بعد قرابة ستة أشهر من اندلاع معركة طرابلس بين «الجيش الوطني» الليبي، وقوات حكومة «الوفاق» بات الحسم أبعد، في ظل جمود ميداني عززه توازن القوى، وعُطل في المسار السياسي بسبب تلكؤ مبادرات الحل وتمسك طرفي النزاع بالحوار «المشروط». وبموازاة ذلك، تتفاقم التكاليف الأمنية والإنسانية والاقتصادية في البلد الذي أنهكته الانقسامات والاشتباكات منذ إسقاط العقيد القذافي. تراوح مكانها اليوم في ليبيا المعركة التي اندلعت في الرابع من أبريل (نيسان) الماضي، وسقط فيها أكثر من 1200 قتيل، وآلاف الجرحى والمشردين، من دون تقدم جوهري على الأرض يحسم المعركة؛ لكن يظل الكرّ والفرّ بين المتحاربين على محاور الاقتتال هو السائد، وسط تحقيق مكاسب محدودة لا تعدو كونها تبادلاً للمناطق «المحرّرة».
ما بين الجمود الذي يكتنف العملية العسكرية على العاصمة الليبية طرابلس، والتوقف في التعاطي مع الأزمة سياسياً، ما زال الدكتور غسان سلامة، المبعوث الأممي لدى ليبيا يحشد لمؤتمر دولي حول الأزمة الليبية، تعتزم ألمانيا استضافته هذا العام.
ما هو مأمول أن ينجح المؤتمر في جمع الطرفين المتحاربين على طاولة التفاوض، بعدما بات جلياً أنه ليس بمقدور أي منهما فعل أكثر مما فُعل إلى الآن، وفقاً لمتحدثين إلى «الشرق الأوسط»؛ لأسباب عدة، منها توازن القوى القائم على تهريب صفقات السلاح إلى البلاد.
ويذكر أنه في أول جهد دبلوماسي كبير منذ بدأت «عملية طرابلس»، سعت القوى الكبرى نهاية الأسبوع الماضي، في الأمم المتحدة لوأد خلافاتها بشأن ليبيا بعد ستة أشهر من الحرب. إذ التقى ممثلو تلك الدول بما فيها إيطاليا وألمانيا والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بريطانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وروسيا، والصين؛ بهدف كسر الجمود وتمكين خطة سلام للأمم المتحدة من المضي قدماً.
حرب بالوكالة
لقد تحول الصراع الليبي تدريجياً إلى حرب بالوكالة بين قوى أجنبية تدعم جماعات مسلحة مختلفة منذ «انتفاضة» عام 2011 ضد القذافي. وتتزايد أعداد القتلى والجرحى الذين تستقبلهم المستشفيات الميدانية والمشافي في شرق ليبيا وغربها، كلما ازدادت محاور القتال سخونة، على خلفية الاستعانة بطائرات «الدرون» المسيّرة التي ينظر إليها على أنها فاقمت أزمات المواطنين بسبب القصف العشوائي على الأحياء السكنية.
وتزامناً من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فرض الشريكان الرئيسيان في العملية السياسية، شروطهما للحوار مجدّداً؛ إذ رأى فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق»، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني» المناوئ للمجلس «ليس شريكاً في أي عملية سياسية مقبلة، وأنهم لن يجلسوا معه ثانية».
وتابع السراج، أن «مسألة الحوار والعودة للمسار السياسي يجب أن تكون وفق آليات جديدة، وأن تأخذ في الاعتبار المعطيات التي أفرزها الاعتداء بعد 4 أبريل»، وهو التاريخ الذي أطلق فيه حفتر العملية العسكرية لـ«تحرير» طرابلس. وبدا أن السراج في كلمته معبراً عن تيار مساند له في غرب البلاد، قوامه الإسلام السياسي بجميع أصنافه، والميليشيات المؤدلجة المشاركة ضمن قواته. ورأى عبد الرحمن الشاطر، عضو المجلس الأعلى للدولة لـ«الشرق الأوسط»، أنه «قد تعود المفاوضات السياسية؛ لكن الموقف الموحّد في المنطقة الغربية يرفض الجلوس مع حفتر أو من يمثله».
