ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار

معضلة الداخل تنتظر «محطة برلين»

ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار
TT

ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار

ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار

بعد قرابة ستة أشهر من اندلاع معركة طرابلس بين «الجيش الوطني» الليبي، وقوات حكومة «الوفاق» بات الحسم أبعد، في ظل جمود ميداني عززه توازن القوى، وعُطل في المسار السياسي بسبب تلكؤ مبادرات الحل وتمسك طرفي النزاع بالحوار «المشروط». وبموازاة ذلك، تتفاقم التكاليف الأمنية والإنسانية والاقتصادية في البلد الذي أنهكته الانقسامات والاشتباكات منذ إسقاط العقيد القذافي. تراوح مكانها اليوم في ليبيا المعركة التي اندلعت في الرابع من أبريل (نيسان) الماضي، وسقط فيها أكثر من 1200 قتيل، وآلاف الجرحى والمشردين، من دون تقدم جوهري على الأرض يحسم المعركة؛ لكن يظل الكرّ والفرّ بين المتحاربين على محاور الاقتتال هو السائد، وسط تحقيق مكاسب محدودة لا تعدو كونها تبادلاً للمناطق «المحرّرة».

ما بين الجمود الذي يكتنف العملية العسكرية على العاصمة الليبية طرابلس، والتوقف في التعاطي مع الأزمة سياسياً، ما زال الدكتور غسان سلامة، المبعوث الأممي لدى ليبيا يحشد لمؤتمر دولي حول الأزمة الليبية، تعتزم ألمانيا استضافته هذا العام.
ما هو مأمول أن ينجح المؤتمر في جمع الطرفين المتحاربين على طاولة التفاوض، بعدما بات جلياً أنه ليس بمقدور أي منهما فعل أكثر مما فُعل إلى الآن، وفقاً لمتحدثين إلى «الشرق الأوسط»؛ لأسباب عدة، منها توازن القوى القائم على تهريب صفقات السلاح إلى البلاد.
ويذكر أنه في أول جهد دبلوماسي كبير منذ بدأت «عملية طرابلس»، سعت القوى الكبرى نهاية الأسبوع الماضي، في الأمم المتحدة لوأد خلافاتها بشأن ليبيا بعد ستة أشهر من الحرب. إذ التقى ممثلو تلك الدول بما فيها إيطاليا وألمانيا والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بريطانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وروسيا، والصين؛ بهدف كسر الجمود وتمكين خطة سلام للأمم المتحدة من المضي قدماً.

حرب بالوكالة

لقد تحول الصراع الليبي تدريجياً إلى حرب بالوكالة بين قوى أجنبية تدعم جماعات مسلحة مختلفة منذ «انتفاضة» عام 2011 ضد القذافي. وتتزايد أعداد القتلى والجرحى الذين تستقبلهم المستشفيات الميدانية والمشافي في شرق ليبيا وغربها، كلما ازدادت محاور القتال سخونة، على خلفية الاستعانة بطائرات «الدرون» المسيّرة التي ينظر إليها على أنها فاقمت أزمات المواطنين بسبب القصف العشوائي على الأحياء السكنية.
وتزامناً من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فرض الشريكان الرئيسيان في العملية السياسية، شروطهما للحوار مجدّداً؛ إذ رأى فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق»، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني» المناوئ للمجلس «ليس شريكاً في أي عملية سياسية مقبلة، وأنهم لن يجلسوا معه ثانية».
وتابع السراج، أن «مسألة الحوار والعودة للمسار السياسي يجب أن تكون وفق آليات جديدة، وأن تأخذ في الاعتبار المعطيات التي أفرزها الاعتداء بعد 4 أبريل»، وهو التاريخ الذي أطلق فيه حفتر العملية العسكرية لـ«تحرير» طرابلس. وبدا أن السراج في كلمته معبراً عن تيار مساند له في غرب البلاد، قوامه الإسلام السياسي بجميع أصنافه، والميليشيات المؤدلجة المشاركة ضمن قواته. ورأى عبد الرحمن الشاطر، عضو المجلس الأعلى للدولة لـ«الشرق الأوسط»، أنه «قد تعود المفاوضات السياسية؛ لكن الموقف الموحّد في المنطقة الغربية يرفض الجلوس مع حفتر أو من يمثله».
في المقابل، حفتر، الذي استبق اجتماع وزراء خارجية الدول المعنية بليبيا في نيويورك، تحدث للمرة الأولى منذ بدء «عملية طرابلس»، عن «انفتاحه على الحوار» والعملية السياسية في البلاد، متحدثاً عن صعوبة توفير المناخ اللازم. وقال إن «العملية الديمقراطية التي ينشدها الشعب الليبي كانت، وما زالت، تصطدم بمعارضة المجموعات الإرهابية والميليشيات الإجرامية المسلحة التي تسيطر على القرار الأمني والاقتصادي في العاصمة طرابلس».

