عقب نجاح فيلم «تيتانيك» الذي جلب له الشهرة عالمياً عام 1997، أسّس الممثل الأميركي ليوناردو دي كابريو منظمة غير ربحية تحمل اسمه، تهدف إلى تعزيز الوعي البيئي حول قضايا مثل الاحتباس الحراري والتنوع الحيوي والطاقة المتجددة. وطيلة السنوات الماضية، أبدى دي كابريو التزاماً لافتاً في هذا المجال، فدعم نشاطات الكثير من المنظمات البيئية، وأنتج مجموعة من الأفلام الوثائقية المهمة، من بينها فيلم «الساعة الحادية عشرة»، الذي يصوّر علاقة الناس بالطبيعة والاحتباس الحراري، وفيلم «قبل الفيضان» الذي يتناول مختلف جوانب تغيُّر المناخ العالمي.
بعد نحو عقد من الزمان على فيلمه «الساعة الحادية عشرة»، عاد دي كابريو مع المخرجة ليلى كونرز لإنتاج فيلم يؤكد على خطورة المشكلة، التي لا يزال كثير من السياسيين يحاولون تجاهلها وينكرون مخاطرها. فيلم «جليد على نار»، الذي بدأ عرضه قبل أيام، لا يكتفي بتناول مظاهر التغيُّر المناخي وأسبابه وآثاره، بل يناقش أيضاً الحلول المتاحة لمواجهته.
وفي حين تضمن فيلم «الساعة الحادية عشرة» مشاركة عدد كبير من السياسيين والعلماء والناشطين، بمن فيهم الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، وعالم الفيزياء الراحل ستيفن هوكينغ، والناشطة البيئية وانغاري ماثاي، اكتفى دي كابريو في فيلمه الأخير بشهادات علماء فاعلين في تسجيل انبعاثات غازات الدفيئة ورصد مظاهر تغيُّر المناخ. وخلص إلى الدعوة، في نهاية الفيلم، للإصغاء إلى ما يقوله العلماء، فنحن «أول جيل يشاهد عواقب تغيُّر المناخ، وقد نكون آخر جيل يستطيع عكس آثاره».
يبدأ فيلم «جليد على نار» بمشاهد جوية متعاقبة تصوّر ذوبان الجليد في الأراضي الصقيعية على محيط الدائرة القطبية الشمالية وضمن الأنهار الجليدية، ثم يتناول قياسات تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو وتغيرّها منذ بدء النهضة الصناعية العالمية قبل نحو 250 عاماً.
ويستشهد الفيلم بالمعطيات التي يعرضها بيتر تانس، رئيس الشبكة المرجعية العالمية للغازات الدفيئة، مؤكداً أن «العالم عرف زيادة في تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو مقدارها 80 جزءاً في المليون خلال ستة آلاف سنة. قبل النهضة الصناعية، كان التركيز 280 جزءاً في المليون، في حين أصبح التركيز حالياً نحو 410 أجزاء في المليون، وهذا بكل تأكيد ناتج من النشاط البشري».
ويوضح جيم وايت، أستاذ الجيولوجيا في جامعة كولورادو، تأثير زيادة الكربون في الجو على ارتفاع حرارة المحيطات وذوبان الجليد العالمي، حيث يشير إلى أن «ارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون إلى 600 أو 700 جزء في المليون سيؤدي إلى ذوبان الجليد في جميع أرجاء العالم، وسوف ينتج من ذلك ارتفاع منسوب المياه في البحار بمقدار 80 متراً. ويبدو أننا نندفع في هذا الاتجاه».
التغيرات التي نشهدها في الجليد القطبي تطال نظام الطقس العالمي؛ إذ إن ما نراه في القطب لا يبقى هناك. والأمر ليس مجرد ذوبان بعض الجليد القطبي، كما يرى بيتر وادامس، رئيس مجموعة فيزياء المحيط القطبي في جامعة كامبردج، بل هو ذوبان مناطق واسعة وتغير في سماكة الجليد من أمتار عدة إلى سنتمترات عدة.