في المقابل، حفتر، الذي استبق اجتماع وزراء خارجية الدول المعنية بليبيا في نيويورك، تحدث للمرة الأولى منذ بدء «عملية طرابلس»، عن «انفتاحه على الحوار» والعملية السياسية في البلاد، متحدثاً عن صعوبة توفير المناخ اللازم. وقال إن «العملية الديمقراطية التي ينشدها الشعب الليبي كانت، وما زالت، تصطدم بمعارضة المجموعات الإرهابية والميليشيات الإجرامية المسلحة التي تسيطر على القرار الأمني والاقتصادي في العاصمة طرابلس».
إمكانات الحوار
وذهب حفتر في بيان، إلى أنه «في نهاية المطاف لا بد من الحوار والجلوس، ولا بد من العملية السياسية أن تكون لها مكانتها، ولا بد من الحوار الوطني الشامل الذي يحافظ على الوحدة الوطنية للتراب الليبي». وتطرّق إلى فرص إجراء انتخابات فقال: إن «إجراء الانتخابات أمر مستحيل قبل القضاء على تلك المجموعات وتفكيكها وجمع السلاح». وأنهى بيانه بالتأكيد على «الحوار الضامن لوحدة البلاد وتوحيد مؤسساتها»، لكن «لا مجال أمامه طالما بقيت المجموعات الإرهابية والميليشيات تسيطر على مقاليد ومناحي الحياة في طرابلس». وللعلم، حصل آخر لقاء جمع حفتر بالسراج في أبوظبي بنهاية فبراير (شباط) الماضي، وكان بهدف التوصل إلى اتفاق لإنهاء المرحلة الانتقالية في ليبيا عبر انتخابات عامة.
حلول الخارج
ومع تمسك كل طرف بشروطه كي يعود ثانية إلى طاولة التفاوض، يرى كثيرون من الساسة الليبيين أن مستقبل بلادهم مرهون بالحلول التي قد تأتي من الخارج، ومع ذلك لم يطرأ أي جديد على الدعوة التي تبنّتها «قمة الدول السبع»، التي انعقدت في أغسطس (آب) الماضي، بشأن عقد مؤتمر دولي يشارك فيه جميع الأطراف الليبية المعنية على المستويين المحلي والإقليمي للبحث عن سياسي، باستثناء تحرّكات مكوكية للمبعوث الأممي للحشد والتمهيد للمؤتمر.
لقد عقدت خلال الشهور الماضية مؤتمرات دولية كثيرة حول ليبيا دون جدوى، بسبب تمسك أطراف النزاع بمواقفهم، لكن ثمة ليبيين ينتظرون أن تصل أزمة بلادهم «محطة برلين» وتلقى اهتماماً حقيقياً من القوى الكبرى، مقابل مَن يرى أنه لا فائدة ترجى من ورائها. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قال عضو مجلس النواب أبو بكر بعيرة (النائب عن مدينة بنغازي) إن «السبب الأساسي في تعذّر التوصل إلى حل سياسي يرجع إلى غياب المعايير في مَن يفترض أن يتولى المناصب القيادية بالدولة. وبالتالي، أصبح كل مَن وصل إلى منصب ما، يتطلع إلى رئاسة ليبيا، فتعدّدت الرئاسات والحكومات ودخلت البلاد في متاهة».
وعلى الرغم من التحركات الدولية الوئيدة باتجاه البحث عن حلول لوقف الحرب، وإعادة الأفرقاء السياسيين إلى طاولة المفاوضات، نالت الأزمة الليبية بالأمس قسطاً وافراً من كلمات واجتماعات الرؤساء والزعماء أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. إذ تطرقت في مجملها إلى ضرورة تكثيف العمل المشترك والجهود الدولية سعياً للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تعيد الاستقرار والأمن وتقضي على الإرهاب في ليبيا.
وباتجاه تحريك الأزمة باتجاه طاولة التفاوض مجددا تمحوَر لقاء فريديريكا موغيريني، الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية، بفائز السراج، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة. ونقلت إدارة التواصل والإعلام للمجلس الرئاسي، عن موغيريني قولها إن الجهود الأوروبية تنصبّ في اتجاه العودة للمسار السياسي، «ورفض الاتحاد الأوروبي الهجمات التي تطال المدنيين وأي خرق لقرار مجلس الأمن بحظر السلاح».
وكان السفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند قد التقى حفتر، في زيارة غير معلنة إلى أبوظبي، تناولت التباحث حول الأوضاع العسكرية الجارية على تخوم العاصمة طرابلس. ولم تفصح القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، عن تفاصيل هذا اللقاء مكتفية بالقول، إنه جاء «في إطار بحث الأوضاع العسكرية في ليبيا، وحرب القوات المسلحة على الإرهاب»، بجانب «تعزيز العلاقة بين الدولتين الليبية والأميركية». لكن السفارة الأميركية لدى ليبيا، قالت عبر حسابها على «تويتر»، إن اللقاء استهدف «مناقشة الأوضاع الراهنة في ليبيا، وإمكانية التوصّل إلى حلّ سياسي للصراع في البلاد».
وبموازاة الدعوات التي تنادي بالعودة إلى الحوار، رأى النائب بعيرة أنه «لا يمكن العودة مرة أخرى للحلول السياسية ما لم يتدخل المجتمع الدولي بقوة لفرض ذلك على الجميع... وهذا أمر بعيد الاحتمال، والأقرب هو أن تنقسم ليبيا إلى دويلات متعددة».
تقاسم الثروة
من جانب آخر، تتزايد الأصوات المنادية بأن التوزيع «غير العادل» للثروة في ليبيا من بين أسباب أزمات البلاد، وهو ما أكد عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بدعوته خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى معالجة «الخلل الفادح» في مواضيع عدة، من بينها «توزيع الثروة والسلطة في ليبيا، وغياب الرقابة الشعبية من خلال ممثلين منتخبين من الشعب الليبي على القرار السياسي والاقتصادي في البلاد، مع ضرورة توحيد المؤسسات الوطنية كافة».
وفي المسار نفسه، رأى السفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، الذي أبدى استعداد بلاده لتقديم مزيد من الدعم الفني والخبرة لمعالجة القضايا المتعلقة بتوزيع الثروة في البلاد، أن «هناك فجوة كبيرة» لا تزال قائمة بين الأطراف في ليبيا لتحسين شفافية وفاعلية مؤسسات الدولة الليبية.
نورلاند، التقى ونائب مساعد وزير الخزانة الأميركي إريك ماير، كبار المسؤولين من جميع أنحاء ليبيا الأسبوع الماضي بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة وليبيا وتعزيز الانتعاش الاقتصادي الليبي لصالح جميع الليبيين. وقالت السفارة، إنه بـ«التشاور مع شركائنا الليبيين، أبدت الولايات المتحدة استعدادها لتقديم مزيد من الدعم الفني والخبرة لمعالجة القضايا المستفحلة التي تعيق توزيع الميزانية، وضمان استفادة جميع الليبيين من الثروات الطبيعية الهائلة في البلاد».
هذا، وكانت ليبيا تنتج في عام 2010، أي قبل سقوط القذافي نحو 1.6 مليون برميل يومياً، لكن الإنتاج تراجع بشكل حادٍ بعد الإطاحة بنظامه، وتراوح بين 20 و600 ألف برميل يومياً، على أقصى حد، قبل أن يتعافى ليصل إلى 800 ألف وليتجاوز في الأشهر الماضية، لأول مرة، عتبة المليون برميل يومياً. ومعلوم أن لكل من إيطاليا وفرنسا مصالح في النفط والغاز الليبيين، وتثار ضدهما اتهامات أيضاً بمساندة أنصار لكل منهما يشاركون في الصراع. وحقاً جمعت الدولتان حفتر والسراج في قمتين استضافتهما باريس وبالرمو (صقلية – إيطاليا) العام الماضي، لكنهما فشلتا في إحراز تقدّم.
