي، وكذلك يعتمد التطبيق على تصنيفات موضوعية وضعها صحافيون محترفون لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، ما يقلل من مخاطر التحيّز.
وبالفعل، تمكن «فرابيه»، حتى الآن، من تحليل أكثر من مليوني مقالة تتعلق بمواضيع مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتغير المناخ. ويدعم التطبيق راهناً تحليل المحتوى بـ100 لغة، ويخطط الفريق لتوسيع نطاقه ليشمل لغات إضافية وتحسين دقة التحليل، ما سيعزّز قدرة التطبيق على فهم الأنماط الإعلامية عالمياً.
وفي حين يأمل الباحثون أن يصبح هذا التطبيق أداة أساسية للصحافيين والأكاديميين لفهم أساليب الإقناع والدعاية، يشير ناكوف إلى أهمية تطوير مثل هذه التقنيات لمساعدة الناس على التمييز بين الحقائق والدعاية، خاصة في عصر تزايد استخدام المحتوى «المؤتمت» والمعلومات المضللة. وبالتوازي، يسهم «فرابيه» بدور حيوي في تمكين الجمهور من تحليل الأخبار بطريقة أكثر وعياً وموضوعية، ووفق ناكوف: «في عصرنا الحالي، يمكن أن تُستخدم أساليب الإقناع لتضليل الناس؛ ولهذا السبب نحتاج إلى أدوات تساعد في فهم اللغة التي تشكّل أفكارنا». وبالتالي، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح «فرابيه» نموذجاً لتطبيقات مستقبلية تسعى لتعزيز الشفافية في الإعلام وتقليل تأثير التضليل الإعلامي.
مكافحة «الأخبار المزيّفة»
في سياق متصل، تمثل خوارزميات الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في مكافحة «الأخبار المزيّفة»؛ حيث تعتمد على تقنيات متقدمة لتحليل النصوص والصور ومقاطع الفيديو.
ومن بين أبرز التقنيات المستخدمة في هذا المجال يمكن أيضاً تحليل النصوص؛ إذ تعتمد خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية على تحليل لغة المقالات والتحقق من الأسلوب، واكتشاف المؤشرات اللغوية التي قد تشير إلى التضليل.
كذلك تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي على التحقّق من المصادر، وبالأخص من موثوقية المصادر الإعلامية من خلال تحليل تاريخ النشر والتكرار والمصداقية، والتعرف على التزييف البصري عن طريق استخدام تقنيات التعلم العميق للكشف عن الصور أو الفيديوهات المزيفة باستخدام خوارزميات يمكنها تحديد التلاعبات البصرية الدقيقة.
التحديات المستقبلية
ولكن، على الرغم من النجاح الكبير للذكاء الاصطناعي في هذا المجال، لا بد من القول إن التحديات لا تزال قائمة. من هذه التحديات تزايد تعقيد تقنيات التزييف، بما في ذلك عبر تطوّر تقنيات مثل «التزييف العميق» الذي يزيد مهمة كشف «الأخبار المزيّفة» صعوبة. وأيضاً ثمة مشكلة «تحيّز البيانات (أو المعطيات)» حيث يمكن أن تتأثر خوارزميات الذكاء الاصطناعي ببيانات التدريب، ما قد يؤدي إلى نتائج قليلة الدقة أو متحيزة. وبالطبع، لا ننسى أيضاً إشكالية التنظيم القانوني مع طرح استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق تساؤلات حول الخصوصية والموثوقية والمسؤولية القانونية.