ووفقاً لـوادامس «تحوّل المحيط القطبي من قارة متواصلة من الجليد إلى مساحات مائية في الصيف. وفي حين يحصل الاحترار القطبي بسرعة تزيد ثلاثة أضعاف على ما يحصل في باقي العالم، فإن فوارق الحرارة مع المناطق الدافئة تتناقص؛ مما يتسبب في إضعاف تدفق التيار الهوائي في طبقات الجو العليا، وجعله أكثر تموجاً. وينتج من ذلك اختلال في الأحوال الجوية العالمية وحوادث مناخية متطرفة تترك آثارها الكارثية في كل مكان، ولا سيما في أهم مناطق إنتاج الغذاء العالمي».
ويوماً بعد يوم، تزداد القناعة حول حتمية الاختلال المناخي الناتج من ازدياد انبعاثات غازات الدفيئة؛ إذ لم يعد التساؤل حول إمكانية حصول الظواهر المناخية المتطرفة، بل أصبح عن مكان وموعد حصولها. كما يتسبب الاختلال المناخي بتراجع التنوع الحيوي في كل مكان، حيث من الثابت وجود ارتباط بين دورة الكربون في الجو ونسيج الحياة على الأرض. ويشهد العالم حالياً انزياحاً في مواطن الكائنات الحية إلى مناطق كانت تعدّ سابقاً أكثر برودة؛ مما يتسبب باختلال أحيائي عالمي.
وتؤثر السياسة ومصالح رجال الأعمال في قدرتنا على مواجهة هذه التحديات البيئية. ويرى الإعلامي الأميركي توم هارتمان أنه «لدينا مجموعة من الناس تستفيد حرفياً من تدمير الحياة على كوكب الأرض. ويعلم بعض منكري التغيُّر المناخي أكثر من غيرهم، ولا سيما أولئك الذي يحصلون على التمويل، حجم الجريمة التي يجري ارتكابها ضد الإنسانية. هؤلاء تجب محاكمتهم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي».
ويتابع فيلم «جليد على نار» عرض شهادات العلماء حول تغيُّر المناخ، كما يتناول ظاهرة ارتفاع نسبة غاز الميثان في الجو وتأثيرها الخطير في ازدياد الاحتباس الحراري. ولا تزال أسباب هذه الظاهرة مدار نقاش علمي واسع، حيث يرى كثيرون أن ذوبان جليد المناطق الصقيعية يتسبب في تحرير الميثان المحتجز تحتها منذ آلاف السنين.
وتؤكد موجة الحرائق التي اجتاحت الدائرة القطبية خلال الأسبوع الماضي ما ذهب إليه فيلم «جليد على نار»، حيث رصد العلماء انبعاث كميات وفيرة من غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان كانت محتجزة في الأراضي الصقيعية منذ آلاف السنين. وتشير هذه الحرائق إلى ما يجب توقعه في عالم تزداد حرارته يوماً بعد يوم، وتتوفر فيه الظروف لإطلاق مزيد من الكربون في الغلاف الجوي، ولا سيما مع استقرار الكثير من المواد المعلقة الناتجة من الحرائق على سطح الجليد؛ مما يتسبب في تعتيمها وتسريع ذوبانها.
ويدعو معدّو الفيلم إلى تبني إجراءات جماعية عاجلة لتحقيق أهداف باريس المناخية، كالحد من استخدام الوقود الأحفوري والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة وزراعة الأشجار على نطاق واسع. وفيما تبدو الخيارات السابقة موضع إجماع علمي واسع، فإن الخيارات الأخرى التي يؤيدونها، وهي تقع تحت مفهوم هندسة المناخ وعكس الانبعاثات، لا تزال قيد الاختبار وتستوجب مزيداً من البحث في آثارها الجانبية، التي قد لا تقل خطراً عن تغير المناخ ذاته.
في مشهد مؤثر من الفيلم يتسبب ثقب الجليد في إحدى المناطق الباردة في تحرير كمية من الميثان تكفي لإشعال النار فوق الثلوج. ربما يرى البعض في هذه التجربة البسيطة التي عرضها الفيلم توضيحاً للعنوان الذي يحمله، لكن ما يريد الفيلم إيصاله هو أن جليد العالم، بل العالم، مهدد بنار التغيُّر المناخي.
فيلم «جليد على نار»... عندما يكون الواقع أخطر من الخيال
فيلم «جليد على نار»... عندما يكون الواقع أخطر من الخيال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة