«حراك 22 فبراير»... ثورة سلمية اقتلعت {عرش الفساد} في الجزائر

انتخاب رئيس جديد عبر صناديق الاقتراع لم يضع حداً له

الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه  في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
TT

«حراك 22 فبراير»... ثورة سلمية اقتلعت {عرش الفساد} في الجزائر

الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه  في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)
الرئيس الجزائري المنتخب عبد المجيد تبون يلقي كلمة خلال مراسم تنصيبه في القصر الرئاسي بالعاصمة الجزائر في 19 ديسمبر الحالي (أ.ب)

تعهد الرئيس الجزائري الجديد عبد المجيد تبون في اليوم الأول لانتخابه 12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري، بإدخال تغيير كبير على الدستور كأول خطوة في بدايته حكمه، وبـ«الإنصات لمطالب الحراك الشعبي المبارك»، الذي أعلن في اليوم الموالي للانتخاب عدم اعترافه بالرئيس، بحجة أنه «يمثل نظام بوتفليقة»، الرئيس الذي حكم البلاد لمدة 20 سنة، وأجبرته ثورة شعبية سلمية على التنحي.
وفي وقت كان فيه كل شيء يوحي في الجزائر بأن الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، قدر محتوم، انفجر الشارع في 22 فبراير (شباط) الماضي، رافضا التمديد لرئيس لم يحدّث شعبه، ولم يؤد أي نشاط رسمي منذ 6 سنوات كاملة، بسبب مرض أقعده على كرسي متحرك وأفقده التحكم في حواسه.
لكن هذا العجز الصحي استغله شقيقه وكبير مستشاريه، السعيد بوتفليقة (في السجن حاليا)، للاستيلاء على صلاحيات الرئيس وتسيير الدولة، وكان على وشك عزل قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح الذي أضحى الحاكم الفعلي للبلاد.
لكن بعد 10 أيام من المظاهرات المليونية، خاطب بوتفليقة الجزائريين عبر رسالة، قرأها مدير حملته الانتخابية عبد الغني زعلان (حصل على البراءة بعد فترة سجن دامت 4 أشهر)، تعهد فيها بأنه سيقوم في حال إجراء الانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة في 18 أبريل (نيسان) الماضي، بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة على أن تحدد تاريخها «ندوة وطنية»، اقترحها كورقة طريق للخروج من الأزمة السياسية، التي تعقدت أكثر منذ إصابته بجلطة دماغية في 27 من أبريل 2013، كما دعا الطبقة السياسية والمجتمع المدني إلى المشاركة في صياغة إصلاحات سياسية، ستكون من أهم مخرجات «الندوة».
وكان الرئيس يروم بهذه الخطة أن يبحث لنفسه ولعائلته عن «مخرج مشرف» من حكم سيطر عليه لمدة 20 سنة، وطوعه لفائدة شقيقه وشبكة من الموالين له، أبرزهم رجال أعمال تمكنوا من تكوين ثروة ضخمة بفضل مشروعات حكومية، أهداها لهم السعيد بوتفليقة، ورؤساء وزراء ووزراء ورجال أعمال، كثير منهم أدانهم القضاء بالسجن لسنوات طويلة. لكن سقطت الأحكام بحقهم عشية الاستحقاق الرئاسي، الذي جرى في 12 من ديسمبر الجاري، وكانت بمثابة صدمة لهم ولعائلاتهم، ومفاجأة كبيرة ممن كانوا يعتقدون بأن محاسبة رؤوس الفساد بمثابة «معجزة».
وبرغم تعهدات الرئيس بتدارك أخطاء 20 سنة من الحكم، لم يهدأ الشارع، واستمر هديره، فتيقنت «جماعة بوتفليقة» بأن الجزائريين يتعاملون مع أي مقترح منهم على أنه «حيلة»، الهدف منها الالتفاف على المطلب الأساسي، الذي دفعهم إلى الثورة عليها، وهو انسحاب الرئيس فورا من الحكم، ووقف النهب المنظم للمال العام، ومحاسبة المتورطين في فساد كان سببا في تفويت فرص كثيرة على الجزائر لتحقيق إقلاع اقتصادي، حيث توفرت في الـ20 سنة من حكم الرئيس ألف مليار دولار، بفضل مداخيل بيع النفط والغاز. وهذا المبلغ بحسب خبراء في الاقتصاد تم إهداره في مشروعات غير رابحة، بينما كان يمكن أن يحقق قيمة مضافة للاقتصاد، وذلك بتنويعه للتخلص من ريع المحروقات. فيما أكد مراقبون أن أكبر فشل يتحمله بوتفليقة «هو عجزه عن بناء اقتصاد حقيقي».
في خضم هذه التطورات، أعلن الجيش بشكل صريح أنه متخندق في صف المتظاهرين، وتعهد رئيس أركانه قايد صالح بـ«مرافقة» القضاء خلال إجراء تحقيقاته، ثم محاسبة الضالعين في الفساد.
وكان أول إجراء قام به، بعد الضغط على بوتفليقة لإجباره على الاستقالة، هو اعتقال شقيق الرئيس ومديري المخابرات السابقين الفريق محمد مدين، الشهير بـ«الجنرال توفيق»، واللواء عثمان طرطاق المدعو «البشير»، كما اعتقل معهما المرأة السياسية المقربة من عائلة بوتفليقة، البرلمانية لويزة حنون، واتهم القضاء العسكري الأربعة بـ«التآمر على سلطة الدولة» و«التآمر على الجيش».
لكن الحقيقة، بحسب عدد من المراقبين، هو أن قايد صالح (79 سنة) اعتقلهم وسجنهم لأنهم عقدوا اجتماعات في بداية الثورة السلمية، بحثت عزله. وبذلك، فقد سارع الجنرال صالح إلى إنقاذ نفسه قبل أن يستعمل السعيد، بطريقة غير شرعية تعوّد عليها، صلاحيات شقيقه الرئيس، بخصوص تعيين وإقالة كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. وكان صالح قائدا للقوات البرية عندما تسلم بوتفليقة الحكم عام 1999، ويعود له الفضل في تعيينه رئيسا لأركان الجيش عام 2004، ثم نائبا لوزير الدفاع عام 2015، وكرد للجميل وفّر له الحماية في فترة مرضه، وكان يردّ بحدة على دعوات المعارضة بتطبيق الدستور فيما يخص عزل رئيس الجمهورية في حالة وجود مانع صحي مزمن. غير أن تزامن الاحتجاجات الشعبية مع محاولات عزله دفعه إلى التخلي عنه.
وفي الرابع من يوليو (تموز) الماضي، دعا الرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح إلى انتخابات جديدة، وألح قايد صالح على إجرائها تحاشيا لـ«فترة انتقالية»، كانت المعارضة وقطاع من الحراك يطالبان بها. غير أن عزوف «الأوزان الثقيلة» عن الترشح، أفشل المسعى، فاضطرت السلطة إلى إلغائها، وكان على بن صالح أن يمدد حكمه الانتقالي المحدد في الدستور بثلاثة أشهر فقط، وكانت مدته قد انتهت بحلول موعد الاستحقاق.
في غضون ذلك، بقي ملايين المتظاهرين محافظين على وهج الحراك، رغم متاعب الصوم في رمضان، واستمرت المظاهرات رغم حرارة الصيف الشديدة، ومعها بدأ صبر قائد الجيش ينفد، وسرعان ما «انقلب» على «الحراكيين» بشن حملة اعتقالات واسعة، طالت في البداية «حاملي الراية الأمازيغية»، وبعدها عدة ناشطين بارزين. وأظهر حساسية بالغة من أي شخص ينتقده في وسائل الإعلام وفي شبكة التواصل الاجتماعي. وفرض مضايقات شديدة على الصحف والتلفزيونات الخاصة والتلفزيون الحكومي، وأجبرهم على وقف تغطية المظاهرات، كما منعهم من استضافة المعارضين لانتخابات جرى تنظيمها من طرف السلطة، التي استخلفت بوتفليقة.
واستدعى بن صالح الهيئة الانتخابية من جديد، بعد أن اقترح قايد صالح في خطاب تاريخ إجرائها في 12 من ديسمبر، وأمر وسائل الإعلام كلها بتكييف برامجها مع الأجندة الجديدة. فيما أعلنت كل أحزاب المعارضة مقاطعة الاستحقاق، غير أن شخصيات حزبية، وأخرى مستقلة مقربة من السلطة، وجدت في هذه الأجندة «شروطا معقولة تضمن إجراء انتخابات شفافة»، فترشح أكثر من 23 شخصا لها، تمكن خمسة فقط من جميع التوقيعات اللازمة للترشح (55 ألفا)، وهم رئيسا الوزراء سابقا علي بن فليس وعبد المجيد تبون، ووزير الثقافة سابقا عز الدين ميهوبي، أمين عام بالنيابة لحزب «التجمع الوطني الديمقراطي»، ووزير السياحة سابقا عبد القادر بن قرينة، الذي يرأس الحزب الإسلامي «حركة البناء الوطني»، وعبد العزيز بلعيد رئيس حزب «جبهة المستقبل». وفي سياق ذلك، تم إطلاق «سلطة مستقلة للانتخابات» كـ«ضمانة على نزاهة على العملية الانتخابية»، إذ عوضت وزارة الداخلية في تنظيم ومراقبة الانتخابات وإعلان نتائجها، وذلك لأول مرة منذ الاستقلال. لكن باقتراب موعد الانتخابات ظهر انقسام حاد في الشارع، بين مؤيد يرى في اختيار رئيس جديد بداية مخرج من الأزمة، وبأن وجود رئيس «ناقص للشرعية أفضل من عدمه»، وبين رافض للانتخاب بحجة أن «النظام يبحث عن ولاية خامسة من دون بوتفليقة»، وذلك بترشيح أشخاص محسوبين عليه. ثم عاد الجدل من جديد حول «مرشح الجيش» في الانتخابات، بينما نفى صالح ذلك بشدة، كما نفى «أي طموح له في السياسة».
يقول زين الدين غبولي، الكاتب الجزائري في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، في قراءته للأحداث التي عاشتها الجزائر في 2019: «أعتقد أن غضب الجزائريين كان مبرّرا ومتوقعا، بل جاء متأخراً. فالكثير من الملاحظين للساحة السياسية الجزائرية توقعوا غضبا شعبيا غير مسبوق، حينما ترشح بوتفليقة لعهدة رابعة في حالته الصحية الحرجة (عام 2014)، إلا أنني أعتقد أنه كانت هناك عوامل ساهمت في إخماد الغضب الشعبي في 2014، تمثلت في الخوف المتجذر من أحداث العشرية السوداء، وتمكن الدولة من شراء السلم الاجتماعي، وهذه العوامل اختفت تماما اليوم. إضافة لهذا، أعتقد أن الجزائريات والجزائريين شعروا بكم رهيب من الإهانة المعنوية، حينما ترشح بوتفليقة مجددا في ظروفه.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».