إمكانات الحوار

وذهب حفتر في بيان، إلى أنه «في نهاية المطاف لا بد من الحوار والجلوس، ولا بد من العملية السياسية أن تكون لها مكانتها، ولا بد من الحوار الوطني الشامل الذي يحافظ على الوحدة الوطنية للتراب الليبي». وتطرّق إلى فرص إجراء انتخابات فقال: إن «إجراء الانتخابات أمر مستحيل قبل القضاء على تلك المجموعات وتفكيكها وجمع السلاح». وأنهى بيانه بالتأكيد على «الحوار الضامن لوحدة البلاد وتوحيد مؤسساتها»، لكن «لا مجال أمامه طالما بقيت المجموعات الإرهابية والميليشيات تسيطر على مقاليد ومناحي الحياة في طرابلس». وللعلم، حصل آخر لقاء جمع حفتر بالسراج في أبوظبي بنهاية فبراير (شباط) الماضي، وكان بهدف التوصل إلى اتفاق لإنهاء المرحلة الانتقالية في ليبيا عبر انتخابات عامة.

حلول الخارج

ومع تمسك كل طرف بشروطه كي يعود ثانية إلى طاولة التفاوض، يرى كثيرون من الساسة الليبيين أن مستقبل بلادهم مرهون بالحلول التي قد تأتي من الخارج، ومع ذلك لم يطرأ أي جديد على الدعوة التي تبنّتها «قمة الدول السبع»، التي انعقدت في أغسطس (آب) الماضي، بشأن عقد مؤتمر دولي يشارك فيه جميع الأطراف الليبية المعنية على المستويين المحلي والإقليمي للبحث عن سياسي، باستثناء تحرّكات مكوكية للمبعوث الأممي للحشد والتمهيد للمؤتمر.
لقد عقدت خلال الشهور الماضية مؤتمرات دولية كثيرة حول ليبيا دون جدوى، بسبب تمسك أطراف النزاع بمواقفهم، لكن ثمة ليبيين ينتظرون أن تصل أزمة بلادهم «محطة برلين» وتلقى اهتماماً حقيقياً من القوى الكبرى، مقابل مَن يرى أنه لا فائدة ترجى من ورائها. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قال عضو مجلس النواب أبو بكر بعيرة (النائب عن مدينة بنغازي) إن «السبب الأساسي في تعذّر التوصل إلى حل سياسي يرجع إلى غياب المعايير في مَن يفترض أن يتولى المناصب القيادية بالدولة. وبالتالي، أصبح كل مَن وصل إلى منصب ما، يتطلع إلى رئاسة ليبيا، فتعدّدت الرئاسات والحكومات ودخلت البلاد في متاهة».
وعلى الرغم من التحركات الدولية الوئيدة باتجاه البحث عن حلول لوقف الحرب، وإعادة الأفرقاء السياسيين إلى طاولة المفاوضات، نالت الأزمة الليبية بالأمس قسطاً وافراً من كلمات واجتماعات الرؤساء والزعماء أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. إذ تطرقت في مجملها إلى ضرورة تكثيف العمل المشترك والجهود الدولية سعياً للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تعيد الاستقرار والأمن وتقضي على الإرهاب في ليبيا.
وباتجاه تحريك الأزمة باتجاه طاولة التفاوض مجددا تمحوَر لقاء فريديريكا موغيريني، الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية، بفائز السراج، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة. ونقلت إدارة التواصل والإعلام للمجلس الرئاسي، عن موغيريني قولها إن الجهود الأوروبية تنصبّ في اتجاه العودة للمسار السياسي، «ورفض الاتحاد الأوروبي الهجمات التي تطال المدنيين وأي خرق لقرار مجلس الأمن بحظر السلاح».
وكان السفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند قد التقى حفتر، في زيارة غير معلنة إلى أبوظبي، تناولت التباحث حول الأوضاع العسكرية الجارية على تخوم العاصمة طرابلس. ولم تفصح القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، عن تفاصيل هذا اللقاء مكتفية بالقول، إنه جاء «في إطار بحث الأوضاع العسكرية في ليبيا، وحرب القوات المسلحة على الإرهاب»، بجانب «تعزيز العلاقة بين الدولتين الليبية والأميركية». لكن السفارة الأميركية لدى ليبيا، قالت عبر حسابها على «تويتر»، إن اللقاء استهدف «مناقشة الأوضاع الراهنة في ليبيا، وإمكانية التوصّل إلى حلّ سياسي للصراع في البلاد».
وبموازاة الدعوات التي تنادي بالعودة إلى الحوار، رأى النائب بعيرة أنه «لا يمكن العودة مرة أخرى للحلول السياسية ما لم يتدخل المجتمع الدولي بقوة لفرض ذلك على الجميع... وهذا أمر بعيد الاحتمال، والأقرب هو أن تنقسم ليبيا إلى دويلات متعددة».

تقاسم الثروة

من جانب آخر، تتزايد الأصوات المنادية بأن التوزيع «غير العادل» للثروة في ليبيا من بين أسباب أزمات البلاد، وهو ما أكد عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بدعوته خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى معالجة «الخلل الفادح» في مواضيع عدة، من بينها «توزيع الثروة والسلطة في ليبيا، وغياب الرقابة الشعبية من خلال ممثلين منتخبين من الشعب الليبي على القرار السياسي والاقتصادي في البلاد، مع ضرورة توحيد المؤسسات الوطنية كافة».
وفي المسار نفسه، رأى السفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، الذي أبدى استعداد بلاده لتقديم مزيد من الدعم الفني والخبرة لمعالجة القضايا المتعلقة بتوزيع الثروة في البلاد، أن «هناك فجوة كبيرة» لا تزال قائمة بين الأطراف في ليبيا لتحسين شفافية وفاعلية مؤسسات الدولة الليبية.
نورلاند، التقى ونائب مساعد وزير الخزانة الأميركي إريك ماير، كبار المسؤولين من جميع أنحاء ليبيا الأسبوع الماضي بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة وليبيا وتعزيز الانتعاش الاقتصادي الليبي لصالح جميع الليبيين. وقالت السفارة، إنه بـ«التشاور مع شركائنا الليبيين، أبدت الولايات المتحدة استعدادها لتقديم مزيد من الدعم الفني والخبرة لمعالجة القضايا المستفحلة التي تعيق توزيع الميزانية، وضمان استفادة جميع الليبيين من الثروات الطبيعية الهائلة في البلاد».
هذا، وكانت ليبيا تنتج في عام 2010، أي قبل سقوط القذافي نحو 1.6 مليون برميل يومياً، لكن الإنتاج تراجع بشكل حادٍ بعد الإطاحة بنظامه، وتراوح بين 20 و600 ألف برميل يومياً، على أقصى حد، قبل أن يتعافى ليصل إلى 800 ألف وليتجاوز في الأشهر الماضية، لأول مرة، عتبة المليون برميل يومياً. ومعلوم أن لكل من إيطاليا وفرنسا مصالح في النفط والغاز الليبيين، وتثار ضدهما اتهامات أيضاً بمساندة أنصار لكل منهما يشاركون في الصراع. وحقاً جمعت الدولتان حفتر والسراج في قمتين استضافتهما باريس وبالرمو (صقلية – إيطاليا) العام الماضي، لكنهما فشلتا في إحراز تقدّم.

لجنة تحقيق أممية

ومع تبادل الاتهامات بين حكومتي شرق ليبيا وغربها، على خلفية تراجع الأوضاع الاقتصادية، دعا السراج عبر منبر الأمم المتحدة إلى إرسال بعثة أممية لتقصي الحقائق للتحقيق فيما سماه بـ«التجاوزات المالية الخطيرة التي ترتكبها المؤسسات الموازية غير الشرعية في ليبيا، وطباعتها العملة خارج سلطة ونظام إصدار العملة». كذلك طالب بضرورة الإسراع بتكليف لجنة فنية من المؤسسات الدولية المتخصّصة وتحت إشراف الأمم المتحدة، لمراجعة أعمال المصرف المركزي في طرابلس وفرع المركزي في البيضاء (شرق البلاد).
إلا أنه قبل أن تحطّ طائرة السراج على التراب الليبي، كانت الانتقادات الحادة في انتظاره؛ إذ رأت إدارة مصرف ليبيا المركزي في بنغازي أن حديث السراج عن طباعة العملة خارج سلطة ونظام إصدار العملات «ينمّ إما عن جهل بقانون المصارف، أو عن تعمد تضليل المجتمع الدولي»، ولا تليق بمن لديه من المعلومات ما يكفي لقول عكس ذلك. وذهب مصدر من شرق ليبيا، إلى أن «طلب السراج أمام محفل دولي بتشكيل لجنة أممية للتحقيق في المخالفات الاقتصادية، تعدّ إذناً رسمياً بالتدخل في شؤون ليبيا». واستغرب المصدر الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» مما سماه تهرّب رئيس المجلس الرئاسي من تحمّل مسؤوليته بالتصدي للفساد في المؤسسات التابعة لسلطته»، وانتهى إلى أن «التقارير التي صدرت عن جهات رقابية تابعة للسراج خلال السنتين الماضيتين تحدثت عن مخالفات مالية جسيمة، وجرائم تربح من المال العام».

تكسير عظام

على صعيد آخر، بموازاة المبادرات الدولية للبحث عن حلٍّ للأزمة الليبية، تراوح الحرب على أطراف طرابلس بين هدوء وتصاعد؛ لكن مصادر عسكرية ترجح كفة «الجيش الوطني»، الذي قالت إنه وضع يده على قرابة نصف مساحة العاصمة، إذا ما نظرنا إلى الدعم العسكري الذي تتلقاه قوات «الوفاق» من تركيا. وتشدد المصادر نفسها على أن الجيش بات يضع يده على 75 في المائة من الأراضي الليبية، بالإضافة الموانئ النفطية وأغلب الحقول، إلى جانب امتلاكه 9 قواعد عسكرية على طول البلاد؛ مما يعزز من سيطرة الجيش على الأجواء الليبية.
وفي المقابل، مع تمكن الدفاعات الجوية التابعة للجيش من إسقاط عدد من الطائرات المسيّرة في مناطق عدة بالضواحي الجنوبية لطرابلس، تقول عملية «بركان الغضب» التابعة لقوات «الوفاق» إنها هي الأخرى تحقق انتصارات في أرض المعركة. وأمام تمترس القوتين خلف ما تقول إنها مكتسبات حققتها على الأرض، يرى ساسة وحقوقيون أنه لا سبيل ولا حل للأزمة إلا من خلال الحوار والمفاوضات باعتبارهما الحل الأمثل. وحقاً، قال أحمد عبد الحكيم حمزة، رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، أن «الخيار العسكري مكلف وثمنه باهظ». وأردف أنه «بعد مضي قرابة ستة أشهر على اندلاع الحرب، نقف اليوم على كلفه باهظة الثمن من ضحايا وجرحي ومصابين من جميع أطراف النزاع المسلح، بالإضافة إلى حجم التدمير والسرقات الكبيرة التي طالت ممتلكات المواطنين جراء المواجهات المسلحة مما ساهم في تأزم الوضع الإنساني والمعيشي».



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.