لجنة تحقيق أممية
ومع تبادل الاتهامات بين حكومتي شرق ليبيا وغربها، على خلفية تراجع الأوضاع الاقتصادية، دعا السراج عبر منبر الأمم المتحدة إلى إرسال بعثة أممية لتقصي الحقائق للتحقيق فيما سماه بـ«التجاوزات المالية الخطيرة التي ترتكبها المؤسسات الموازية غير الشرعية في ليبيا، وطباعتها العملة خارج سلطة ونظام إصدار العملة». كذلك طالب بضرورة الإسراع بتكليف لجنة فنية من المؤسسات الدولية المتخصّصة وتحت إشراف الأمم المتحدة، لمراجعة أعمال المصرف المركزي في طرابلس وفرع المركزي في البيضاء (شرق البلاد).
إلا أنه قبل أن تحطّ طائرة السراج على التراب الليبي، كانت الانتقادات الحادة في انتظاره؛ إذ رأت إدارة مصرف ليبيا المركزي في بنغازي أن حديث السراج عن طباعة العملة خارج سلطة ونظام إصدار العملات «ينمّ إما عن جهل بقانون المصارف، أو عن تعمد تضليل المجتمع الدولي»، ولا تليق بمن لديه من المعلومات ما يكفي لقول عكس ذلك. وذهب مصدر من شرق ليبيا، إلى أن «طلب السراج أمام محفل دولي بتشكيل لجنة أممية للتحقيق في المخالفات الاقتصادية، تعدّ إذناً رسمياً بالتدخل في شؤون ليبيا». واستغرب المصدر الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» مما سماه تهرّب رئيس المجلس الرئاسي من تحمّل مسؤوليته بالتصدي للفساد في المؤسسات التابعة لسلطته»، وانتهى إلى أن «التقارير التي صدرت عن جهات رقابية تابعة للسراج خلال السنتين الماضيتين تحدثت عن مخالفات مالية جسيمة، وجرائم تربح من المال العام».
تكسير عظام
على صعيد آخر، بموازاة المبادرات الدولية للبحث عن حلٍّ للأزمة الليبية، تراوح الحرب على أطراف طرابلس بين هدوء وتصاعد؛ لكن مصادر عسكرية ترجح كفة «الجيش الوطني»، الذي قالت إنه وضع يده على قرابة نصف مساحة العاصمة، إذا ما نظرنا إلى الدعم العسكري الذي تتلقاه قوات «الوفاق» من تركيا. وتشدد المصادر نفسها على أن الجيش بات يضع يده على 75 في المائة من الأراضي الليبية، بالإضافة الموانئ النفطية وأغلب الحقول، إلى جانب امتلاكه 9 قواعد عسكرية على طول البلاد؛ مما يعزز من سيطرة الجيش على الأجواء الليبية.
وفي المقابل، مع تمكن الدفاعات الجوية التابعة للجيش من إسقاط عدد من الطائرات المسيّرة في مناطق عدة بالضواحي الجنوبية لطرابلس، تقول عملية «بركان الغضب» التابعة لقوات «الوفاق» إنها هي الأخرى تحقق انتصارات في أرض المعركة. وأمام تمترس القوتين خلف ما تقول إنها مكتسبات حققتها على الأرض، يرى ساسة وحقوقيون أنه لا سبيل ولا حل للأزمة إلا من خلال الحوار والمفاوضات باعتبارهما الحل الأمثل. وحقاً، قال أحمد عبد الحكيم حمزة، رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، أن «الخيار العسكري مكلف وثمنه باهظ». وأردف أنه «بعد مضي قرابة ستة أشهر على اندلاع الحرب، نقف اليوم على كلفه باهظة الثمن من ضحايا وجرحي ومصابين من جميع أطراف النزاع المسلح، بالإضافة إلى حجم التدمير والسرقات الكبيرة التي طالت ممتلكات المواطنين جراء المواجهات المسلحة مما ساهم في تأزم الوضع الإنساني والمعيشي».